للتاريخ منابع ومصادر، يتتبعها المؤرخ بين ركام الروايات والوثائق والآثار فينقدها، ويستخرج منها ما يطمئن إلى أنه الحقيقة ولا شيء غيرها، لكن ثمة نمطًا آخر من الروايات صنعته الشعوب، وتتابعت ألسنة الناس عبر القرون زيادة عليه وتحويرًا، فظهرت لنا السير الشعبية برؤى أخرى فكأنها تاريخ من التاريخ!

عن الملاحم الشعبية:

وفي الثقافة العربية الإسلامية تتابع ظُهور مثل هذه السير والملاحم، فنجد سيرة السلطان بيبرس الشعبية، وسيرة “أبو زيد الهلالي” والزناتي خليفة، وروايات خيال الظل، وغيرها مما جسّد رؤية الشعوب لأبطالها في سرديات أو أزجال أو ملاحم، فكان تاريخًا اختلطت فيه الأسطورة بالحقيقة، والخيال مع الألم، والسحر مع المشقة، والبسمة مع البكاء، إنه تاريخ أراد الناس أن يكتبوه لأنفسهم، حتى إنهم صاروا يتفنّنون في إعادة بثّه فيما بينهم، فكانت أسمار الليالي مسرحًا لإعادة قصّ هذه الحكايا.

واللافت أن هذه الظاهرة إنسانية في المقام الأول، فلم تتقيّد بقُطر أو ثقافة أو قارة؛ حتى إنها شكّلت العقدي والحضاري في ذاكرة كثير من الشعوب وأفكارها، ففي العصور الإغريقية كوّنت الأساطير معتقد أولئك القوم، حتى استحالت الآلهة الإغريقية إلى بشر يُصارع بعضها بعضًا بحسب ثقافة تلك العصور، وفي الرواية السكسونية القديمة لشعوب الشمال الأوربي الوثنية مثل هذا الأمر وهكذا في كثير من الشعوب والأمم.

تقدم الرواية الشعبية فائدة مهمة لعوام الشعوب من غير المثقفين والنخب، ذلك أنها تُدمج هذه الطبقات الفقيرة في لب السياسي والعسكري والديني والثقافي بقدرة فذّة، فيتأثّرون بها، ويُؤثّرون فيها، وقد كانت “أنشودة رولان” الفرنسية التي شاعت في العصور الصليبية منذ القرن الحادي عشر الميلادي واحدة من هذه الملاحم الشعبية التي صاغت العقول الأوربية والإفرنسية بوجه خاص في أوج ذاك الصدام العسكري والديني!

الرواية التاريخية:

فمن هو رولان؟ وما قصة أنشودته؟ وماذا صنعت في ثقافة ورؤية الشعوب الصليبية للآخر المسلم قُبيل وأثناء الحروب الصليبية؟

بدأ الصدام العسكري الإسلامي بالغرب منذ مؤتة واليرموك في عصر النبي r، ولم ينته هذا الصدام حتى يومنا هذا، وبغض النظر عن أسبابه وآثاره، وموقف المؤرخين والباحثين منه شرقًا وغربًا، فإن المسلمين قد وصلوا إلى شبه القارة الإيبرية في جنوب غربي القارة الأوربية، وشرعوا في بسط سيطرتهم على تلك المناطق التي عُرفت فيما بعد باسم الأندلس.

ومنذ عام 92هـ تتابعت الغزوات الإسلامية من جنوب الأندلس حتى شمالها، ومن ثم التوغل في بلاد الغال شمال جبال البرانس (فرنسا اليوم)، حتى توقفت تلك الفتوحات في موقعة بلاط الشهداء الشهيرة في بواتييه على مقربة من جنوب العاصمة الفرنسية اليوم؛ ليحول هؤلاء الفرنسيون أمام المسلمين، ولتغلق أوربا وجهها بوجههم!

عقب ذلك، التحف الأندلسيون على أنفسهم بإثارة الفتن والنعرات بين العرب والبربر، حتى شهدت الأندلس في الأعوام العشرين الأخيرة من حكم بني أمية (112 – 132هـ) حربًا أهلية على زعامة تلك البلاد، ولم يكد يستقر في حكم الأندلس إلا يوسف الفهري بتوافق القبائل عليه، لكونه قرشي النسب، على أنهم عادوا يتنازعونه فيما بينهم.

سقط الحكم الأموي في دمشق، واستولى بنو العباس على حكم المشرق الإسلامي، وامتد حكمهم حتى تونس وشرقي الجزائر اليوم، وهرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان المعروف بالداخل إلى الأندلس فارًا بحياته من سيوف العباسيين، وظل هنالك يصنع لنفسه المكانة، وينتشر خبره ومكانته حتى بايعه الناس ليكون حاكمهم، فبدأ يرسّخ أقدامه منذ العام 138هـ، لكن ثمة هبّات وثورات من العرب والبربر على السواء كانت تتهاوش حكمه، وتنازعه سلطانه بين الفينة والأخرى.

ومن هذه الثورات، خروج ولايتي سرقسطة وبرشلونة عن طاعته؛ ففي حدود سنة 157هـ/773م وبينما الداخل منشغلاً في وأد ثورات البربر في جنوب الأندلس، اتفق حاكم سرقسطة الحسين بن يحيى الأنصاري وحاكم برشلونة وجيرونة سليمان بن يقظان الكلبي على الخروج عن طاعة الداخل، فصار الشمال الشرقي من الأندلس الأموية خارجًا عن قبضته فضلاً عن ثورات البربر في الجنوب.

اضطر الداخل إلى إرسال حملة عسكرية عاجلة لإعادة الأمور إلى نصابها بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي، فهزمه سُليمان وأسره وتفرّق جيشه سنة 158هـ/775م، فأعطى هذا النصر زخمًا للثورة في شمال الأندلس، لكن هذا الزخم جعل زعماءها يضطرون إلى الاستنجاد بالملك الفرنجي شارلمان أو كارل أو قارله كما تسميه المصادر العربية[1]؛ لأنهم أيقنوا أن الداخل أشد بأسًا وذكاءً منهم.

سار سليمان وتُسميه الرواية اللاتينية ابن الأعرابي مع نفر من صحبه الخوارج إلى لقاء شارلمان في ربيع سنة 160هـ/777م، وكان يومئذ يقيم بلاطه في مدينة بادر بورن في شمالي غربي ألمانيا اليوم، حيث كان يعقد جمعية كبرى لجموع السكسونيين المغلوبة بغية تعميدها للنصرانية، بعد أن هزمهم وشتّت شملهم، وفد سليمان وصحبه، وعرض على المليك الفرنجي التحالف على قتال عبد الرحمن الداخل، واقترح عليه سليمان غزو الولايات الأندلسية الشمالية، وتعهّد بمعاونته، وبأن يُسلمه المدن التي يحكمها وعلى رأسها سرقُسطة وبرشلونة، وأن يُسلّمه القائد العسكري الأسير ثعلبة بن عبيد، بل وأن يعلنوا له الخضوع والولاء[2]!

وافق شارلمان – وهو حفيد شارل مارتل هازم المسلمين في بلاط الشهداء – على هذا العرض المغري، علّه يتمكن أخيرًا من هؤلاء المسلمين، فيستأصل شأفتهم، ويُعيد الأندلس إلى قبضته بمباركة الكنيسة هذه المرة؛ ذلك أن غاية شارلمان كانت نصرانية صليبية في المقام الأول كما تُشير إلى ذلك الروايات اللاتينية التي وصفته بمنقذ نصارى ويهود الأندلس من ضغط الحكومة الإسلامية، فضلاً عن أطماعه التوسعية لضم الأندلس إلى مملكة الفرنجة لإيقاف أي خطر على فرنسا من المسلمين الأندلسيين.

وفي ربيع سنة 778م/161هـ جمع شارلمان قوّاته المؤلفة من فرنج نوستريا ومن الجرمان واللونبارد وفرق من بريتانيا وأكوتين، واخترق ولاية أكوتين في الجنوب الفرنسي، وقرّر أن يفتتح الغزوة الإسبانية توًا حتى لا يفاجئه الشتاء، وقسّم جيشه إلى قسمين، عبر أحدهما جبال البرنيه من الناحية الشرقية، وعبرها القسم الثاني بقيادة شارل نفسه من الناحية الغربية من الطريق الروماني القديم، بالقرب من مناطق رونسيفال الوعرة، وكانت الخطة تقضي بتجمّع الجيشين على ضفاف نهر الإيبرو أمام أسوار سرقُسطة حيث يلتقي شارلمان بحلفائه المسلمين.

اجتاز شارلمان بمنطقة نافار وهي المنطقة التي كان يسكنها البشكنس في أقصى الشمال الأندلسي، وكان البشكنس شعبًا قوياً صلبًا لم يرتض الانضواء تحت الحكم الفرنجي في الشمال وكذا الحكم الإسلامي في الجنوب، ولصلابة هذا الشعب، كان الخلفاء الأمويون في الأندلس يتزوجون منه من مولّدات بغية إخراج ذرية تتمتع بهذه الصلابة، وكان الخطأ الذي وقع فيه شارلمان أنه سيطر بقوة السيف على بنبلونة عاصمة البشكنس، ثم كانت المشكلة الأخرى، وهي رفض حاكم سرقسطة فتح أبواب مدينته أمام هذه القوات الضخمة لشارلمان، ربما لحنقه على تقدم سليمان الكلبي للزعامة، وربما خوفًا من الخيانة والقتل، وربما توبة وإنابة من ذنب الاستعانة بالفرنجة على المسلمين وبلادهم، الأمر الذي اضطر هذا الأخير إلى القبض على والي برشلونة سليمان الكلبي، ثم العودة بسرعة شديدة إلى الشمال، خشية أن يباغته الأمويون بهجوم قاصم في تلك المنطقة الوعرة، فضلاً عن سهولة قطع سبل الإمداد والتموين من الشمال، وزاد الأمر سوءًا أن جاءت أخبار من الشمال بأن السكسون قد خرجوا عن الطاعة، وخربوا وأحرقوا الأراضي حتى ضفاف نهر الرين[3].

وفي مقالنا القادم سنقف مع بقية الرواية التاريخية الإسلامية واللاتينية، ومع الظهور العلني لرولان ودوره في ذلك الانسحاب الفرنجي من الشمال الأندلسي، وأثر هذه الروايات على المخيّلة الشعبية الأوربية في سنوات الصدام الإسلامي الصليبي بداية من القرن الخامس الهجري عقب تلك المعركة بثلاثة قرون ونيف على الأقل!


* باحث في التاريخ والتراث

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5 /191، 236. تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي – بيروت، 1997م.

[2] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/ 169، 170. مكتبة الخانجي، الطبعة الرابعة – القاهرة، 1997م.

[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/172 – 176.


اقرأ المزيد:

مَن يكتبُ التاريخ؟! (1)