صدر فيلم «نابليون – Napoleon» منذ أيام قليلة من إخراج ريدلي سكوت في تعاونه الثاني مع خواكين فينكس، وأعاد معه ذكريات أهم وأشهر فيلم لم تكتب له الحياة، رائعة المخرج الكبير ستانلي كيوبريك عن حياة الجنرال-الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت، والذي وصفه كيوبريك في أحد خطاباته بأنه «سيكون أفضل فيلم خرج للنور في تاريخ السينما»، فلا يوجد عاشق للسينما لم يسمع عن هذا الإعجاز، ولم يتيم بما فيه من جهد وشغف وصل لحد الهوس من جانب كيوبريك، قضى فيه ما يزيد عن عامين كاملين واستعان بكل ما أوتي من قوة وتكنولوجيا متاحة، للتحضير لأعجوبة يهدي بها تاريخ نابليون للعالم بحروف من ذهب ومجد لا يفنى، لكن كان لهوليوود رأي آخر.

أثناء الانتهاء من تصوير ومونتاج أسطورته 2001: A Space Odyssey، بدأ هوس ستانلي كيوبريك بحياة الجنرال الفرنسي، وقصة صعوده لقمة العالم ومواجهته لكل التحديات في طريقه، وبالأخص عبقريته العسكرية وحملاته الحربية حول أوروبا، وعلاقته شبه الخيالية مع زوجته جوزفين، وكلما تعمق في الاطلاع على سيرته كلما زاد إعجابه بالجنرال الفرنسي، حتى آمن في النهاية أنه أكثر رجل إثارة للاهتمام سمع عنه في حياته، وشرع في حملة مستحيلة لجمع كل تفاصيل حياة نابليون، وأي شيء له علاقة بتلك الفترة التاريخية حول العالم.

هوس ستانلي كيوبريك

 بدأ كيوبريك في التحضير لسيناريو نابليون بأن قرأ كل كتاب ممكن عن حياته وتاريخه، وعددها المئات من المراجع والمؤلفات مما نجح في الوصول إليه، حتى أنه تعاقد مع المؤرخ الإنجليزي فيلكس ماركهام المتخصص في حروب نابليون بجامعة أكسفورد العريقة، بشكل شخصي حتى يوفر معلومات ويجيب عن تساؤلات كيوبريك بخصوص التاريخ الحقيقي لنابليون، واعتاد الدخول في حوارات طويلة مع البروفيسور لساعات عن تفاصيل حياة الجنرال، والوقوف على أدق التفاصيل من الطقس يوم المعركة لعادات نابليون في تناول الطعام، وأحيانًا مناقشة استراتيجيات المعارك وأخطاء نابليون وكيف يمكن تفاديها، كما يقال إنه دفع المال لتلاميذ البروفيسور مقابل اطلاعهم على أعمال مختلفة عن أهم الرجال في حياة الجنرال وتسجيل ملاحظاتهم.

كذلك شاهد كل الأعمال الفنية التي تناولت نابليون حتى تاريخه، وأهمها الملحمة الطويلة Napoleon عام 1927 وسلسلة War And Peace السوفيتية عن رواية تولستوي وغزو روسيا، ولم يعجب بكليهما واعتقد أن صناع السينما فشلوا في عرض قصته بشكل مرضٍ، وأراد تقديم نسخة مفصلة ومعدلة تنقل للمشاهد سحر الفترة، فقرر إرسال رجاله حول أوروبا في رحلة بحث عن أي شيء من حياة نابليون، سواء مباني أو لوحات أو أدوات منزلية أو نقوش، وانتهى بجمع 17000 صورة وقطعة مختلفة تقريبًا من بداية الثورة الفرنسية حتى هزيمة نابليون ومنفاه.

وزار أماكن المعارك التاريخية قدر الإمكان وما تبقى منها، واستكشف ما يقارب 15000 موقع، على أن يتم التصوير بين إيطاليا وفرنسا بنفس المواقع الحقيقية، ثم المعارك بشكل خاص في رومانيا حيث احتفظت بمساحات واسعة من الأراضي غير المأهولة، يمكن استخدامها بحرية في عرض الحروب، وهناك اتفق مع الحكومة الرومانية لمشاركة حوالي 50000-40000 جندي من الجيش في مشاهد القتال!

وبرر ذلك قائلًا:

لا أريد تزييف الأمر بعدد أقل من الجنود، لأن المعارك النابليونية كانت في العلن، وهي لوحة واسعة تتحرك فيها التشكيلات الحربية بطريقة تكاد تكون موسيقية، أريد أن أصور هذا الواقع في فيلم، وللقيام بذلك من الضروري إعادة خلق جميع ظروف المعركة بدقة متناهية.

أما عن الاهتمام بأصغر تفاصيل فيلمه، فقد عمد لإعادة إنتاج الملابس العسكرية لجيوش فرنسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا (إمارات شمال ألمانيا قديمًا) المشاركة في حروب نابليون، كما وردت في الكتب والصور التاريخية التي جمعها بالحرف، وبحث حول مصممي الأزياء للحصول على أقل تكلفة ممكنة مقابل أكبر جودة، باستخدام نوع خاص من الورق لا يمكن تمييزه خلال الكاميرا، وبالفعل تم إنتاج عدد من البدلات العسكرية وتوجد حاليًا في متحف ستانلي كيوبريك.

كيف كان سيبدو نابليون؟

يتناول الفيلم نابليون من ولادته وحتى الوفاة، ويبدأ بطفل يبلغ من العمر 4 سنوات يدعى نابليون، مستلقٍ على سرير بسيط بجوار شقيقه الغاطس في نوم عميق، ويحمل في يده دمية صغيرة وحوله جنود مصنوعون من الخشب، وبجواره أم فقيرة تغذي مخيلته بحكاية قبل النوم، في هدوء ناعم تحت أضواء الشموع الخافتة، ثم ينتقل سريعًا إلى مراهقته كفتى ساذج لا يفقه شيئًا عن العالم، ويتعرض للتنمر وقسوة البشر خلال خروجه الأول للواقع بعيدًا عن تدليل أمه، كما أنه منعزل عن زملائه ودائم الانشغال بأفكاره وخيالاته الداخلية، وغير مكترث بما يحدث حوله ولا استهزاء الناس بطبيعته الحساسة، حتى انضمامه للجيش ثم قيام الثورة الفرنسية واقتحام سجن الباستيل، حينها يقوم الشاب نابليون بإطلاق الناس على رأس أحد قادة الهجوم، ويبدأ رحلته خلف السلطة والصعود لقمة العالم، مع راوٍ للأحداث يقوم بنقل معلومات وأحيانًا التعليق عليها.

بجانب مسيرة نابليون الحربية والسياسية، يتطرق السيناريو لزوجته ومحبوبته جوزفين، التي ربما تعرف عليها لأول مرة خلال حفلة جنس جماعي، كما توصل كيوبريك خلال بحثه، ودارت بينهما علاقة غامضة من العشق والهوس والجنون أحيانًا، وحرص نابليون على مراسلة حبه الوحيد بشكل منتظم خلال حملاته العسكرية، وتبادل الحديث معها في أي فرصة ممكنة.

يرى كيوبريك أن مسيرة نابليون كانت عبارة عن امتداد لأحلام الطفولة، وربما يشير بذلك إلى أن غزو نابليون لأوروبا كان خيالًا لفتى مغرم بألعاب الحرب وجد طريقه للواقع، وبعد أن خسر نابليون إمبراطوريته الفسيحة مرتين، يعلن كوبريك أنه أصبح مرة أخرى ذلك الفتى الحالم، مجردًا من السلطة التي بذل الغالي والنفيس في سبيل الحصول عليها، وأثبت أنه ليس كيانًا أكبر من العالم أو يصنع قدره بنفسه كما أعلن من قبل، ولكنه بدلاً من ذلك شخصية بشرية للغاية تتوسع حياتها بشكل كبير لتشمل كل ما في طريقها ثم تنكمش مرة أخرى إلى أصوله الصغيرة في غرفته البسيطة، وهو نفس المشهد الذي ينتهي به الفيلم بعد وفاة نابليون في منفاه الثاني، بجلوس أمه وحيدة شاردة الذهن من الحزن محاطة بألعاب ابنها الإمبراطور السابق.

في تصور كيوبريك لدور نابليون، كان الممثل الإنجليزي ديفيد هيمنج المشهور بأدواره في أفلام Blowup (1966) وDeep Red (1975) أو النمساوي أوسكار فيرنر في البداية، ثم حول تركيزه تجاه أسطورة هوليوود جاك نيكلسون، الذي شارك هوس كيوبريك بالإمبراطور وحياته، وظل متمسكًا بالفيلم حتى النهاية، أما لزوجته جوزفين فأراد النجمة المحبوبة أودري هيبورن، التي رغم اعتذارها عن الدور في خطاب لطيف للمخرج، فإنها ظلت خياره الوحيد طوال فترة التحضير، مع احتمال مشاركة كل من السير لورنس أوليفييه والسير أليك جينيس في أدوار مساعدة.

ليس كل ما يتمناه المرء يدركه

وبرغم أن نابليون كما وصفه كيوبريك «أحد هؤلاء الرجال النادرين الذين يحركون التاريخ ويشكلون مصير عصرهم ومصير الأجيال القادمة»، فقد فشل في منح الحياة لفيلمه الموعود، فبعد اكتمال السيناريو الأولي في 1969، وفي تصوره ربما عبارة عن فيلمين كل منهما تقريبًا يمتد ل 3 ساعات، ويتم عرضهما على التوالي في نفس الوقت، عندما أراد كيوبريك الموافقة النهائية من شركة MGM المنتجة، صدم بالرفض والتراجع عن الاتفاق، فقد كان اتفق معهم على التجهيز للسيناريو وتحديد الجدول الزمني للتصوير والميزانية منذ عامين، لكن خلال ذلك الوقت تغيرت قيادة الشركة المنتجة مع اهتمامات مختلفة للمنتجين الجدد، ومع صدور فيلم Waterloo في 1970 الذي صور آخر معارك نابليون وهزيمته، وقد ضرب رقمًا قياسيًا من الفشل التجاري والجماهيري، مما جعل الشركة غير مستعدة لتكرار التجربة، وتلك المرة بملحمة ستكلف ميزانية ضخمة من دون ضامن لعطش الجمهور للمزيد من نابليون، وبخاصة مع بدء انتشار السلسلة السوفييتية عن الحرب والسلام في الأسواق الغربية.

وجد كيوبريك نفسه في حيرة حيث تحطمت آماله، وسقطت جهوده في ترجمة شغفه على الشاشة بعد أن بذل نفسه في حلمه، لكنه لم يدع مجالًا لليأس وحول أنظاره سريعًا لفيلمه القادم A Clockwork Orange، ولم يحاول من جديد ليقينه من استحالة موافقة استوديوهات هوليوود على رؤيته، ثم أتيحت له الفرصة في استخدام بعض أبحاثه وأفكاره لفيلم نابليون ودراسته للفترة التاريخية، في فيلم Barry Lyndon في 1975، فمن خلاله يمكن اختلاس النظر على قدر ضئيل من عظمة ومجد نابليون ستانلي كيوبريك الضائع الذي حرمت منه السينما للأبد.

وفي 2009 صدر كتاب بعنوان Stanley Kubrick’s Napoleon: The Greatest Movie Never Made، بمساعدة زوجة ستانلي كريستين وشقيقها منتج معظم أفلام كيوبريك، يحمل في صفحاته مجموعة ضخمة من الصور والملاحظات والخطابات وبعض المحادثات المسجلة، الخاصة بكفاح كيوبريك مع سيناريو نابليون، مع كواليس مفاوضاته ورحلته في البحث عن أماكن التصوير وأزياء الحرب، وأجزاء من السيناريو –المتاح أونلاين للاطلاع– تحمل خط يد كيوبريك وإضافاته وتغييرات أراد تنفيذها، مع تفاصيل خاصة بكيفية وأوقات المشاهد والميزانية المقترحة لكل جانب من السيناريو، وغيرها من أدلة حية على عبقرية ستانلي كيوبريك، وسوء حظ العالم أن سلب حقه من اقتناء هذه التحفة الغالية.

وفي 2010 أعلن ستيفن سبيلبيرج أحد الأصدقاء المقربين لكيوبريك عن نيته في إعادة إحياء سيناريو نابليون، في عمل تليفزيوني مع شبكة HBO، ثم عاد في بدايات 2023 وأكد على اقتراب المشروع لرؤية النور أكثر من أي وقت مضى، على أن يكون عبارة عن مسلسل من 7 حلقات يحاول نقل الفيلم بكامل تفاصيله، كما فعل من قبل مع أحد أعمال كيوبريك غير المنتهية  A.I. Artificial Intelligence، الذي توفي قبل بداية التصوير وأخذ سبيلبيرج على عاتقه مهمة إنهائه، وحقق به نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر وموسم الجوائز.