دعم الاتحاد السوفييتي إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 دبلوماسيًا وعسكريًا، لاعتقاده أن الدولة اليهودية ستكون واحة شيوعية في الشرق الأوسط، وسيتمكن من خلالها من مواجهة النفوذ والخطط البريطانية في المنطقة، لكن تل أبيب خيبت أمل موسكو سريعًا وأعلنت ولائها للمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

ردًا على خيبة الأمل، تحالف الاتحاد السوفيتي مع الجمهوريات العربية الناشئة -سوريا ومصر بشكل خاص-، والتي كانت تعتبر إسرائيل عدوها الأول. بناء عليه، أصبحت موسكو عدوًا شبه مباشر لإسرائيل، خاصة بعد يونيو/ حزيران عام 1967، عندما قطعت علاقاتها بشكل كامل مع تل أبيب، دعمًا لحلفائها العرب الذين هزموا بشكل مخزٍ في حرب الأيام الستة، وهي القطيعة التي امتدت حتى مطلع التسعينيات لأسباب تتعلق بالحرب الباردة.

جندت المخابرات السوفييتية KGB، منذ تأسيس إسرائيل، عديدًا من اليهود الذين يحملون الأيديولوجية الشيوعية، لمتابعة الأوضاع الداخلية في تل أبيب عن كثب. ولما وقع الفراق بين الدولتين، أصبحت مهمة هؤلاء العملاء الحصول على معلومات عن الجيش والأسلحة والقيادات الإسرائيلية.

بمرور الوقت نجح الـ KGB في اختراق أغلب المؤسسات الإسرائيلية، كالجيش والمخابرات والكنيست، وتنمية شبكة عملائها لتشمل، إلى جانب بعض المؤمنين بالشيوعية، أشخاصًا تم إغراؤهم بالمال، أو تم ابتزازهم بعائلاتهم التي كانت لا تزال تعيش في الاتحاد السوفييتي.

في المقابل، حاولت تل أبيب، على مدى سنوات طويلة، تفكيك شبكة الـ KGB ونجحت في إلقاء القبض على العديد من عملائها، لكن كثيرًا من هؤلاء العملاء لم يعرف عنهم شيء – للعامة على الأقل – حتى العام 2016، عندما كشف النقاب عن وثائق سرية خاصة بالـ KGB، كانت قد وصلت للمخابرات البريطانية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي أواخر العام 1991.

هذه بعض من قصص أبرز عملاء KGB الذين نجحوا في خداع إسرائيل طويلًا:


ماركوس كلينبرغ: الجاسوس السوفيتي الأخطر

ولد ماركوس كلينبيرغ في مدينة وارسو ببولندا عام 1918 لعائلة يهودية متشددة. اضطر إلى الفرار إلى الاتحاد السوفييتي عام 1939، بسبب الغزو النازي لبلاده، وهناك بدأ في دراسة الطب. التحق كلينبيرغ بالجيش الأحمر عام 1941 للمشاركة في القتال، عقب دخول القوات الألمانية للاتحاد السوفييتي. وبعد انتهاء الحرب عاد إلى بولندا ليبحث عن عائلته، فاكتشف أن والديه وشقيقه قد ماتا في معسكر اعتقال.

ضاق بماركوس موطنه الأول فقرر السفر إلى الدولة الوليدة؛ إسرائيل. انضم إلى قطاع الخدمات الصحية بجيش الاحتلال، وترقى حتى حصل على رتبة عقيد ومتخصص في علم الأوبئة. وفي عام 1957 التحق بمعهد إسرائيل للأبحاث البيولوجية، وهو منشأة عالية السرية تطور فيها أسلحة كيميائية وبيولوجية ومضاداتها، ويقع مقره في مدينة نيس زيونا جنوب تل أبيب.

انتبهت المخابرات السوفييتية في ذلك الوقت إلى ماركوس فعملت على تجنيده. كان كلينبيرغ شيوعيًا مخلصًا ومحبًا للاتحاد السوفييتي الذي آواه وسمح له بمحاربة النازيين الذين قتلوا عائلته بأكملها، لذلك وافق بسهولة على العمل مع الـ KGB بدافع الامتنان.

ظل العالِم يترقى من منصب إلى منصب حتى أصبح نائبًا لرئيس المعهد ومطلعًا على كافة أسراره. وخلال هذه الفترة، كان ينقل أسرار الأسلحة البيولوجية الإسرائيلية إلى الاتحاد السوفييتي.

تمكن كلينبيرغ من تجنب الكشف لنحو ربع قرن، قبل أن يقع في يد وكالة الأمن الداخلي الإسرائيلية (الشاباك) عام 1983، بمساعدة عميل مزدوج. عذب ماركوس بشدة حتى اعترف بعمله لصالح الـ KGB، ثم خضع لمحاكمة سرية وأدين وحكم عليه بالسجن 20 سنة.

سجن ماركوس لمدة 10 سنوات تحت اسم مزور في حبس انفرادي، ولم تكشف إسرئيل عن قضيته سوى في عام 1993. بحلول أواخر الألفية الثانية بدأت صحة كلينبيرغ تتدهور وبرزت مطالب بالإفراج الصحي عنه، وهو ما دفع تل أبيب إلى إطلاق سراحه ووضعه قيد الإقامة الجبرية حتى انتهت عقوبته عام 2003، بعدها سمح له بالسفر إلى فرنسا للعيش بجوار عائلته.

دأبت الصحف الإسرائيلية على وصف كلينبيرغ بأنه الجاسوس الأخطر في تاريخ إسرائيل، لكن بالنسبة إليه لم يكن يشعر بالخجل أو العار وظل يردد حتى وفاته عام 2015 أنه «لا يعتبر نفسه جاسوسًا»، ويعتقد أنه ساهم في إحلال السلام العالمي.

اقرأ أيضًا:أكثر ما تأمله «إسرائيل» وأكثر ما تخشاه


شمعون ليفنسون: عندما اخترق الـ KGB الموساد

في إبريل/ نيسان عام 1983، كان الضابط الإسرائيلي بقوات الاحتياط شمعون ليفنسون يعمل في تايلاند ويمر بأزمة مالية، فدخل سفارة الاتحاد السوفييتي في بانكوك، وعرض عليهم المساعدة مقابل المال.

تاريخ ليفنسون الحافل جعل منه صيدًا ثمينًا للغاية بالنسبة لوكالة الاستخبارات السوفييتية، إذ لم يكن مجرد ضابط احتياط عادي، فالرجل سبق له العمل كملحق عسكري في تركيا، ومنسق بين جهاز المخابرات الإسرائيلي والجيش الأردني، ورئيسًا لقسم التوثيق في مديرية المخابرات العسكرية برتبة عقيد، كما سبق له ترؤس فريق في جهاز المخابرات الداخلية «الشاباك»، والعمل في جهاز المخابرات الخارجية «الموساد» كمساعد لرئيس الاتصال الخاص في مقر الجهاز.

جند الـ KGB ليفنسون، وأوعز له بمحاولة الانضمام إلى الموساد مرة أخرى، لكن طلبه رفض. وبفضل معارفه رفيعي المستوى عُيّن كبير ضباط الأمن في مكتب رئيس الوزراء في مايو/ آيار عام 1985، لكنه اضطر إلى مغادرة وظيفته في أواخر العام نفسه بسبب عدم انضباطه.

يصف جهاز المخابرات الداخلية «شاباك» شمعون ليفنسون بأنه «كابوس حقيقي»، إذ نقل منذ العام 1983 وحتى قبض عليه عام 1991، قدرًا كبيرًا من المعلومات الهامة إلى المخابرات السوفييتية، مستغلًا خبراته السابقة وقربه من صناع القرار، وحصل في المقابل على 31 ألف دولار.

اقرأ أيضًا:نتنياهو وانعدام الأمن في إسرائيل

شملت المعلومات التي سربها ليفنسون، هيكل مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي ووحداته المختلفة، بما في ذلك شعبة الاستخبارات العسكرية، والموساد، والشاباك، ووحدة العمليات الخاصة للشرطة، وأسماء وتفاصيل الوحدات والوحدات الفرعية وأسماء رؤسائها وطريقة عملها.

كما سرب هيكل مكتب رئيس الوزراء ونشاطه وشخصياته الرئيسية، وتفاصيل عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، ومعلومات عن ضباط المخابرات الأمريكية المتعاملين مع المخابرات الإسرائيلية، بما في ذلك أسمائهم ومهامهم وتخصصاتهم.

كُشف ليفنسون عام 1991 وقبض عليه وقدم للمحاكمة. أدين بتهمة الخيانة وحكم عليه بالسجن لمدة 12 عامًا، قضى بعضها رفقة ماركوس كلينبيرغ في زنزانته. أطلق سراح ليفنسون عام 1999، بعد خصم ثلث عقوبته، بسبب حسن سلوكه، وظل خاضعًا للمراقبة حتى العام 2003، ثم سمح له بالسفر خارج إسرائيل.


شبتاي كالمانوفيتش: جاسوس في زي رجل أعمال

ولد شبتاي كالمانوفيتش في ليتوانيا السوفييتية لأسرة يهودية عام 1947. عندما كان شبتاي في أوائل العشرينيات من عمره، طلبت عائلته من السلطات المختصة إذنًا بالهجرة إلى إسرائيل، فانتهز الـ KGB الفرصة، واشترط أن يعمل شبتاي جاسوسًا لحسابها، وقد كان.

سافر كالمانوفيتش إلى إسرائيل عام 1971، وانخرط سريعًا في الحياة السياسية عبر الانضمام إلى حزب العمل، وعمله في مكتب الصحافة الحكومي، وكمساعد لأحد أعضاء الكنيست، ما أتاح له الوصول إلى معلومات حول منظمة ناتيف الحكومية شبه السرية التي تقدم المساعدة لليهود في الاتحاد السوفييتي وبلدان الكتلة الشرقية الأخرى.

بدأ شبتاي في أواخر السبعينيات الترويج لنفسه كرجل أعمال دولي، فأسس شركة مقاولات قامت بأعمال في عدد من دول أفريقيا كسيراليون وبوتسوانا – حيث عمل كسفير شبه رسمي لإسرائيل -، وشارك في تعدين الماس وصفقات أسلحة، وسرعان ما أصبح أحد أثرى رجال الأعمال الروس الإسرائيليين.

اقرأ أيضًا: صناعة الكراهية: الإسلام في مؤسسات التعليم الإسرائيليسمحت له ثروته بإقامة علاقات وثيقة مع عديد من الشخصيات البارزة في الكنيست والحكومة، بما في ذلك رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير، واستغل هذه العلاقات في الحصول على معلومات حساسة ونقلها إلى الاتحاد السوفييتي. ووفق تقارير عدة فقد عمل شبتاي، في تلك الفترة، جاسوسًا مزدوجًا ونقل معلومات عن السوفييت إلى الموساد.

ألقت المخابرات الإسرائيلية القبض على كالمانوفيتش عام 1987، واتهمته بالتجسس لصالح الـ KGB. قدم شبتاي للمحاكمة، واعترف بجريمته، فحكم عليه بالسجن لمدة 9 سنوات، لكنه خرج بعد 5 سنوات فقط بعفو رئاسي، بعد ضغوط روسية.


وما خفي كان أعظم

عمل ليفنسون ضابطًا برتبة عقيد في المخابرات العسكرية، وترأس فريقًا في جهاز المخابرات الداخلية «شاباك»، كما عمل أيضًا في جهاز المخابرات الخارجية «الموساد».

نشرت الصحف الإسرائيلية، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2016، وثائق سرية سربها ضابط المخابرات السوفييتي الأسبق، فاسيلي ميتروخين، إلى المخابرات البريطانية عام 1992، وظلت طي الكتمان طوال هذه السنوات.

الوثائق تشير إلى وجود عملاء كثر لـ KGB في إسرائيل لم يتم اكتشافهم، بينهم 3 من أعضاء الكنسيت عن حزب العمل، ومهندسًا مدنيًا عمل في منصب سري في قسم هندسة صناعات الطيران في إسرائيل، ومهندسًا آخر عمل على صيانة وتحديث المحرك الخاص بدبابة ميركافا المتقدمة الإسرائيلية، شملت القائمة أيضًا العديد من الصحفيين، وضابط استخبارات غامضًا سُمي «الحارس»، يعتقد أنه كان يعمل في شعبة مكافحة التجسس في الشاباك.

أما المفاجأة الحقيقية، كانت تمكن السوفييت من تجنيد قائد عام وعضو بهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، والذي لم تتخذ إسرائيل ضده أية إجراءات قانونية، عندما أبلغتها المخابرات البريطانية باسمه عقب وصول الوثائق إليها مباشرة، خوفًا من الفضيحة، ولأن الجنرال المذكور كان على وشك الموت.