تبدو الرواية السورية اليوم مسكونة بهم الحرب شاء كتّابها ذلك أو أبوا، شأنها في ذلك شأن كثير من الروايات العربية التي دارت طويلاً حول مآسي أوطانها المأزومة سواء كانت تحت نيران الاحتلال الخارجي مثل الرواية الفلسطينية، أو القهر والحروب الداخلية كما في سوريا والعراق ولبنان وغيرها.

ويكون على الروائي المبدع في كل مرة أن يُحسن استخدام أدواته لتقديم صورة واقعية عن مجتمعه ونضال شعبه، في ظل الحراك السياسي والاجتماعي الذي يمور داخليًا وخارجيًا وأن يتخلّص من كل ما يعكّر عليه صفو الكتابة، لكي يخرج للقارئ سردًا روائيًا متماسكًا يعبّر عن قضيته بذكاء دون الوقوع في المباشرة أو تقديم صورة خطابية زاعقة.

في روايته الجديدة يدور الروائي السوري ممدوح عزام حول عددٍ من الأسئلة المحورية التي تدور في الأذهان طويلاً: هل يؤثر الماضي على حياتنا ويرسم مصائرنا؟ كيف يمكن لحكاية ما في الماضي أن تكون كاشفة بل وعاكسة لأحداث ومواقف أفرادها في المستقبل، إلى أي مدى يمكن لتفاصيل وإشارات صغيرة وعابرة من مواقف في الماضي، أيام البراءة والطفولة والشباب، أن تكون مؤثرة وفارقة بل وحاكمة في طبيعة الشخصيات وحياتهم؟ حول هذه الأسئلة وغيرها تدور رواية «أرواح صخرات العسل».


سرد الحكاية .. حكاية السرد

منذ السطور الأولى في الرواية يدرك القارئ أنه بين يدي «حكاية» بكل ما تحمله الحكايات من خصوصية وما تشتمل عليه من تفاصيل وتداخل في الشخصيات والأحداث بشكل مباشر، وبما يقوم السارد حينها من سيطرة كاملة على مجريات الأحداث ودراية تبدو شاملة بكل دوافع ومبررات الشخصيات لأفعالها ومواقفها داحل الرواية. وهكذا يتألف السرد من عدد من الحكايات التي يرويها البطل والرواي العليم نائل الجرف عن أصدقاء قريته «المنارة» عابد، وحامد، وخالد.

اقرأ أيضًا:عمت صباحًا أيتها الحرب.. توثيق الحرب السوريّة روائيًا

حكاية ثلاث أصدقاء ونشأتهم في القرية وعلاقاتهم بمن حولهم من جيران ومسؤولين في قريتهم تتحوّل إلى رمز للحياة في سوريا كلها بأبعادها وتحولاتها المختلفة، وكيف تكون النشأة والطفولة مؤثرة وفارقة في حياة أصحابها وحاضرهم ومستقبلهم، منذ التحاقهم بالمدرسة وعلاقتهم بمعلميهم ومدير مدرستهم، وكيف يمكن تربية الأطفال والطلاب على السمع والطاعة، أو على أن يصبحوا وشاة يكتبون التقارير عن زملائهم وأصدقائهم، وكيف تتحوّل تلك الممارسات والتصرفات فيما بعد إلى وصمة عارٍ تلاحق أبناء القرية كلها.


البحث عن الأب .. البحث عن الهوية

بين حكايات الشباب الثلاثة تبرز حكاية «عابد الجوف» وقصة بحثه عن والده «جميل الصخري» وعلاقته الملتبسة بأمه وزوج أمه، وكيف سعى ذلك الشاب منذ بلغ الثامنة عشرة إلى أن يستقل بنفسه ويبعد عن هذا البيت الذي لم يجد فيه أمانًا وراحة على أمل أن يجد والده «جميل» الذي بدا له كحلمٍ بعيد المنال، وهنا يبرز سؤال آخر بين ثنايا الرواية إلى من ننتسب؟ هل إلى البيت الذي نشأنا وتربينا فيه وعشنا أيام طفولتنا وشبابنا، أم يحق لنا أن نبحث عن بيتٍ/وطنٍ آخر يحقق لنا ما نصبو إليه من كرامةٍ وحريةٍ وتحقق.

اقرأ أيضًا:الخائفون .. صورة نفسية للمأساة السورية

من جهةٍ أخرى تتضافر مع حكايات الشباب والحلم والثورة حكايات الحب والغزل العفيف بين شباب القرية وبناته، ذلك الحب الذي يبدأ بسيطًا وعابرًا وما يلبث أن يتحوّل هو الآخر إلى رمزٍ للمحبة الأكبر للبلد والوطن وشوق للعدل والحرية .


سوريا .. وروايات الأجيال

كان يفكّر أن في وسعه أن يأخذ هند إلى مغارتهم في صخرات العسل، وأنهما يستطيعان أن يختفيا هناك من جديد بعيدًا عن تدريبات عصابة النبريش، أو قوات زيتون أبو طرة. ولكن العالم يبدأ في الصغر والصيق أمام عينيه، تصغر مساحة الأرض التي يمكن أن يتحرك داخلها، إذ بدأت الصخرات تختفي من أمامه، ولا يعرف إذا تسلل إليها حاملو الأسلحة أم لا، ولكن قال لنفسه لا، إنها أرضنا نحن، ونحن من سنجد مدفع ضاهر ذات يوم. ويحزن لأنه يريد الحرية، ولكنه لم يعد يستطيع أن يحوش الهندباء، يا صخرات! يا صخراتنا ينادي في الصباح وهو يرى تلك الوعور الرمادية التي يستاق إليها تبتعد يومًا آخر! لن تعود إليه تلك الطمأنينة التي كانت تمنحها الصخور!

ليست المرة الأولى التي يخوض فيها الروائي ممدوح عزام حكاية الشأن السوري بهذا القدر من الصدق والحرص على تصوير أدق تفاصيل الشعب السوري، بل سبق له أن كتب روايته الملحمية «قصر المطر» التي حكى فيها جانبًا هامًا من تاريخ الثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي، ورسم فيها صورًا واقعية جميلة للنضال الوطني في سبيل الحرية والاستقلال.

كما كانت آخر رواياته «نساء الخيال» الصادرة مع بدايات الثورة السورية عام 2011، والتي عرض فيها أيضًا لحكاية جيل من السوريين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حينما صعد حزب «البعث» للسلطة في «سوريا»، وكيف تحوّل هذا الصعود إلى حجرة عثرة تحطّمت عليها آمال هذا الجيل وتطلعاته كلها نحو حياةٍ أفضل!

ثم ها هو هنا يقدًم لنا صورة أخرى من صور المجتمع السوري وحياته وتغيرات أفراده في إطار تلك الحرب اللعينة التي فرضت نفسها عليه ولم يجد أحدهم مفرًا من مواجهتها، حتى كانت نهايتهم المأساوية بسبب تلك الحرب.

من جهةٍ أخرى يبدو الروائي «ممدوح عزام» على وعيٍ شديد بدور الأدب زمن الحرب، وكيف يكون عليه التخلص من الآثار المباشرة والأحداث القاسية المؤلمة التي يمر بها ويتعرّف عليها ليل نهار، حتى يكتب روايته التي تصف الواقع بحيادية وتعبّر عن الشخصيات بصدق وهي في الوقت نفسه لا تبتعد كثيرًا عن كل هذا الألم والقسوة ولكنها تحكيه بأسلوب سردي متماسك.

في شهادةٍ له في موقع الجمهورية يتحدث عن هذا المأزق وتلك المشكلات:

كيف يستطيع الروائي أن يضمن العدل في الرواية؟ كيف يقف بين المتقاتلين؟ فنحن هنا في سورية أمام مجموعات متقاتلة تنتمي إلى طينة واحدة، (وقد يجد الروائي بين الأفراد الذين يقاتلون ضد النظام، أو بين أولئك الذين يعارضونه سياسيًا، مستويات من التناحر والعداء والرغبة في الإقصاء، بقدر ما يجده لدى معادلة: معارض/موالٍ) منهم كان حتى الأمس القريب يشتري البندورة أو الشاي أو المتة من دكان جاره، منهم من كان سيمضي سهرة لعب الورق برفقة الآخر. ثم حدث افتراقٌ رأسيٌ بين الاثنين. من منهما على حق؟ هل تسألُ الرواية هذا السؤال؟ هل هو من بين المشاغل التي تعنيها، أم أنه سؤالٌ مؤجلٌ متروكٌ لتفكير القارئ؟ لا تسأل الرواية أسئلة فكرية مباشرة. وربما قد يكون السؤال عن الحق متروكاً للقارئ، بل يجب أن يُترَكَ للقارئ كي لا يتهم الروائي أو الرواية بالتحيز والحزبية والتجني على خيارات الناس.

في النهاية لا نصيحة في الحب – كما قال محمود درويش – لكنها التجربة، وكذلك الأمر في الكتابة الأدبية فعلى كل كاتبٍ وروائي أن يقدّم قراءته للواقع ومعرفته الواعية بصراعات مجتمعه وتقلباته وتغيراته، سواء كان ذلك في وقت الأزمات والحروب أو حتى في غيرها، ولعل هذا ما أجاد تقديمه «ممدوح عزام» في رواياته السابقة، وما استطاع أن يعبّر عنه بصدق في روايته الأخيرة تلك.

ممدوح عزام روائي سوري، من مواليد 1950، يعد أهم الأصوات السردية السورية المعاصرة، صدر له في القصة القصيرة مجموعات «نحو الماء»، و«الشراع»، وعدد من الروايات أهمها «قصر المطر»، و«أرض الكلام»، و«نساء الخيال».