فيلم «سعاد» هو فيلم روائي طويل مصري تم إنتاجه عام 2020 من إخراج أيتن أمين، تدور أحداثه حول مثلث علاقات قائم بين الأخت الأكبر سعاد/ بسنت أحمد التي تقيم علاقة مع أحمد/ حسين غانم، ونتاج تلك العلاقة يكون موتها منتحرة، تظهر في الأحداث الشقيقة الصغرى لها رباب/ بسملة الغايش وتبني من جديد علاقة مختلفة مع أحمد صديق أختها.

قبل الولوج للفيلم وتحليله، هناك مثلث علاقات قائم يتشابه مع مثلث علاقات رواية وفيلم «دعاء الكروان» وهو فيلم مصري شهير تم إنتاجه عام 1959. يستند الفيلم  في الأصل على رواية بنفس الاسم للأديب طه حسين، حيث هنادي/ زهرة العلا التي تقيم علاقة مع المهندس/ أحمد مظهر ثم تموت قتلًا نتاج هذه العلاقة وتظهر في الأحداث الشقيقة آمنة/ فاتن حمامة وتقيم علاقة مع المهندس وتسير الأحداث على نحو آخر.

وذلك هو بداية التشابه بين العملين ذلك المثلث القائم على علاقة تتبعها علاقة أخرى مع الأخت وموت الشقيقة كعامل مشترك.

سعاد وأحمد

سعاد بطلة الفيلم الذي يبدأ بأول مشهد لها وهي تكرر لعبة تنفيسية يومية محاولة النجاة من الكبت عن طريق حكي مجموعة قصص متخيلة لمجاوريها في الميكروباص بين حيوات مختلفة تتمنى أن تكون بطلة أي منهم، ثم بالانتقال لمشهد آخر تلتقي فيه شقيقتها رباب أمام مدرستها، لتنكشف فيه لعبتها وأن حياتها غير ما سردته طوال الطريق بالميكروباص للركاب، بين حكايات عن خطيبها الضابط وأخرى عن علاقات متأزمة مع أهل الخطيب، وغيرها من الحكايات المتخيلة التي تتماهى معها في الطريق.

يعود ذلك لعدم التأقلم مع البيئة التي تنتمي لها ومحاولات اختلافها غير المجدية، وعدم وجود رجل في حياتها بشكل فعلي، وذلك يتضح في ما بعد بالدخول لتفاصيل حياتها التي تكشف وجود حبيبها في محافظة أخرى فهما لم يتقابلا من قبل وتقتصر علاقتهما حد مكالمات الهاتف، حتى العلاقة جنسية بينهما عن طريق الهاتف فقط، فهي حياة منقوصة تكملها بتخيلاتها التي تساعدها وتعينها أن تستمر.

ويعتبر مشهد الحكايات المتخيلة، هو مشهد تأسيسي وتعريفي للشخصية يظل مرجعية في ذهن المتفرج لأنه افتتاحية الفيلم، وحتى قبل نزول التترات، للتأكيد على أنه فعل أو لعبة مكررة تمارسها البطلة بشكل دائم. وذلك وفقًا لما ذكره سيجموند فرويد في كتابه «فوق مبدأ اللذة»(1):

إن إجبار التكرار لا بد أن يكون نتيجة ما هو مكبوت في اللاشعور

وأن ذلك التكرار رغم أنه يصدر كنوع من أنواع التنفيس عما هو مكبوت فإنه يسبب ألمًا لأنه في الوقت نفسه «يكشف عن نشاط الدوافع الغريزية المكبوتة» وذلك بالتوافق مع رصد الكاميرا لحال البطلة أثناء إقامة علاقة حميمة عبر الهاتف والكشف عن تلك الدوافع الغريزية المكبوتة لتوضح اللقطات الأولى تلذذها أثناء العلاقة، ثم يصحبها شعور بالذنب بعدها عن طريق بكائها، أي لذة مؤقتة يعقبها ألم، نابعة من مدى الكبت الذي تعانيه سعاد.

هنادي والمهندس

أما عن هنادي في «دعاء الكروان» فهي تلك البدوية التي لم تغير منها حياة المدينة شيئًا، التي جاءت من قريتها ريفية ساذجة بصحبة أختها آمنة ووالدتها زهرة لتعمل في خدمة المهندس في منزله، وبمجرد بعض محاولات من المهندس، وقعت كفريسة سهلة تحت يده، أي استسلمت لذكوريته وفقًا لما شعرت به من ضعف فلم تستطع المقاومة، كما أنه لم يأت مشهد واحد يتحدث عن مقاومة من هنادي لعرضه، أي أنه من المؤكد أن هنادي قد استسلمت له بشكل سريع دون أن يبذل مجهودًا شاقًا معها. وهذا ما تسبب في وقوع هنادي في حبه، حيث تمكن المهندس من فرض سيطرته عليها.

تلك الفتاة الفاقدة للأب، حيث إن سبب هجرة الثلاث نساء من موطنهن هو فقد الأب، بعد طردهن من قريتهن بعد موته بسبب أفعاله المشينة، فكانت تلك العلاقة نوعًا من أنواع البحث عن الأمان والاستقرار المفقود، أي استخدمت هنادي لا شعوريًا ما يعرف في علم النفس بأسلوب «التعويض»، الذي عرفه مؤسس علم النفس التحليلي كارل يونغ ومعه سيجموند فرويد أن تعويض نابع دائما من اللاشعور، وذلك حسب نشوان مهدي (2)”التعويض النفسي ودلالاته في رسوم تولوز لوترك” بأنها أفعال تصدر من الشخصية بشكل غير واع لاسترداد القيمة المفقودة، وذلك وفقًا لمرجعيتها ونشأتها الذكورية، التي أحالتها للموافقة بسهولة حين جاء أمامها من استطاع أن يسيطر عليها حتى اجتذبها، أي إنه من بين أسباب وقوع هنادي في شباك المهندس هو ظهور مصدر أمان يحميها ويعدها بالحياة المستقرة من جديد. بديلًا للأب.

القتل والانتحار

يتضح أن كلاً من سعاد وهنادي افتقدا شيئًا ما وجده في الحبيب فوقع في شباك علاقة غير مرضية لهما، حيث إن سعاد لم تكن فقط تفتقد الحبيب بل كانت متمردة لكن بداخلها ما يمنعها عن تنفيذ ذلك التمرد للنهاية، ويتضح ذلك بداية من مظهرها وبخاصة من حجاب رأسها، على الرغم من تشابهه مع كثيرات غيرها وأولهن صديقاتها فيه، فإنها تتبع شكلًا مختلفًا بالنسبة لشعرها الذي تكشف عن نصفه تقريبا، أي محاولة صريحة منها لتوضيح لونه وملمسه للكشف عن أنوثتها المُستترة، فمجرد النظر لمثل هذه التفصيلة يكون تأكيدًا لمحاولة تحرر غير مكتملة بداخلها، ومنها لشعورها بباقي تفاصيل جسدها الأنثوي وإحساسها بذاتها، فتظهر علاقتها بحبيبها لتكتمل الصورة نحو احتياجها التام لرجل في حياتها لكنه ليس افتقادًا للأب كهنادي، بل هو افتقاد للتحرر الذي يزيد من الكبت داخلها.

ويعود ذلك الكبت لعدم تحررها الكامل أو بالأحرى عدم قدرتها على تحقيقه، ويظهر ذلك أيضًا في مشاهد قمة احتياجها لممارسة الجنس مقابل عدم ارتياحها التام لذلك الفعل، وتتبلور أكثر في مشاهد الحوار مع أحمد على إرسال صورها له ومن ثم تصويرها لنفسها وهي تُرسل الصور وتبكي في آن واحد، وكذلك أثناء ممارستها «للعادة السرية» في المرحاض التي يعقبها بكاء أيضًا، وبالعودة إلى «فرويد» مرة أخرى في كتاب «أصول علم النفس الفرويدي» (3) لكلفن هال، نجد أنه قد قسم الشخصية لثلاثة أجهزة داخلية تبدأ بـ«الهو» هذا الجهاز المسؤول عن الغرائز كاملة وهو المحتك احتكاكًا مباشرًا مع البدن وكل ما يحتاجه وثمة طريقان ممكنان فقط لأي عملية من عمليات الهو، إما أن تنصرف بالفعل أو بإشباع الرغبة، أو الخضوع لنفوذ «الأنا» والأنا بفهومه الفرويدي أنه هو الضابط التنفيذي للشخصية الذي يتحكم في الهو والأنا الأعلى، حيث «الأنا الأعلى» هو الجانب السلطوي الأخلاقي القضائي الساع للكمال، وينشأ نتيجة المقاييس التي تنشأ عليها الشخصية في مراحلها الأولى. ومن ذلك يتضح سبب البكاء العاقب للذة التي تعيشها سعاد، حيث رغبة كامنة تريد الشعور بأنوثتها كمتطلب طبيعي، في الوقت ذاته الذي يحضر فيه الأنا الأعلى كي يفسد عليها الاستمتاع الكامل، ومنها يقف الأنا موقف الحائر غير القادر على ضبط العلاقة بين الجهازين الأول والثالث. وذلك ما يؤدي إلى نهاية الشخصية بقرار الانتحار.

حيث تقرر سعاد الانتحار بمحض إرادتها رغم كل ذلك التخبط والكبت فإنها هي من تقرر مصيرها لأن التناقض قائم بداخلها في الأساس، وذلك على عكس هنادي التي لم تأت الرواية بأبعادها النفسية بل كان الاهتمام الأكبر بالتناقض في ذلك المجتمع الذي تحياه، فالمجتمع المتمثل في «الأم والخال» هو الرافض لفعلتها وهو من يقرر موتها لأنها لم تكن أبدًا تملك نفسها مثل سعاد.

ومنها كان فعل قتلها على يد الخال/ البديل للأب المتحكم في مصيرها، بتحريض من الأم/ زهرة التي تتبنى أفكارًا ذكورية بحتة حتى النهاية، فهي لم تقم بأي فعل أثناء قتل الابنة على يد الخال، ولم تقم بأي فعل تجاه الخال بعد فعل القتل، بل باتت مُستسلمة، لأنه وفقًا لما أملاه عليها المجتمع من مهام، هي لم تكن قادرة على الفعل إلا في سياق دورها كأم، لكن الثواب والعقاب وأخذ القرار والأمر بالبحث أو الكف عنه من مهام الرجل الأب أو البديل له اليوم.

فضول آمنة ورباب

لكل من البطلتين المذكورتين شقيقة عاشت بنفس بيئة البطلة بينما قرارتها بعد موت الأخت كانت مختلفة.

آمنة هي الوحيدة من بين الثلاث سيدات بفيلم دعاء الكروان التي قررت أن تختلف عن أمها وأختها مما أكسبها خبرة جعلتها قادرة على قيادة سير الأحداث، حيث آمنة هي راوية الحدث كاملًا بالفيلم بل وعرضتها من وجهة نظرها الخاصة، فآمنة منذ البدء لسطور حكايتها الأولى لم تنقل الحدث من وجهة نظر تلك الفتاة البدوية البريئة، بل سيطر عليها وجهة نظر الفتاة المتعلمة القارئة المثقفة، وظهر ذلك في مواضع عدة:

من خلال نظرتها لشخصية العرافة والنساء اللاتي يلجأن إليها حتى يطلعن على المستقبل فقالت عنهم: «حياة المرأة الجاهلة الساذجة التي لا تزال تؤمن بأن سلطان الجن على الناس لا حد له»، وبذلك يكون صوت آمنة هو الصوت الواضح العالي بين جميع أصوات الشخصيات الأخرى. كما تميزت آمنة بالفضول وشغف المعرفة، حيث آتت مثلها مثل أختها مجرد فتاة بدوية، بينما ظلت بصحبة «خديجة- بنت المامور» التي عملت خادمة في منزلها، حتى تتأهب في الحصول على ما لم تتمكن من معرفته في القرية، وكانت سريعة التعلم شديدة الذكاء تفهم ما تلقيه عليها خديجة من قراءات وتحاول أن تأخذ منها الحكمة وتتأمل مضمونها. ولم يقف فضول آمنة حد معرفتها من خديجة فحسب، بل طال فضولها اللقاء بذلك المهندس حبيب شقيقتها.

ويعتبر ذلك الفضول هو السمة التي اشتركت فيها آمنة مع شقيقة سعاد، حيث بعد حادث انتحار سعاد يستكمل الفيلم خطاه نحو تتبع واقع شخصية الأخت الصغيرة «رباب» التي تظهر في النصف الثاني من الفيلم في بيئة مغايرة لبيئة سعاد، تسافر محافظة الإسكندرية بمفردها للقاء أحمد، لم يكن اللقاء بهدف الانتقام بل بهدف الفضول، ذلك الفضول الذي يؤدي في النهاية لتحقيقها ما لم تتمكن سعاد طيلة حياتها من تحقيقه، حيث قضاء يومًا كاملًا بالأسكندرية، أخذ قبلة منه على الشاطئ، الحديث معه وجهًا لوجه، ومنها نتعرف على جوانب أخرى من شخصية سعاد رغم اختفائها من فضاء الأحداث فإن شخصيتها حتى النهاية ما زالت تفصح عن نفسها وتتكشف، يروي أحمد على رباب بعض التفاصيل الخاصة بحياته مثال قصة زواج والديه التي سبق وأشارت إليها سعاد في حوار مع إحدى صديقتها لتوضيح أن سعاد لم تكن بشخصًا كاذبًا بل كانت في أحيان كثيرة تقول الحقيقة لكنها تضيف إليها بعض اللمسات الدرامية حتى تكون أكثر تحررًا من قيودها، تُضيف ما تتمناه لها بهدف التخلص من الكبت المذكور، وفي أثناء ذلك اللقاء أيضًا يدور حوار حول نية رباب في ارتداء للحجاب وسؤال أحمد هل سأكون جميلة به أم لا؟، إشارة نحو تفكير لم تأت سعاد فيه.

لكن نهاية الفيلم قصدت أن تربط ربطًا قويًا بين الأختين حين تظهر «رباب» جالسة في الميكروباص في وضع جلوس يشبه ما افتُتح عليه الفيلم من وضع سعاد داخل الميكروباص، ولكن دون أن تمارس رباب لعبة تنفيسية كما فعلت سعاد، ويبقى أحمد وحيدًا ترصده الكاميرا بلقطة عامة واسعة بعد أن عاش مع الأختين حالة شديدة الخصوصية بين صوت أحبّه، وحضور للصغيرة كشف عن جوانب أخرى لهذا الصوت وكشف عن نفسه أيضًا وما لديه من محاولات تفكير ربما تقدر على ما لم تقدر عليه الأخت الأولى. وذلك يعتبر ربط على المستوى المكاني مثلما حدث بدعاء الكروان ووجود آمنة حتى اللحظة الأخيرة في البيت التي عاشت فيه شقيقتها مع المهندس.

ولكن فيلم سعاد بأكمله غير معنيّ بالوقوف أمام شخصيات بهدف التركيز على الأفعال بل الارتكاز الأكبر جاء لتتبع رحلة بدأتها واحدة وأكملتها الأخرى اشتركا في تفاصيل عدة لكنهما على مستوى الحضور الجسدي اثنتان مختلفتان، فربما جاء ذلك الربط كي يوضح أن الرغبات القديمة لسعاد لم تنته بمجرد انتحارها، أو ربما أن الرغبة باقية في العموم سواء أكانت رباب استكمالًا لها أو حتى تمثل ذاتها بمفردها، لذا سمي الفيلم «سعاد» حيث استمرارية تكشف الشخصية واستمرارية وجود الرغبات، بل وتحقق البعض منها، ليكون الانتحار هو مجرد فعل لكنه ليس بنهاية قاطعة، بدليل استمرار الفيلم على مستوى الحدث، واستمرار الحدث ذاته في التطور، وكأنه فعل اعتيادي على الأصعدة كافة لم يشكل خطرًا ولم يسهم في توقف الرغبات أو انتهائها، وذلك عكس ما حدث بدعاء الكروان وهو وجود مشاعر حب متبادلة بالفعل بين ٱمنة والمهندس، ولكن المشترك هنا أن هنادي أيضًا تستمر في حضورها طوال أحداث الرواية، والرواية على وجه التحديد تذكر هنا – لأن النهاية بها تختلف عن الفيلم ولم يقتل فيها المهندس بل تستمر علاقة الحب قائمة بينه وبين آمنة وهنادي لم تغب- وحتى النهاية كان حضورها محرضًا لفضول آمنة، وفي النهاية كان حضورًا حائلًا بين آمنة والمهندس وليس استمرارًا لبلوغ رغبات هنادي كما حدث مع سعاد. وهذا لا ينفي حضور هنادي والدليل على ذلك وجود الكروان كدور أساسي للتأكيد على ذلك فهو طوال الأحداث موجود، حيث بداية يسمى العمل «دعاء الكروان» ذلك الطائر الذي طالما حضر كي يُنبه ويُذكر ويشهد على ما يجري، ويعين آمنة بالصبر على ما يدور من حولها، واستمر وجوده حتى المشهد الأخير من العمل وبعد أن احتل كل من آمنة والمهندس قلب الآخر، فجاء مجددًا ليؤكد أن هنادي ما زالت تُذكر حتى وإن نسيت آمنة مأساتها مع مرور الوقت.

أي كان موت كل من البطلتين في العملين استمرارًا لبقائهما وبقاء شقيقتهما رغم اختلاف الصلة بين المتبقين من مثلث الشخصيات، وذلك ما بين الفضول الذي أدى إلى حب، وفضول آخر وقف حد الاكتشاف والتجربة.

المراجع
  1. سيجموند فرويد، ما فوق مبدأ اللذة، ت: إسحق رمزي، (دار المعارف، ٢٠١٨)
  2. نشوان علي مهدي، التعويض النفسي ودلالاته في رسوم تولوز لوترك، (بحث علمي، جامعة بابل).
  3. كلفن هال، أصول علم النفس الفرويدي، ت: محمد فتحي الشنيطي، (دار النهضة العربية، ١٩٧٠).