على أنغام الأناشيد الحماسية بثت المكاتب الإعلامية لتنظيم داعش في سوريا وغرب أفريقيا، منتصف مارس/ آذار الجاري، إصدارين مرئيين ضمن سلسلة «ماضٍ جهاد المؤمنين»، مصورةً مراسم أداء مقاتلي التنظيم لبيعة خليفته الجديد المعروف بـ «أبو الحسن الهاشمي».

وأكدت الإصدارات المرئية، التي انضمت إلى سلسلة من الرسائل الدعائية التي بثها التنظيم، منذ إعلان متحدثه الرسمي الجديد أبو عمر المهاجر، في الـ10 من مارس/آذار الجاري، مقتل خليفته السابق، أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، المعروف أيضًا بحجي عبد الله قرداش، في عملية عسكرية أمريكية أوائل فبراير/ شباط الماضي، نجاح قيادة داعش العليا/ مجلس الشورى، في الحفاظ على وحدة وتماسك التنظيم وحشده وراء الخليفة الجديد الذي لا زالت هويته الحقيقية محاطة بقدر من الغموض.

فخلال أيام معدودة من الإعلان الرسمي عن مقتل أبو إبراهيم القرشي، توالت بيعات أفرع داعش المختلفة، سواء في مركز ثقله الرئيس داخل العراق وسوريا، أو في الأفرع الخارجية البعيدة كغرب ووسط أفريقيا وليبيا واليمن، وشرق آسيا (الفلبين)، وأفغانستان (ولاية خراسان)، وباكستان، والهند وغيرها، كاشفةً أن القدرات العملياتية والدعائية للتنظيم تعافت بشكل كبير ولم تتأثر بالإطاحة بخليفته (السابق).

وحاول داعش استعادة الزخم وتعويض الخسارة المعنوية الكبيرة التي تلقها بمقتل أبو إبراهيم القرشي، عبر النشاط الاستثنائي للآلة الدعائية لداعش التي أرسل من خلالها رسائل صريحة وضمنية مفادها أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم ينتصروا في الحرب على الإرهاب، وأن مقتل قادته،لن يكون مؤثرًا على المستوى الاستراتيجي، بدليل نجاحه في البقاء والتكيف وتعويض خسائره القيادية.

الاغتيالات النوعية.. وصفة أمريكا المفضلة

على أن تلك المحاولات لم تُخف حقيقة تأثر داعش بالضربات المركزة التي تلقتها قيادته العليا والوسيطة، منذ تشكيل التحالف الدولي لحرب داعش/ قوة المهام المشتركة، في سبتمبر/ أيلول 2014، بعد أشهر معدودة من إعلان الخلافة المكانية للتنظيم.

فعقب تشكيل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت وحدات عسكرية واستخبارية خاصة تابعة لوكالات مختلفة (منها الاستخبارات المركزية الأمريكية، والاستخبارات البريطانية وغيرها)، الانخراط في عمليات نوعية لتصفية أمراء داعش البارزين وتقويض البناء الهيراركي له، لإضعافه والقضاء عليه.

وانخرطت تلك الوحدات التي عملت بصورة سرية ووظفت المئات من العملاء والجواسيس لتعقب واستهداف أمراء وقادة داعش، وذلك ضمن استراتيجية أمريكية مُجربة تُعرف بالاغتيالات النوعية، والتي كشفت عنها وثيقة مسربة من أرشيف الاستخبارات المركزية تحمل عنوان: «أفضل ممارسات مكافحة التمرد.. جعل عمليات الاستهداف عالي القيمة أداة لمكافحة التمرد».

واعتمدت الولايات المتحدة على هذه الاستراتيجية لمواجهة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (نواة داعش)، منذ بروزه على ساحة الأحداث كأحد المجموعات الجهادية الرئيسية التي حاربت ضد القوات الأمريكية في العراق، وكذلك استخدمتها في مواجهة تنظيم القاعدة المركزي/ قاعدة خراسان، وأفرعه الخارجية الفاعلة كالفرع اليمني «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، والفرع الصومالي «حركة شباب المجاهدين».

وأدى اتباع تلك الاستراتيجية إلى تصفية العشرات من أبرز القادة الجهاديين، على رأسهم أسامة بن لادن، زعيم القاعدة المؤسس، وأبو مصعب الزرقاوي، أمير القاعدة في بلاد الرافدين وأحد المؤسسين الفعليين لداعش، وخلفيه أبو حمزة المهاجر المصري وأبو عمر البغدادي، زعيمي تنظيم دولة العراق الإسلامية (النسخة الأسبق لداعش)، إضافة لأبو بكر البغدادي، الخليفة الأول لداعش، ونائبه وخليفته التالي حجي عبد الله قرداش/ أبو إبراهيم القرشي.

تقويض القيادة وتفتيت التنظيم

ووفقًا للوثائق المسربة من أرشيف الاستخبارات المركزية فإن الهدف من اتباع ستراتيجية الاغتيالات النوعية لا يقتصر على الإطاحة بقادة التنظيمات الجهادية فحسب، بل يهدف إلى تحقيق سلسلة من  الأهداف الأخرى، تخدم الغاية النهائية للولايات المتحدة وحلفائها، الرامية للقضاء على التمردات المسلحة والتي تُجسد التنظيمات الجهادية أحد صورها.

 وتسعى استراتيجية الاغتيالات النوعية إلى الحد من فاعلية التنظيمات الجهادية (جماعات التمرد المسلح الهادفة لتقويض السلطات القائمة وتأسيس نظم حكم بديلة)، عن طريق اغتيال قادتها وأمرائها، وإضعاف إرادة تلك التنظيمات وخفض الروح المعنوية لمقاتليها بما يؤثر على قدرتهم على البقاء والاستمرار في القتال، وكذلك التأثير على مستوى الدعم الذي يُقدم لتلك التنظيمات من قبل الأفراد أو الجماعات المحلية التي تُشكل حاضنة اجتماعية للجهاديين في بعض الأحيان.

وإلى جانب الأهداف السابقة، تركز عمليات الاستهداف عالي القيمة على تفتيت التنظيمات الجهادية وتعزيز نزعات الانشقاقات الداخلية، والضغط عليها لتغيير استراتيجيتها الذاتية أو إجراء تغيرات على هيكلها التنظيمي بما يخدم جهود تفتيتها والقضاء عليها.

ونجحت تلك العمليات إلى جانب العمليات العسكرية واسعة النطاق التي يتم تنسيقها على الأرض من قبل القوات الأمريكية وحلفائها المحليين، في إضعاف تنظيم داعش وتحييد العشرات من قادته البارزين، وساهمت تلك الجهود في القضاء على الخلافة المكانية، التي سقطت رسميًّا بعد انتزاع السيطرة على آخر معاقلها في قرية الباغوز فوقاني السورية، في مارس/ آذار 2019، إلا أنها لم تقضِ عليه نهائيًّا، إذ تمكن التنظيم من التكيف في كل مرة وأعاد ترميم شبكاته القيادية وخلاياه العملياتية، مؤكدًا أن الاغتيالات النوعية وحدها غير كافية لإنهاء وجوده.

داعش والانبعاث من ركام الهزيمة

وعلى الجهة الأخرى، أثبت تنظيم داعش أن استراتيجية الاغتيالات النوعية ليست كافية وحدها للقضاء عليه كمجموعة عقدية- عسكرية، شعارها البقاء والتمدد، خاصةً أن التنظيم لم يكن قائمًا في أي من مراحله على شخص واحد أو مجموعة محدودة من الأشخاص.

واستفاد التنظيم من الخبرة المتراكمة التي ورثها عن نسخه الأسبق (القاعدة في بلاد الرافدين، ودولة العراق الإسلامية)، في مواجهة حملة استهداف أمرائه وقادته البارزين، فلجأ إلى العمل بنظام مختلط يجمع بين الطريقة المركزية واللامركزية، مع تفويض القادة الميدانيين والمحليين (الأقل ارتباطًا تنظيميًّا من القيادات العليا) لإدارة وتسيير الخلايا الخاضعة لإشرافهم، وبهذه الطريقة استطاع التنظيم مواصلة عملياته حتى في الفترات التي شهدت تحولات قيادية ونقل السلطة العليا من زعيم/ خليفة إلى آخر.

ومع أن عمليات الاستهداف عالي القيمة سرعت من التحولات القيادية في إطار الهرم التنظيمي لداعش وأدت إلى نقل السلطة والنفوذ إلى جيل جهادي جديد – وأقل خبرة – بتعبير متحدث التنظيم الأسبق أبو محمد العدناني، إلا أن التنظيم واصل توظيف تلك العمليات لصالحه عبر سلسلة من الأنشطة الدعائية التي تُصور مقتل كبار القادة بأنه دليل على صدق دعوة التنظيم، في تجسيد لشعار ، صاغه بعد مقتل أبو حمزة المهاجر  المصري وأبو عمر البغدادي، وهو «صدق دعوتنا باستشهاد قادتنا».

ولم تُسهم الخسارات القيادية المتكررة في التشجيع على حالات انشقاق هيكلي أو كبيرة في داخل التنظيم، رغم مقتل خليفته الكاريزمي أبو بكر البغدادي في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ومقتل خليفته السابق أبو إبراهيم القرشي في فبراير/ شباط 2022، إذ بقيت الخلافات حول شخصية الخليفة محصورة داخل دائرة نخبوية للغاية هي مجموعة مجلس الشورى (أعلى هيئة قيادية) فيه، دون أن تنتقل إلى الأفرع الخارجية، علاوة على أن تلك الخلافات لم تجدد الصراعات السابقة داخله والتي ارتبطت بالخلافات المنهجية التي اندلعت في الفترة التي سبقت سقوط الخلافة المكانية (2014- 2018)، وذلك لأن القيادة العليا أوقفت السجالات الأيديولوجية بحجة أن التوقيت غير مناسب وأن التركيز على قتال أعدائه في سوريا والعراق وخارجهما أولى من الانشغال بتلك السجالات.

ويدلل على الطرح السابق، قيام مقاتلي داعش في العراق وسوريا والأفرع/ الولايات الخارجية (خارج الدولتين)، بإعلان البيعة للخليفة الجديد بمجرد إعلان التنظيم، عبر متحدثه الرسمي، عنه وهو ما حدث عقب إعلان تولية أبو  إبراهيم القرشي، في أكتوبر 2019، وتكرر  بصورة أوضح، منذ تولية أبو الحسن الهاشمي، والذي أعلنت أفرع التنظيم الولاء له بصورة سريعة ومنسقة، بما يحسم الجدل حول الخلافات الداخلية أو الصراع على منصب الخليفة، دون النظر إلى مسألة هويته الحقيقية أو كونه قياديًّا كاريزميًّا أو غير ذلك.

تقييم حملة الاغتيالات ضد قادة داعش

ويشير إخفاء هوية أبو الحسن الهاشمي الحقيقية إلى استمرار التنظيم في اتباع المقاربة الأمنية الهادفة إلى تأمين زعيمه/ خليفته، وعدم الكشف عن شخصيته لتعقيد جهود تعقبه واستهدافه، وإبعاده عن أنظار الوكالات الاستخبارية الساعية للوصول إليه.

ومن الواضح أن لجوء تنظيم داعش إلى إخفاء هوية خليفته مرتبط بشكل وثيق بخوفه من استمرار حملة الاغتيالات المركزة التي استهدفت قادته وأمراءه، وساهمت في الحد من فاعليته بدرجة كبيرة بجانب عوامل أخرى، رغم نجاحه في التغلب على التحديات التي فرضها اغتيال أمرائه البارزين وإبعادهم من الميدان.

ويمكن القول إن استراتيجية الاستهداف عالي القيمة حققت نجاحات لافتة في استهداف قادة وأمراء التنظيمات الجهادية (وخصوصًا تنظيم داعش)، لكن تلك النجاحات تبقى نجاحات جزئية وغير كافية لإدراك الانتصار المنشود الذي تسعى له الولايات المتحدة وحلفاءها المنضوين في معسكر مكافحة الإرهاب، وهو ما يدعم، بطريقة أو بأخرى رواية الجهاديين الذين لا زالوا يجادلون أن النصر المتحقق بمقتل قائد أو أكثر «هو نصر مزور»، بتعبير أبو محمد العدناني، المتحدث الأسبق لداعش، والذي قتل أيضًا في عملية اغتيال نوعية  عام 2016.