من بعيد، من لاهاي، هولندا، جاء حكم المحكمة الدائمة لحل النزاعات، بعدم أحقية جمهورية الصين الشعبية فيما تسوقه من ادعاءات بشأن النزاع المائي في بحر الصين الجنوبي، هذا القرار الذي رحبت به الفلبين، صاحبة الدعوى، ورفضته جمهورية الصين، صاحبة السيادة والتواجد العسكري.بالعودة للواراء قليلًا، وتحديدًا قبل ثلاثة أعوام، دخل النزاع أروقة المحكمة بطلب من الفلبين، وتشكلت لجنة خبراء في يونيو/حزيران 2013م، مكونة من خمسة أشخاص، يُطلق عليهم وفق أعراف المحكمة، قُضاة أو محكمون، ليخرج هذا الحكم التاريخي، في الثاني عشر من يوليو/تموز لعام 2016م، ويقضي ببطلان ادعاءات السيادة التاريخية للصين على مياه البحر المتنازع عليها، وعليه فإن جمهورية الصين دولة معتدية على السيادة الفلبينية، ويضيف منطوق الحُكم أن الصين أضرّت كثيرًا ببيئة الشعب المرجانية التي تتمتع بها مياه البحر، على خلفية تشييدها عددًا من الجزر الاصطناعية لتثبيت سيادتها على البحر وضمه لمياهها الإقليمية.


الدوافع الحقيقية وراء الصراع

في أغلب النزاعات الحدودية بين الدول ثمة سببان لا ثالث لهما؛ الجدوى الاقتصادية والكبرياء التاريخي. وفيما يخص بحر الصين الجنوبي يبدو الأول أكثر منطقية وحضورًا، حتى وإن ادّعت الصين الثاني؛ إذ يُعد البحر واحدًا من أهم المجاري الملاحية بالعالم، وترجّح أغلب التقديرات مساهمته في ما يربو على ثلث حركة الشحن التجارية، والتي تُقدر قيمتها السوقية بأكثر من خمسة تريليون دولار لكل عام، ناهيك عن تقديرات باحتوائه احتياطيات وافرة من النفط والغاز، كما يُعد الأغنى من بين مياه المنطقة الآسيوية من حيث الثروة السمكية. يضمن المجرى المائي إذن لمن يسيطر عليه الأمن الغذائي وأمن الطاقة والمكانة الدولية.


الجزر محل النزاع ليست مجرد صخور

ويشتهر البحر الجنوبي للصين باحتوائه مئات الجزر، غير المأهولة بالسكان في أغلبها، كما أن بعضها لا يعدو كونه صخورًا كبيرة متناثرة في عرض البحر.من بين هذه الجزر الكثيرة، هناك جزر رئيسية كبيرة نسبيًا، هي محل النزاع، كـ«جزر سبارتلي، وجزر باراسيل، وغيرها»، وتتوسط هذه الجزر عِقد النزاعات كونها ذات جدوى اقتصادية أكبر من غيرها، فتجد مثلًا جزر سبارتلي، وعددها أربعة عشر جزيرة، غير مأهولة بأيٍ من السكان، لكنها تضم مصايد كبيرة للأسماك، ووفقًا لبعض الدراسات فإنها تطفو فوق بحر من النفط والغاز، وهي أقرب للسواحل الفلبينية والفيتنامية، إلا أن الصين تفرض السيادة العسكرية عليها، بموجب الحدود البحرية خاصتها والتي لا تعترف بها أي من دول الساحل؛ ما يجعلها جزرًا محتلة وفقًا لادعاءات دول الساحل، والحُكم الدولي الصادر من لاهاي مؤخرًا.


متى بدأ الصراع؟، وكيف بدأ؟

بدأ الصراع على مياه البحر الجنوبي للصين، عام 1947م، عندما رسّمت الصين حدودها البحرية للمرة الأولى، بما عُرف حينها بخط الـ11 قطعة، «Eleven-dashes Line» على شكل حرف «U» في اللغة الإنجليزية، فارضةً بهذا الخط الحدودي سيطرتها على أغلب مساحة البحر، لكنها وفي وقت لاحق، بعد مجيء الحزب الشيوعي للحكم في 1949م، قللت قطعتين من الخط الحدودي ليعرف بعدها وحتى وقتنا هذا بخط الـ9 قطع «Nine-dashes Line».

خط ال9 قطع الحدودي، بحر الصين الجنوبي
خط ال9 قطع الحدودي، بحر الصين الجنوبي

ويمتد خط الـ9 قطع هذا لآلاف الكيلومترات جنوب وشرق جزيرة هاينان الصينية الجنوبية، ليشمل جزر باراسيل الإستراتيجية، وسلاسل جزر سبراتلي، ويجعلها ضمن المياه الاقتصادية لجمهورية الصين، متجاهلًا كافة الحقوق لدول الساحل المطلة على هذا البحر، كفيتنام، وماليزيا، والفلبين، وبروناي، وتايوان. ويقتطع خط الـ9 قطع من حدود هذه الدول البحرية مجتمعة أغلب مساحاتها، وعليه فهو معهم في نزاع دائم. واستندت الجمهورية الصينية في ترسيمها للخط الحدودي لما ادّعت أنها الأحقية التاريخية التي ترجع لأكثر من ألفي عام، وهو ما أبطلته المحكمة الدائمة في قرارها.


احمل سلاحك، ثم اذهب للتفاوض

هذا بالضبط ما فعلته جمهورية الصين، إذ أقدمت على ما عُرف إعلاميًا بـ«عسكرة بحر الصين الجنوبي»، وزرعت منصات لإطلاق الصواريخ على بعض الجزر المتنازع عليها؛ ما يُعد خرقًا لكافة الأعراف الدولية، وتحديًا لأية جهود دبلوماسية للحل.وقد أكّدت وزارة الدفاع الوطني لتايوان، في وقتٍ سابق من هذا العام، عن كشفهابطاريتين تحملان ثمانية صواريخ من نوع HQ-9 لكل واحدة على إحدى الجزر. كذلك أكد الجنرال أدميرال هاريس، قائد قيادة المحيط الهادي، في الأسطول الأمريكي ومركزها هاواي الأمريكية، على التقرير الصادر من الحكومة في تايوان وأدان بدوره ما أسماها «عسكرة الصين لمياه البحر المتنازع عليها» مذكرًا بتعهد سابق من الرئيس الصيني «شي جين بينج» لنظيره الأمريكي بأن لا يُقدم على مثل هذا التصرف.

تدفع الصين منذ سنوات باتجاه عسكرة البحر، رغم تأكيدها على نهج كافة الطرق الدبلوماسية للحل؛ ما يطعن في صدق مساعيها.

هذه البطاريات التي نشرتها الصين على إحدى الجزر المتنازع عليها من شأنها إعاقة حركة الملاحة الجوية أعلى هذه الجزر، إذ يبلغ مدى الصاروخ HQ-9 قرابة الـ 200 كيلو متر؛ ما يعني تشكيل تهديد حقيقي لدول الساحل الأخرى والتي تستشعر المظلومية في حضرة القوة الصينية. ولا يمكن النظر في أمر الصورايخ الـ 16 برعونة بأي حال من الأحوال؛ فهي وحدها -دون بقية المعدات العسكرية الصينية- تشكل رادعًا كبيرًا لدول الشرق الآسيوي مجتمعة، لاسيما وأن أغلبها يمتلك أنظمة دفاع جوي عتيقة، فعلى سبيل المثال، فيتنام، والتي هي أقرب نقطة لتمركز الصواريخ، والتي من المفترض أنها تتمتع بقوة جوية كبيرة مقارنة بدول الجوار؛ إذ تملك قرابة 217 طائرة مقاتلة روسية الصنع من نوع ميج وسوخوي، إلا أن 144 طائرة من هذا الأسطول هي من طراز MiG-21 والتي كان استخدامها لأول مرة عام 1955م؛ الأمر الذي يعني أن هذه المقاتلات العتيقة ستكون عصافير سهلة الصيد في السماء إذا ما وقعت حرب كانت فيتنام والصين على طرفيها.

لمعرفة المزيد:الحرب الباردة في شرق آسيا: من في مواجهة من؟


ما قيمة المحكمة في حضرة السلاح؟

من المؤسف أن نقول إن قرار المحكمة غيرُ ملزمٍ لأطراف النزاع، أو بشكل أدق، لا تملك المحكمة آلية لإنفاذ أحكامها، فما قيمة القرار إذن؟!.بالفعل، سارع الرئيس الصيني بالرد على قرارات المحكمة، بالقول «إن سيادة الصين الإقليمية، وحقوقها البحرية، لن تتأثر بالقرار بأي شكل من الأشكال». وفي تناقض واضح، أكّد أن بلاده ملتزمة بحل القضية دبلوماسيًا مع الجيران!.واعتبرت وزارة الخارجية الصينية القرار «بُني على أساس معيب»، وأكدت أنها ستتجاهل القرار، وأن قواتها المسلحة ستدافع عمّا أسمته السيادة الصينية.


ردود الفعل الدولية لم تتأخر هذه المرة

باعتبار قضية بحر الصين الجنوبي، حيويةً لمعظم دول العالم، على رأسهم الولايات المتحدة، وفي القلب منهم بالطبع دول شرقي آسيا، صرح جون كيربي، الناطق باسم وزارة الخارجية الامريكية بأن «القرار الذي صدر اليوم عن المحكمة في قضية التحكيم بين الفلبين والصين يعد مساهمة مهمة في تحقيق الهدف المشترك المتمثل في التوصل الى حل سلمي للخلافات في بحر الصين الجنوبي».وكان مسؤولون أمريكيون قد عبروا عن خشيتهم من أن ترد الصين على القرار بفرض منطقة حظر جوي في أجواء بحر الصين الجنوبي مماثلةً لتلك التي فرضتها في بحر الصين الشرقي عام 2013م، أو بتسريع عمليات تشييد وتحصين الجزر الاصطناعية في المنطقة.وكانت الولايات المتحدة قد أرسلت حاملة طائرات ومقاتلات إلى المنطقة قبيل الحكم، وهو ما أثار الغضب في صحيفة «جلوبال تايمز» الصينية التابعة للدولة، إذ دعت واشنطن إلى الاستعداد لـ«مواجهة عسكرية»!.فيتنام بدورها رحّبت بالقرار واعتبرته خطوة جديدة في طريق الحل السلمي، أما تايوان فرفضت القرار لاشتماله على منطقة خاضعة لسيادتها، معتبرةً القرار أضرّ بها وبمصالحها وبالتالي فلم ولن تقبل به.

المراجع
  1. Beijing rejects tribunal's ruling in South China Sea case
  2. South China Sea and the nine-dash line: what you need to know
  3. بكين ترد بغضب على قرار محكمة التحكيم حول حقوقها في بحر الصين الجنوبي
  4. South China Sea: Court rules in favor of Philippines over China
  5. How The Eleven-Dash Line Became a Nine-Dash Line, And Other Stories