ثمان سنواتٍ مرت على رحيل أمير الدراما المصرية والعربية الأشهر «أسامة أنور عكاشة» الذي غذّى بقلمه وأفكاره وكتابته وجدان المصريين، وكتب ملاحم درامية لا يزال الناس يتحاكون بها وبجمالها وحكايات أبطالها، منذ أن كتب «ليالي الحلمية» في تسعينيات القرن الماضي حتى آخر أعماله الدرامية «المصراوية» عام 2009، كل ذلك جعله علامة بارزة وعلمًا هامًا في الدراما المصرية.

تأتي المفارقة أن تكون آخر إصداراته الأدبية التي صدرت منذ عشر سنوات تتناول أحداثًا لا تزال الكثير من المسلسلات المصرية تدور حولها، وتتناول فكرتها بطرقٍ مختلفة، ألا وهو موضوع مواجهة الصحافة لسيطرة ذوي النفوذ والسلطة والقوة من رجال الأعمال، تلك الظاهرة التي بدأ الكثير من الصحفيين والكتّاب في رصدها والحديث عنها مع انتشار قضايا الفساد التي أخذت تنهش في كيان النظام المصري حتى كانت سببًا من أسباب الإطاحة به كله في يناير 2011.

على خلاف ما اعتدنا عليه من «أسامة أنور عكاشة» من حكايات درامية تشرِّح المجتمع المصري بطبقاته المختلفة وتكشف أصوله وخباياه وتغيراته، سيجد القارئ في «سوناتا لتشرين» عالمًا آخر غير بعيدٍ عن مصر وما يجري فيها، ولكنه عالم خاص مختلف، يتسيّد فيه الأقوياء وأصحاب النفوذ والسلطة ويلعبون بمصائر الناس لا سيما من يقتربون منهم ويسعون جاهدين للكشف عن حقيقتهم، وما يدور داخل أروقة غرفهم المغلقة من مؤامرات وصراعات يديرونها في الخفاء كي تبقى لهم مناصبهم ومراكزهم ولا تتأثر عروشهم مهما طالهم من سهام النقد والتجريح.


حيل روائية تغلف الحكاية

في مقدمة هذه الرواية يكتب «أسامة أنور عكاشة» اعتذارًا للقارئ عن غيابه عن الكتابة الأدبية، التي ابتعد عنها نحو ثلاثين عامًا، ثم جرفه الحنين للعودة، فكتب هذه الرواية ولكنه نهج فيها طريقًا مختلفًا، وسعى أن تكون جذابة شيقة يلتهمها القارئ بسهولة، كان ذلك من خلال أكثر من طريقة من طرق السرد لعل أبرزها تلك السطور التي استهل بها الرواية «لماذا تأتي الأشياء الصحيحة في الوقت الخطأ؟ ولماذا تتحقق الأمنيات بعد فوات الأوان؟» ثم يتسمر السرد في طريقه حتى تأتي حيلة «شريط الكاسيت» الذي يحكي فيها ذلك الصحفي حكايته كلها، وتستمع إليه الصحفية الشابة التي تعده أستاذها.

بطل الحدوتة في حكايا الأمس البعيد التي كانت ترويها الجدة لينام على إيقاعها الأطفال كانت تتضمن دائمًا ذلك الموقف الذي يواجهه البطل عند مفترق طرق ثلاثة‏:‏ سكة السلامة‏، وسكة الندامة‏،‏ وسكة الضائعين‏،‏ وحيث تجلس أمنا الغولة رابضة على مدخل المفترق‏،‏ ولابد لكي تنال رضاها أن تبادئها بالسلام‏، فترد عليك‏:‏ لولا سلامك سبق كلامك لأكلت لحمك قبل عظامك‏! اذهب يا إنسي من هذا الطريق‏، وتشير له إلى سكة السلامة‏!‏ وأنت لم تفعل يا أخ أشرف! نسيت الوصية السحرية ولم تلقِ على القوم السلام‏، فأشاروا عليك جميعًا بالاتجاه نحو سكة الندامة،‏ وذهبت مغمض العينين‏،‏ لم تتبين ملامح الغيلان فيمن أحاطوا بك‏،‏ تقنعوا بملامح البشر‏.

استطاع «أسامة أنور عكاشة» أن يجذب القارئ لعالمه بسرعة وسهولة، لا سيما حينما تتكشف للقارئ تفاصيل تلك المؤامرة التي حيكت لذلك الصحفي «أشرف عفيفي» منذ سنوات، وما يدور في خفايا عالم الصحافة من مؤامرات وخطط للسيطرة على الإعلاميين والصحفيين وغير ذلك، ولكن الكاتب لا يستسلم لإغراء الحكاية الشيقة، بل يعتمد في سرده على تقنيات روائية خاصة، إذ يقسّم الرواية إلى فقرات مرقمة بعنوان «سوناتا لتشرين» ويقدم لكل فقرة منهم بحال البطل الصحفي بلغة شاعرية خاصة، وينوع في حكايته بين سرد البطل العليم للحكاية وبين السرد بضمير المتكلم الذي يجعل القارئ جزءًا من الحكاية متعاطفًا مع ما يدور فيها.

تتعدد الشخصيات في الرواية وتختلف، فنجد نموذج رجل الأعمال القوي القادر، في مواجهة ذلك الصحفي الذي كان يحلم بالكشف عن الفساد من جهة وتحقيق آماله وأحلامه في الصحافة من جهةٍ أخرى، فيما تبدو بعض شخصيات العمل الأخرى هامشية وثانوية تؤدي دورًا بسيطًا وتختفي فجأة، ولا يشغل الكاتب نفسه ولا قارئه بالغوص في تفاصيل أخرى قد يرى أنه لا علاقة للعمل بها، ولكنه يشير إليها من بعيد بطريقة ذكية تجعلها حاضرة في ذهن القارئ دون أن تشتت تركيزه عن شخصيات العمل الأصلية.

يتمثل «أنور عكاشة» شخصية بطله ببراعة، لا سيما وهو يهوى بعد أن تحطمت آماله وأحلامه، وانتهى أمره إلى صحفيٍ لا يجد له مكانًا، ويمعن في وصف شعور البطل بالغربة وتصوير شعور الهزيمة المرة التي لايهوّن من أمرها حضور تلك الفتاة الصحفية الشابة التي ربما تعده بالحب الذي جاء في غير أوانه!

تجدر الإشارة إلى أن «سوناتا لتشرين» نشرت في البداية مسلسلة في جريدة الأهرام من أواخر عام 2005 في عموده الأسبوعي «على الجسر» ثم خرجت إلى النور في طبعتها الأولى من دار العين عام 2008.


بين سوناتا لتشرين ودراما رمضان

أخرج من ربوعك بلا زاد يملأ فمي طعم الرماد ويخنقني ما ملأ صدري من دخان‏،‏ أيمم شطر البحر حيث توجد هناك -في مكان ما
صدفة أختبئ فيها‏..‏ ومن يدري؟ فربما صرت مع الأيام التي تتراكم حولي ذرات رمال‏،‏ ربما صرت لؤلؤة،‏ أضحكه الخاطر لدرجة الحزن لكنه وجد صدفته بلا جهد كبير‏،‏ واستقر في الشارع الجانبي الضيق الذي ينحدر نحو طريق الكورنيش على ضفة المتوسط الجنوبية‏!‏

ليس من شكٍ في أن توارد الخواطر والأفكار موجود دومًا، ولكن كانت مصادفة غريبة أن يكون بطل مسلسل «اختفاء» لنيللي كريم الذي يُعرض في رمضان هذا العام صحفي روائي واسمه «شريف عفيفي» قريب الشبه من اسم بطل رواية «سوناتا لتشرين» ويواجه أيضًا رجل الأعمال وصاحب السلطة والنفوذ «سليمان عبد المنعم» مما يؤدي إلى اختفائه.

كما وجدنا نفس الفكرة عند «عادل إمام» في مسلسل «عوالم خفية» الذي يعثر فيها الصحفي «هلال كامل» على مذكرات تكشف له عن فساد عدد من رجال الأعمال والمسؤولين في الدولة.

كما سبق أن قدم «طارق لطفي» في مسلسل «بعد البداية» من تأليف «عمرو سمير عاطف» عام 2015 فكرة الصحفي الذي يواجه بتحقيقاته رجال الأعمال ويكشف عددًا من قضايا الفساد لرجال الأعمال مما يدفعهم لمحاولة قتله.

وهكذا يبدو أن سوناتا لتشرين مهدت طريقًا لكتّاب الدراما والمسلسلات وإن كان ذلك بطريق غير مباشر، لكي يتناولوا فكرة مواجهة الصحافة لرجال الأعمال، وهي الفكرة التي يبدو أنها تجذب الكثير من المشاهدين والقراء على حد سواء للكشف عن حقيقة تلك الشخصيات من أصحاب السلطة والنفوذ الذين يحاطون بالكثير من السرية والغموض.