لم تتعرف غالبية الأجيال المتأخرة على الموسيقى بمعزل عن الصورة، فالحقيقة أنها (أي الصورة) -المتلفزة تحديدا- مثَّلت وسيلةَ التسليةِ الرئيسيةِ في حياة الأسرة الحديثة، بعد أن أزاحت الراديو، والجرامافون، وسائر أجهزة الترفيه الصوتية خارج المنافسة دونما مقاومة تذكر. وبغياب الأجهزة الصوتية كانت القطيعة بين عموم المتمدنين والإنتاج الفني المسموع من مسلسلات إذاعية ومقطوعات سيمفونية وغير ذلك أمرا طبيعيا، اللهم إلا ما يتفضل به التلفاز من برامج رتيبة تعرض لبعض تلك الفنون، وهي البرامج التي أخذت تتناقص مع مرور الزمن حتى بلغت الندرة.

هذا المقال يمثِّل تذكرة خاطفة تنتصر للموسيقى غير التصويرية، بعد أن صارت الأخرى مرادفا للإبداع الموسيقي، وصار مؤلفوها -ولهم كل التقدير- هم أعلام الموسيقى الذين يشير إليهم عامة المهتمين بالفنون بالبنان. هذا المقال لا يطالب القارئ بأكثر من «تنويع ألوان الفنون السمعية»، بالانفتاح على ألوان أكثر رحابة وثراء وإتقانا، إضافة إلى كونها -كما سنرى- أكثر تطورا.

عندما سئل عدد من أبرز مؤلفي الموسيقى التصويرية للأفلام عقب ترشيحهم لجائزة أوسكار أفضل موسيقى تصويرية لعام ٢٠١٤، عن الموسيقى التي يفضلون الاستماع إليها، أجمعوا على أنها لن تكون الموسيقى التصويرية أبدًا.

لماذا يتوجب علينا -في اعتقادي- موافقتهم الرأي؟ لماذا يتوجب علينا التحلي بمزيد من التواضع عند تقييم تجربة الاستماع للموسيقى التصويرية من حيث كونها نافذة صادقة على فن الموسيقى، تنقل لنا جماله، وتثير داخلنا مشاعر سامية؟

نذكر هنا أسبابا ثلاثة:

1. لأن الموسيقى التصويرية بطبيعتها، خلقت لتُرى لا لتُسمع.

2. لأن الموسيقى التصويرية بطبيعة الحال «درجة تانية»:

وأول أسباب ذلك فنيٌّ، لأن الموسيقى التصويرية إن حملت من المحتوى ما يجعلها عملا فنيا متكاملا ومستقلا بذاته، بحيث يمكنك استخلاص كل الأحاسيس والمعاني التي ترمي إليها بمجرد الاستماع، تكون بذلك قد فشلت في القيام بدورها كموسيقي تكميلية مصاحبة للصورة.

مثالنا على ذلك أعمال الموسيقار الروسي «دميتري شوستاكوفيتش»، الذي ألَّف عديدا من مقطوعات الموسيقي التصويرية فعاشت الموسيقى بغض النظر عن الأعمال نفسها التي اندثرت! فهل يكون بذلك قد قام بما كلف به تجاه الفيلم؟

السبب الثاني اقتصادي، حيث لن يسمح الإنتاج -بعد ما تحمل من تكاليف باهظة- إلا أن تأتي الموسيقى جذابة للشريحة الجماهيرية الأكبر التي يستهدفها ذلك العمل الفني في الأساس. لذا يجد المؤلف نفسه محدودا بذائقة جماهيرية معينة لا يسعه تجاهلها بتأليف موسيقى شديدة التعقيد والعمق لفيلم عائلي خفيف، أو كوميدي تجاري من الدرجة الأولى.

إضافة إلى أن العمل على الموسيقى التصويرية لا يبدأ عادة إلا بعد انتهاء معظم مراحل إعداد الفيلم واقتراب موعد توزيعه على دور العرض، فلا تتاح للمؤلف الموسيقي حينئذ غير فترة زمنية محدودة تحول بينه وبين إطلاق العنان لإبداعه.

أما السبب الثالث والأخير فهو الحوار والأصوات المحيطة التي تتخلل الموسيقى -ولعل الموسيقى هي التي تتخللها- مما يضطر المؤلف الموسيقي إلى الاهتمام بالشعور العام على حساب التفاصيل الموسيقية.

3. لأننا نخدع عادة إذا ما صادفنا فكرة موسيقية غير مألوفة في موسيقى أحد الأفلام فنظنها من إبداع مؤلف موسيقى الفيلم، بينما الواقع أن غالبية الأفكار الموسيقية الجديدة تظهر أولا خارج الموسيقى التصويرية.


رحلة سريعة إلى بدايات السينما في العقد الأخير من القرن التاسع عشر.

لم تعرف السينما في بداياتها الموسيقي التصويرية، ولكن كان يتم استخدام مقطوعات موسيقية شهيرة ومألوفة

حينما بدأ إنتاج الأفلام القصيرة ثم الطويلة لم تكن هناك موسيقى تؤلف للأفلام؛ بل كان يجري استخدام مقطوعات موسيقية شهيرة ومألوفة بالفعل (كلاسيكية غالبا). لكن صانعي الأفلام أدركوا بمرور الوقت احتياج الأفلام السينمائية لموسيقى خاصة بها، فاستعانوا بمؤلفي الموسيقى السيمفونية -لم يكن هناك من يدعى مؤلف موسيقى تصويرية بعد- وكان الفرنسي «كامي سان صانز» أشدهم شهرة.

لكن هؤلاء الموسيقيون فضلوا عدم التفرغ لموسيقى الأفلام، جاعلين منها عملا ثانويا، وكان ذلك لأسباب عدة من أهمها عدم استيعابهم لفن السينما بشكل كافٍ. استمر الحال هكذا حتى بداية العشرينات، حين ازدهرت السينما وازدادت أرباحها فصارت مصدر دخل ممتاز للمؤلفين، عندها اتجه الكثيرون إلى هوليود مثل المَجَرِيّ النمساوي «فولفجانج كورنجولد»، والنمساوي «ماكس شتاينر»، الذين -وإن كان المكسب المادي هو أول ما جذبهم- وجدوا داخلهم انتماءً كبيرا لهذا الفن كما وجدت السينما ملاذها فيهم، هذا وجنى المنتجون والجمهور ثمار تلك العلاقة الناجحة.

في تلك المرحلة الفاصلة ظهر لدينا نوع جديد مستقل من مؤلفي الموسيقى، وهو مؤلفو الموسيقى التصويرية الذين يستهدفون المشاهد، بما يفرضه ذلك من قيود، بينما يتمتع زملائهم المؤلفون الآخرون بقدر أكبر من الحرية. هكذا يكون ظهور أغلب الأفكار والحركات الفنية الموسيقية الجديدة على يد مؤلفي الموسيقى غير العاملين بالسينما أمرا مفهوما ومبررا، حيث تنعم الأعمال بكل ما تحتاجه من وقت وجهد، متحررة من ضغوط التأليف للسينما.

نستعرض الآن سريعا اثنين ممن نعدهم أشهر وأعظم مؤلفي الموسيقى التصويرية، متوهمين أسبقيتهم في تقديم أفكارا موسيقية غير معهودة، ونبدأ -وبتركيز خاص- مع الأكثر شعبية بين المستمعين العرب:


الموسيقار الألماني «هانز زيمر»

من الشائع أن «هانز زيمر» هو أول من دمج الآلات الإلكترونية بالأوركسترا، إلا أن ذلك بدأ منذ ١٩٠٧ على يد الإيطالي ذي الأصول الألمانية «فيراتشيو بوزوني»، وتبعه العديد، من أمثال المصري الأمريكي «حليم الضبع»، وفرنسي المولد «إدجار فاريز». ثم بدأ استخدام ذلك في الأفلام في العشرينات على يد «جورج أنتايل».

تعد الموسيقى التصويرية لفيلم «المصارع» أشهر أعمال هانز زيمر، وهو العمل الذي سبب مشاكل قانونية عدة، ذلك لأن مقطوعة «المعركة» جاءت شبه مطابقة لمقطوعة «المريخ» لـ«ـجوستاف هولست»، مما استفز ملاك حقوق المقطوعة الأصلية واضطرهم للجوء إلى القضاء.

كما تتشابه مقطوعتا «جبروت روما»، و«ألست رحيما»، مع مقطوعة «غسق الآلهة» للألماني «ريتشارد فاجنر». أما «نحن الآن أحرار» -وهي أغنية الفيلم- فحملت طابع «كارل جينكينز» المميز.

يبدو اللحن الخاص بشخصية «الجوكر» في فيلم «فارس الظلام» للوهلة الأولى نوعا من الابتكار المبهر، إلا أنه شائع بين مؤلفي الموسيقى غير السينمائيين منذ الخمسينات (اليوناني «يانيس زيناكيس»، والبولندي «كشوشتوف باندرسكي»). كما تعد مقطوعة «أنت رائع» من فيلم «الرومانسية الحقيقية» إعادة إنتاج لـ«Gassenhauer» للألماني «كارل أورف».

وقد اتجه هانز زيمر في الفترة الأخيرة إلى «المينيماليزم»، فظهر ذلك في أعمال مثل «Inception»، و«Interstellar»، و«Dark Knight» بأجزائه، وهو أسلوب ابتدعه مؤلفون لا سينمائيين أمثال «لا مونت يونج»، و«ستيفي ريتش»، و«تيري رايلي»، وبدأ يشيع في أوائل الستينات.

لم يستخدم هانز زيمر وحده المينيماليزم من بين مؤلفي الموسيقى التصويرية، بل بدأ استخدامه في موسيقى الأفلام منذ فيلم «سايكو» الشهير لـ«بيرنارد هيرمان»، ليصير الأسلوب الأكثر استخداما بين مؤلفي الموسيقى التصويرية في أواخر التسعينات مثل موسيقى فيلم «إيميلي» للفرنسي «يان تيرسين»، وهي الموسيقى التصويرية الشهيرة والمحببة لقلوب معظمنا. ‪تشمل القائمة أفلام كـ«الساعات»، لـ«فيليب جلاس»، و«عقل جميل» لـ«جيمس هورنر»، و«نظرية كل شيء» لـ«يوهان يوهانسون»، و«جاذبية» لـ«ستيفين برايس». وما تلك إلا قلة قليلة من القائمة الآخذة في التضخم.


جون ويليامز

(هانز زيمر)
(هانز زيمر)
(هانز زيمر)
(جون ويليامز)
(جون ويليامز)
(جون ويليامز)

لم يكن هانز وحده من تأثر بغيره من المؤلفين الموسيقيين غير السينمائيين، وهنا ننتقل سريعا إلى «جون ويليامز»، الذي استوحى موسيقى المارش الخاص بفيلم «حرب النجوم» في السبعينيات من رقصة الفرسان من باليه «روميو وچولييت» للروسي «سيرغي بروكوفييف» بنت الثلاثينات.

كما توشك أجزاء من موسيقى فيلمه الخالد «أي. تي.» أن تنطق بفضل السيمفونية الثانية لـ«هوارد هانسون» -الثلاثينية أيضا- في خروجها إلى النور. وغير ذلك من الأمثلة الكثير، لكن تلك نبذة كافية للتدليل على فكرة المقال.

فلما كان ذلك هو حال أعظم مؤلفي الموسيقى التصويرية، وجب علينا التماس العذر لمن هم دونهم في المستوى والإمكانيات، حين نجد الاقتباس في أعمالهم أكثر وضوحا وفجاجة، وهنا يأتي السؤال: هل حدث مرة أن تأثر مؤلف غير سينمائي في عمل من أعماله بأحد مؤلفي الموسيقى التصويرية؟ هل نجد أثر لأعمال مؤلفي الموسيقى التصويرية منذ بداية السينما (مثل «ألفريد نيومان»، و«بيرنارد هيرمان»، و«ألان مينكن»، و«توماس نيومان») على أعمال المؤلفين المعاصرين لهم (أمثال «كوبلاند»، و«شوستاكوفيتش»، و«سترافينسكي»، و«شتوكهاوزن»، و«جوريتسكي»)؟