في العام 2006 وبينما كانت المواجهات المسلحة في الجنوب اللبناني على أشدها بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي حزب الله، وفيما كانت دفقات الصواريخ المدمرة تنطلق من وإلى قرى وبلدات الجنوب، خرج الأمين العام للحزب «حسن نصر الله» في خطاب تاريخي ليهدد بأن صواريخه ستصل «إلى حيفا، وإلى ما بعد حيفا»، يومها تحول الرجل بلحيته السوداء ونظرته النارية وصوته الجهوري إلى أيقونة للمقاومة و رمزًا صافيا للتحدي والصمود في وجه العدو – الأوحد حينذاك – للشعوب العربية، إسرائيل.عشر سنوات أو تقل قليلا هي ما فصلت بين خطاب الرجل ذاك وخطابه في يوليو 2015، وفيما كان الأخير بمناسبة «يوم القدس»، أبقى الرجل على تأكيده بأن غايته هي القدس كما كانت دومًا، لكنه فيما يبدو قد وجد إليها طريقًا أخرى لا تمر عبر حيفا بالضرورة، أعلن الرجل أن «طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة » وقد كان يشير إلي مناطق سورية تشهد معارك طاحنة يشارك فيها مقاتلو حزبه ضد قوات المعارضة السورية المسلحة المتمردة على نظام حليفه بشار الأسد.


كيف برر حزب الله «المقاوم» لأنصاره تدخله في الجحيم السوري ؟

بالتوزاي مع تزايد الانخراط العسكري والميداني للحزب في الحرب السورية، كان ثمة تدرج في الخطاب الدعائي إزاء الأزمة، فما بين اندلاع الثورة في مارس/ آذار 2011 وحتى يناير كانون الثاني 2012، عمدت الماكينة الدعائية للحزب إلى استثمار «رأسماله الرمزي» الذي كونه بين الشعوب العربية والمسلمة لتاريخه في مقاومة إسرائيل، فأخذ يدافع عن نظام الأسد ويتحدث عن مؤامرة خارجية لاستهدافه، كما عمد إلى التقليل من شأن التظاهرات أو إنكارها، ونفي وجود أي انتهاكات تقوم بها قوات النظام ضد المحتجين،أو انشقاقات في صفوفها.وفيما بين شهري فبراير 2012-أغسطس 2012، بدأت لهجة الأحداث تتغير مع تسارع الأحداث ميدانيًا، فعملت أبواق الحزب – إلى جانب التأكيد على النقاط السابقة – على التمهيد لمشاركة الحزب في الحرب الدائرة، فتحدثت عن حرب ضد الأسد لأنه دعم الحزب في حرب تموز 2006، واعتبرت أن الانتفاضة القائمة هي حرب ضد «محور المقاومة والممانعة بأسره» وليس ضد النظام السوري فقط.بدأت بعد ذلك مرحلة جديدة في خطاب الحزب، فازداد حديثه عن مؤامرة «سعودية – قطرية – تركية» لتقويض الدولة السورية، ولم يغِب الحديث – بالطبع – عن دور أمريكي إسرائيلي في المؤامرة المزعومة، مع تلميحات وتصريحات دورية تشير إلى العلاقات السرية والعلنية لهذه الأطراف مع تل أبيب، وفي تلك الفترة كان حضور جبهة النصرة يتزايد في الميدان، فعمد الحزب إلى الإكثار من الحديث عن وجودها بوصفها «تهديدًا إرهابيًا» لسوريا ولبنان، كما تزايد الحديث عن تدخل الحزب في الحرب الدائرة، وإن بقي هذا التدخل يدور في إطار موضعي متعلق بتأمين خطوط إمدادات الحزب من إيران إلى لبنان عبر الأراضي السورية، وحماية الداخل اللبناني من خطر «الإرهابيين» إضافة إلى توفير الحماية للبنانيين المقيمين في سوريا.

صعّد الحزب من لهجته عقب انطلاق عملية «عاصفة الحزم» بقيادة سعودية ضد مواقع الحوثيين في اليمن، وتحدثت تقارير- لم يتم التأكد من صحتها – عن مقاتلين للحزب في الأراضي اليمنية لمساعدة الحوثي، إضافة إلى اعترافات بوجود في العراق لمساندة مليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران في قتالها ضد تنظيم الدولة، اعتبر الحزب العمليات العسكرية السعودية عدوانًا على الشعب اليمني وانتهاكا لسيادته، في حين أبدى ترحيبًا غير محدود بالتدخل العسكري الروسي في سوريا. وفّر ظهور «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش»، وصعود أسهمه سوريا فرصة ذهبية لحزب الله لتعزيز سرديته القائلة بأنه ما تدخل في سوريا إلا لقتال «التكفيريين والإرهابيين»، ورغم أن ساحات القتال لم تعرف كثيرًا من المعارك المباشرة بين التنظيمين، إلا أن الآلة الإعلامية للحزب كثيرًا ما استثمرت وجود داعش لتبرير انخراطها في الحرب، واستفادت منها على أكثر من مستوًى، فداخليا استخدم هذا الخطاب في تعبئة أنصار الحزب وحشد عناصره انطلاقا من اعتبارات طائفية ومذهبية، كما عمد حلفاء حزب الله من مسيحيي لبنان إلى اعتبار قتال الحزب في سوريا حماية لوجودهم من خطر التهجير، إضافة إلى تسويق الحزب لنفسه دوليًا كقوة فاعلة في الحرب ضد «الإرهاب» و الادعاء المستمر بوجود دور سعودي – قطري – تركي في إيجاد واستمرار تنظيم الدولة.


حزب الله يغوص تدريجيًا في مستنقع الحرب

http://gty.im/476090996

بموازاة التدرج الدعائي في خطاب الحزب تجاه المسألة السورية، مر الانخراط العسكري للحزب في المعارك بتدرج مماثل، بدأ بدفع الحزب بمقاتليه إلى بعض المناطق الحدودية داخل الأراضي السورية لحماية مستودعات الأسلحة التابعة إليه، والتي خزنها في الأراضي السورية لحمايتها من القصف الإسرائيلي،أو لمنع تسلل منشقين عن القوات النظامية السورية أو ناشطين معارضين، ومع تزايد الانشقاقات في صفوف قوات النظام وسيطرة المعارضة على مناطق عدة، بدأت الأحاديث تتواتر عن مشاركة الحزب في المعارك الدائرة.

في النصف الأول من العام 2012،بدأت الجنائز تتحدث بما تنكره الألسنة، شهدت تلك الفترة تشييع الحزب لمقاتلين عدة قال الحزب إنهم كانوا يؤدون «الواجب الجهادي»، هكذا وبدون تحديد، ومع نهاية العام، كان الحضور العسكري للحزب قد أخذ جانبًا علنيًا، كان مقاتلوه يعملون كمستشارين لقوات النظام المهلهلة وغير المدربة على حرب المدن، وساهم الحزب مع الإيرانيين في تأسيس وتدريب وتنظيم قوات «الدفاع الوطني»، كما عمل مقاتلو الحزب على تعزيز جبهات القتال، ووفروا دعمًا معنويًا لقوات النظام المنهارة على أكثر من صعيد، وبحسب تعبير أحد السوريين «لم يكن الأسد في كثير من المعارك بحاجة إلى مقاتلين أكثر، كان بحاجة إلى مقاتلين يثق بهم»، أخذ الخطاب الدعائي للحزب في تلك الحرب بجانب الشق السياسي المتعلق بالدفاع عن الأسد والممانعة، شقًا مذهبيًا، فجرى الحديث عن تهديدات للأضرحة الشيعية في محيط دمشق، وخاصة مقام السيدة زينب، وانتشرت في تلك الفترة النداء الشهير، «لن تسبي زينب مرتين».كانت معركة القصير هي أولى معارك الحزب الكبرى في الحرب السورية، تقع مدينة القصير في منطقة القلمون، على الحدود بين سوريا ولبنان، على الخط الواصل مع دمشق ، وقد كانت تسيطر علىها قوات المعارضة، وفي منتصف العام 2013، قاد الحزب معركة ضارية للسيطرة على تلك المنطقة، مدعومًا بطيران النظام ومدفعيته، وتمكن في النهاية من انتزاع السيطرة علىها.لم يعد يخفي الحزب مشاركته الواسعة في الحرب، خاض مقاتلوه معارك في دمشق وحمص وحلب واللاذقية و درعا وغيرها، لكن معاركه الأساسية تتمثل في المناطق الحدودية، خاصة في القلمون وجرود عرسال، وهذا هي المناطق الأهم له من ناحية، كما أن تركيزه على تلك المناطق أعطى النظام الفرصة للتركيز على مناطق أخرى، مطمئنا إلى قدرة الحليف على تولي أمر تلك المناطق.


حزب الله والأسد: تحالف المضطر مع المضطر

http://gty.im/136740334

يمكن تحديد أهداف حزب الله من التدخل في سوريا بالتالي: الحفاظ على سوريا داخل ما يصطلح على تسميته محور الممانعة، أي المحور الموالي لإيران والمعادي لإسرئيل، رأي الحزب أن من شأن سقوط النظام أن يؤول إلى أحد احتمالين: إما أن تحل محله حكومة من الجهاديين الذين دأب على وصفهم بالتكفيريين، والذين سيتخذون موقفاً أقل تسامحًا مع إيران، وإما تأتي حكومة سنية «معتدلة» موالية للمملكة العربية السعودية ومعادية لإيران أيضا، في الحالتين كانت خسارة الحزب لسوريا يعني خسارة الكثير، وكان نصر الله ورجاله يرون في دفاعهم عن الأسد دفاعًا عن أنفسهم في المقام الأول.في خطابه عام 2013، وصف نصر الله سوريا «بالعمود الفقري»، مثلت المساعدات الإيرانية العسكرية والمالية شريان حياة بالنسبة للحزب، كانت تلك المساعدات تمر عبر سوريا، إذا فقد الإيرانيون حرية العمل في الأراضي السورية، فسيعاني الحزب كما لم يعانِ من قبل، لم تكن سوريا مجرد ممر، من إيران إلى العراق إلى سوريا إلى الضاحية، بل تشير التقارير كذلك إلى وجود معسكرات تدريب، ومخازن أسلحة للحزب داخل الأراضي السورية، كانت سورية تمثل أرضًا ذات سماء محمية للحزب، في الوقت الذي كانت فيه معاقل الحزب في لبنان عرضة للاختراق من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي.أما ما الذي يمثله حزب الله بالنسبة لسوريا: مقاتلون عرب يتحدثون العربية – وهي نقطة تفوق عن الإيرانيين والأفغان – خاضوا حروبًا سابقة، منضبطين لا ينخرهم الفساد، متدربون على حرب العصابات بعكس الجيش العربي النظامي السوري الذي كان نظريًا متدربًا على حرب كلاسيكية لا حرب عصابات، وعمليًا ليس متدربًا على أي شيء.


المكاسب والخسائر: فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرًا

استثمرت الآلة الإعلامية للحزب وجود داعش لتبرير انخراطها في الحرب، واستفادت منها على أكثر من مستوًى، داخليًا للحشد، وخارجيًا لاكتساب الشرعية الدولية.

حقق التدخل العسكري في الحرب السورية بعض المكاسب لحزب الله، فقد أمن التواصل الجغرافي بين إيران – حيث داعمه الرئيس – وبين لبنان – حيث دولة المركز للحزب – عبر العراق وسوريا، خاصة بعد خلق مساحات خالية من الديمغرافيا السورية مع حدود لبنان، وبذلك ضمن الحزب قدرته على مواجهة أي محاولة للاسئصال أو الحد من النفوذ، كما كرس هذا دوره لبنانيًا كمدافع عن حدود لبنان، في وجه إسرائيل جنوبًا أو في وجه «الجماعات المسلحة» السورية، وقد ضمن بذلك اعترافًا دوليًا خاصة من الولايات المتحدة، إذ نُظر إلى تدخله في سوريا على أنه ضمانة لمنع تمدد «الإرهاب» القادم من سوريا إلى لبنان.

فضلا عن الخسائر البشرية، فإن الخسارة السياسية والأخلاقية هي الأكبر، يخوض حزب الله معاركه بلا حاضنة شعبية، فحجم الأغلبية السورية التي يحارب ضدها لن تفنى لا بالقتل ولا بالتهجير.

لكن حتى المكسب الداخلي اللبناني ليس مطلقًا، بل يمكن اعتبار أن الحزب قد خسر داخليا بقدر ما كسب إن لم تكن خسارته أكبر، تعرض الحزب لانتقادات من داخل الطائفة الشيعية نفسها، بل أشارت تقارير إلى تململ داخل صفوف الحزب نفسه من الحرب وتكاليفها، وأن نسبة معتبرة من مقاتليه يرونها حربًا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، هذا فضلا عن التفجيرات التي صارت تضرب الضاحية الجنوبية وغيرها من المناطق اللبنانية بين حين وآخر، وهو ما يُقرأ في النهاية كانعكاس للحرب السورية على الداخل اللبناني، ويظهر تدخل الحزب العسكري في أراض خارجية كأحد أسبابه.ليس لدينا إحصاءات موثقة عن عدد ضحايا حزب الله في الحرب السورية، لكن التقديرات تشير أنهم بالمئات إن لم يكن أكثر، أضِف إلى هؤلاء عددًا أكبر من الجرحى أو ذوي الإعاقات الدائمة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدد مقاتلي الحزب هم بالآلاف، وأن الجبهة السورية هي جبهة مفتوحة الأجل، وليس للمعارك فيها بداية ونهاية كتلك التي خاضها ضد إسرائيل، يمكننا أن نتصور المدى الذي يمكن أن تؤثر به تلك الخسائر على موارد الحزب البشرية وقدراته القتالية في المستقبل.وفضلا عن الخسائر البشرية الآنية، فإن الخسارة السياسية والأخلاقية هي الأكبر، يخوض حزب الله معاركه في سوريا بلا حاضنة شعبية حقيقية، فحجم الأغلبية السورية التي يحارب ضدها لن تفنى لا بالقتل ولا بالتهجير،وسيصبح هؤلاء – مهما تكن نتيجة الحرب – خصمًا إستراتيجيًا له على المدى الطويل، كما أنه لا يمكن الجزم بأن الكتل البشرية المؤيدة للأسد هي صديقة له بالضرورة، فهو بالنهاية حزب عقائدي ديني يرتكز على المذهب الشيعي الإثنا عشري، ويؤمن بولاية الفقيه، ولا تتوفر لتلك الأفكار الكثير من القبول في الديمغرافية السورية، وقد سُجلت مؤخرا اشتباكات بين قوات النظام ومقاتلي الحزب على خلفية اتهامات متبادلة بالخذلان في معارك ضد الجيش الحر بريف حلب، أوقعت تلك المعارك قتلى وجرحى، و سلطت الضوء – للمرة الأولى ربما – على أن مكونات «تحالف الضرورة» في سوريا ليست بذلك التجانس، وأن وجهات النظر قد تفترق في كثير من الأحيان إلى ما يصل لحد الاقتتال.خسر الحزب في سنوات قليلة «رأسماله الرمزي» الذي بناه بين جماهير الأمة العربية والإسلامية، والذي استغرق في بنائه عقودا من الزمن، وبعد أن كان يُنظر إليه – شعبيًا على الأقل- كحزب مقاوم ويُنظر إلى زعيمه «نصر الله» كبطل شعبي يحبه أهل اليسار واليمين على السواء،سنة كانوا أم شيعة، بات لا يُرى اليوم إلا كحزب طائفي، حارب في سوريا أكثر مما حارب في غيرها، ربما يكون نصر الله مقتنعًا بما قال فعلا، ربما يرى أن ثمة طريقًا خفيًا للقدس يمر بالقلمون والزبداني وسائر الجغرافيا السورية، لكن الأكيد أن الجماهير العربية -من غير المرتبطين بمحور الحزب وداعميه في إيران- لا تري ذلك الطريق، ولم يعد يهمها حتى أن يصل الحزب إلى القدس أو إلى غيرها، طالما كان الوصول على الأشلاء السورية.