لطالما كان الرجل العنكبوت spider man أحد الشخصيات المفضلة لمحبي القصص المصورة أو الأفلام المقتبسة عنها، فهو أحد أشهر شخصيات الأبطال الخارقين وأكثرها قربًا للبشر الطبيعيين، فهو لم يهبط من الفضاء ولا يملك ثروة طائلة، هو مجرد فتى مراهق من كوينز، الولايات المتحدة، يقوده القدر لامتلاك قوة خارقة يتصرف معها بحماقة؛ كونه صغير السن وعديم الخبرة، لكنه يتعلم كيف يصبح رجلًا، ذلك بشكل رئيسي ما يجعل الرجل العنكبوت يملك كل تلك الشعبية عالميًّا، كون قصته هي قصة نضوج تقليدية في صورة قصة بطل خارق، ولطالما عُولِجت الاقتباسات السينمائية من قصصه المصورة حسب تعريف السينما لأفلام النضوج، حيث المدارس الثانوية ومشكلات التنمر والوقوع في الحب لأول مرة وغيرها، لكن تلك الاقتباسات متعددة ومتفاوتة في مستواها ومدى شعبيتها، وتعتبر آخر ثلاثية من إخراج جون واتس وبطولة توم هولاند أحد أكثرها شعبية.

في ثالث أجزاء النسخة الأخيرة الرجل العنكبوت لا طريق للمنزل spider man: no way home يعطي واتس شخصية الرجل العنكبوت أبعادًا ملحمية ويدرجها في هوس مارفل الجديد بالعوالم الموازية والكون المتشعب multiverse، ربما ينذر ذلك بفيلم فوضوي يجمع الكثير من الشخصيات، مما يصعِّب السيطرة على مسار القصة أو الثقل العاطفي لها، لكن النتيجة جاءت فيلمًا مفاجئًا يرضي توقعات محبي السلسلة، بل جميع السلاسل السابقة، وعلى الرغم من سرده المكرر فإنه يملك دفئًا وملحمية يصعب عدم محبتها.

الكون السينمائي المتشعب

توم هولاند وبيندكت كامبرباتش من فيلم الرجل العنكبوت
توم هولاند وبيندكت كامبرباتش من فيلم الرجل العنكبوت

بدأت اقتباسات الرجل العنكبوت في عام 2001 عندما أخرج سام ريمي فيلمه الناجح من بطولة توبي ماجواير spider- man، لم يكن وقتها عالم مارفل السينمائي جزءًا من عالمنا بعد، فأصبح الرجل العنكبوت أحد أنجح الأفلام في نوعه، واستمر نجاحه لجزأين آخرين، ثم أُعيد تناول الشخصية في عالم أكثر حداثة، حيث الهواتف الذكية والتكنولوجيا الحديثة في فيلم الرجل العنكبوت الرائع the amazing spider-man  عام 2012 من إخراج مارك ويب وبطولة أندرو جارفيلد، لكن لم يستمر نجاحه طويلًا، عاد الأبطال لجزء ثانٍ قبل أن تقرر شركة الإنتاج وقف العمل على الثلاثية، ثم عادت للرجل العنكبوت شعبيته مرة أخرى مع توم هولاند، خصوصًا مع كونه جزءًا من عالم مارفل السينمائي واتصاله بشخصيات رئيسية مثل الرجل الحديدي. وبعد جزأين للتمهيد للشخصية جاء الجزء الثالث ليجمع كل العوالم المتشعبة في فيلم واحد.

يبدأ الفيلم من حيث توقف سابقه، بات العالم كله يعلم هوية الرجل العنكبوت الآن، وبالتدريج تنهار حياة بيتر باركر العادية، فلا يوجد هوية مزدوجة بعد الكشف، يلجأ باركر لدكتور سترينج (بيندكت كامبرباتش) ليستخدم سحره لكي يمحو ذاكرة كل من أصبح على دراية بهويته، فتعود حياته لطبيعتها التي لم تكن طبيعية على أي حال، تمثل مشاهد الرجل العنكبوت مع المشعوذ الشهير بعض أكثر اللحظات المثيرة بصريًّا مثل مشهد المطاردة في أبعاد مختلفة، وهو مشهد أشبه برحلة هلوسة مطولة، لكن بعيدًا عن ذلك فإن بصريات الفيلم متوقعة وآمنة. 

 تحدث بعض الثغرات أثناء إلقاء تعويذة النسيان، فيضطرب اتزان الكون وتتصدع الأكوان الموازية ويزحف بعض ممن يعلمون الهوية الأصلية لبيتر باركر من عوالم أخرى، فيصبح العالم تحت تهديد أشرار من عوالم مختلفة، مثل دكتور أوكتبوس (ألفريد مولينا) وجرين جوبلين (ويليم ديفو) وإليكترو (جيمي فوكس)، بالإضافة إلى قدوم شخصيات أخرى من تلك العوالم، يجب مشاهدة الفيلم للاستمتاع بظهورها على الشاشة، لا يعلم سكان العالم من هؤلاء، ولا يعلم بيتر باركر عنهم أي شيء، لكن نحن نعلمهم جيدًا.

ذلك تمامًا هو ما يجعل «الرجل العنكبوت: لا طريق للمنزل» مثيرًا، إنه يدمج ما هو سينمائي مع ما هو حقيقي، فتلك الشخصيات تعتبر بعض أكثر الأشرار شعبية في المخيال الجمعي الشعبي بين أجيال مختلفة، فهناك من شاهد دكتور أكتوبوس في طفولته، ومن اختبر إليكترو في طفولته، ومن شاهدهما كليهما في شبابه فقط لكي يكون على دراية بأفلام الماضي بينما يتابع أفلام عالم مارفل الحالية، فالقصة الرئيسية للفيلم لا تختلف كثيرًا عن فيلم الرسوم المتحركة المتميز الرجل العنكبوت في العالم المتشعب spider man into the spider verse، لكن الفارق أن الشخصيات القادمة من العوالم الأخرى ليست من عوالم أخرى داخل نسيج الأفلام، بل من عوالم سينمائية أخرى، يجعل ذلك الفيلم واعيًا تمامًا للتأثير الشعبي لتلك الشخصيات، فيدرج بسهولة مزحات أصبحت جزءًا من ثقافة الإنترنت، ويصبح الممثلون أنفسهم نسخًا من ذواتهم القديمة، فيتماهى المشاهد مع وجودهم التمثيلي على الشاشة في أوقات، ويصبح وجودهم أشبه بكسر الحائط الرابع في أوقات أخرى.

فيلم مليء بالأشرار دون أشرار

على الرغم من تمحور القسم الأول من الفيلم حول زحف أشرار متنوعين من العوالم المختلفة، إلا أن «لا طريق للمنزل» لا يملك أشرارًا حقيقيين، فهو فيلم يتصف برفق نادرًا ما يتواجد في أفلام أبطال خارقين ملحمية، فعلى الرغم من أيقونية تلك الشخصيات بل شرها النمطي حتى مثل حالة شخصية جرين جوبلين التي يلعبها ويليم ديفو بكارتونية ومغالاة محببة للقلب، إلا أنه ليس شريرًا حقًّا، فكل أشرار أفلام الرجل العنكبوت المختلفة أبرياء حُوِّلوا بواسطة تجارب علمية أو تفاعل ما إلى نسخ مضخمة من أنفسهم لا يملكون سيطرة حقيقية على تصرفاتهم الشريرة، هم على الأغلب أشبه بالرجل العنكبوت نفسه الذي لم يملك يدًا في تحوله، الفارق فقط أن سم العنكبوت لا يسيطر على عقله بقدر ما يسيطر على جسده.

لا طريق للمنزل هو فيلم عن الفرص الثانية والسماح للآخرين بأن يعيشوا حسب مبادئهم الحقيقية، وعلى الرغم من بساطة ذلك بالنسبة إلى أفلام الأبطال الخارقين الحالية التي تملك خطوطًا قصصية معقدة وأشرارًا يسعون لتدمير العالم، إلا أنه يعمل لصالح الفيلم، فهو في النهاية فيلم نضوج عن حفنة من طلبة الثانوية يسعون لعيش حيوات طبيعية على الرغم من تصدع العالم من حولهم، صنع جون واتس فيلميه السابقين على شاكلة أفلام النضوج، حتى اختيار توم هولاند وزندايا بمظاهرهم الفتية رسخ أكثر لذلك، لكن اختيار الممثلين الجيد لم يكن كافيًا لصنع إضافة ثورية لعوالم الرجل العنكبوت المختلفة والمؤثرة سينمائيًّا، فجاءت تلك الأفلام أخف من اللازم، وبدا بيتر باركر نفسه دون صراع حقيقي أو مواجهات داخلية مع هويته الثنائية، لكنه ومع حلول الجزء الثالث حصل على ذلك، ربما متأخرًا.

بداية مع اقتراب النهاية

مع القوة الكبيرة تأتي المسئولية الكبيرة.

تعتبر قصة فيلم لا طريق للمنزل الرئيسية هي محاولة ثلاثة أصدقاء الحصول على موافقة إحدى الجامعات الكبرى على ملفاتهم، تخرجوا للتو من مدرسة ثانوية متخصصة في العلوم، ويملك كلٌّ منهم إمكانيات كبيرة ومستقبلًا مشرقًا، ومثل أي مجموعة من الطلبة تقف أمامهم عوائق، لكن في هذه الحالة العائق هو ظهور هوية الرجل العنكبوت للعالم. دائمًا ما نقابل بيتر باركر سينمائيًّا في مرحلة مراهقته وشبابه، فتكون مشكلاته مدرسية أو عاطفية، لكن تتغير تلك المشكلات حينما تسيطر عليه الرغبة في الانتقام، مما يؤدي إلى اجترار سلسلة من الأحداث التي تؤدي به لاستكشاف طبيعة أخطائه وإدراك أن لأفعاله الصغيرة وقعًا يصعب تحمله.

في ذلك الفيلم يحصل بيتر باركر/الرجل العنكبوت على قصة نشوء origin story حقيقية تعوض طبيعة تناوله الخفيفة في الفيلمين السابقين، هنا ينكسر قلبه ويصنع أخطاءً ضخمة يجب أن يدفع ثمنها بخسارة كبيرة، تلك الخسائر وتلك الطبيعة الهشة هو ما يجعل الرجل العنكبوت ما هو عليه، وهو ما كان متوقعًا حدوثه في الأفلام السابقة، هنا يبدو بيتر باركر أكثر إنسانية أي أكثر عرضة للخطأ، لطالما كان كذلك، لكنه كان يحصل على المساعدة بسهولة، أما هنا فهو يأخذ قرارات متهورة، وربما غبية وبتحدى سلطة من هم أكبر سنًّا وقيمة، يحصل على الدعم من أصدقائه، لكنهم ليسوا أذكى أو أكثر قدرة منه، باختصار يحصل باركر على ما فقده في الجزأين الماضيين، يحصل على الفقد.

«لا طريق للمنزل» فيلم ضخم وممتع، لا تتوقف المفاجآت عن الحدوث به حتى إن كانت نتائجها متوقعة، يصبح فوضويًّا أحيانًا وتكراريًّا أحيانًا أخرى، لكنه لا يفقد شعوره أبدًا بإنسانية شخصياته وطبيعتهم الضئيلة وسط العوالم الهائلة، وحتى على الرغم من طبيعة الفيلم التجارية والاستهلاكية والنية الواضحة لصناعه لكسب أموال عدة أجيال متحمسة لرؤية شخصياتها المفضلة، فإنه يصعب انتقاد ذلك وسط الصدق والدفء الذي نُفِّذ به الفيلم والحماس والسعادة التي تبدو على المشاركين به، فهو متعة مضمونة لأي محب للشخصية منذ اقتُبِست للشاشة، كما أنه مرضٍ لمحبي الربط بين أفلام عالم مارفل السينمائي التي – على الرغم من عدم ثبات جودتها – من حين لآخر تصنع فيلمًا مرضيًا كهذا.