كتب نجيب محفوظ الكثير من القصص في مرحلة الجامعة وما يليها، حتى صدور روايته الأولى «عبث الأقدار» عن مكتبة مصر عام 1939، والتي تدور أحداثها في مصر القديمة، وتشكل مع كل من «رادوبيس»، و«كفاح طيبة» ثلاثيته الفرعونية التي لا تتصل موضوعاتها ولا أحداثها إلا في أنها تدور في مصر القديمة، وسيعود إلى مصر القديمة في رواية رابعة بعد ما يقارب 50 عامًا هي «العائش في الحقيقة» التي تدور أحداثها حول سيرة إخناتون.

القصص التي كتبها محفوظ في مرحلة ما قبل صدور روايته الأولى تم تجميعها ونشرها في مجموعة تحمل اسم القصة الأولى منها، وهي «همس الجنون»، عن دار مكتبة مصر، ورغم أن المجموعة جرى نشرها بعد «زقاق المدق» في عام 1947، كما يقول محفوظ في لقاء مع جمال الغيطاني، فدار الشروق تعتبرها العمل الأدبي الأول لمحفوظ ضمن الأعمال الكاملة المنشورة، حيث سجلت سنة النشر بعام 1938.[1]

بعد مرور 80 عامًا على الإصدار الأول بحسب ترتيب دار الشروق،أعلن الكاتب الصحفي محمد شعير عثوره على مسودات لخمسين قصة كتبها نجيب محفوظ في التسعينيات، تم نشر أغلبها في مجموعتيه القصصيتين «صدى النسيان»، و«القرار الأخير»، وتبقى 18 قصة لم تنل حظها من النشر ضمن مجموعة الأعمال الكاملة لعدم احتواء أي مجموعة قصصية منشورة في حياة الأديب عليها. وبالتالي فقد سعى إلى تجميع تلك المسودات التي يبلغ عددها 18 مسودة وإصدارها في كتاب واحد يحمل عنوان «همس النجوم» عن دار الساقي للنشر في ذكرى ميلاده التي توافق العاشر من ديسمبر.

تنتمي جميع القصص المكتوبة في همس النجوم إلى عامي 1993 و1994، حيث يحمل المغلف المعثور عليه تاريخ كتابتها، وهو ما يمثل المخزون الأخير تقريبًا له، حيث يمثل عام 1994 العام الأخير لإبداعات محفوظ كما يؤكد محمد شعير، وذلك لتأثر يد محفوظ اليمنى بمحاولة الاغتيال التي سيتعرض لها في أكتوبر، ولا يبقى أمامه سوى مخزون كبير من مسودات القصص سيعمل على نشرها في مجموعات مختلفة بعد ذلك، أما الأحلام وهي النصوص الوحيدة التي كُتبت بعد محاولة الاغتيال، فسيُمليها شفاهة.


حكايات الحارة التي لا تنقطع

تدور أغلب القصص في «همس النجوم» في نطاق الحارة، العنصر الأليف في عالم نجيب محفوظ، حيث تدور أحداث 12 رواية من أصل 35 رواية كتبها محفوظ في هذا العالم، جسدت في أغلبها البعد المكاني، بينما لعبت دورًا رمزيًا في بعضها[2]، لكنها حارة تفتقد إلى العنصر الأساسي فيها، وهم «الفتوات»، وهو ما يحدد السياق الزمني إلى مرحلة ما بعد ثورة 1952، حيث اختفت الفتونة في ظل وجود الإنجليز في مصر.[3]

ترتبط إحدى القصص مع حكايات حارتنا، حينما يقابل محفوظ توحيدة، إحدى فتيات حارته القديمة، وقد أكل العمر على جمالها وشرب، ويقبل عليها مقلبًا ذاكرته، فتقول له: «إذا كنت لم تعرفني، فالذنب ليس ذنبي». ولكن توحيدة شغلت تفكير الأديب فعلًا فكتب عنها في الحكاية رقم 9 من حكايات حارتنا[4]، فهي الفتاة الأولى التي تتوظف في الحارة، وتخطف الأنظار بإفرنجيتها، التي ترافق أصالة ذوقها العربي. ولكنه الزمن الذي يفعل بشخصياته الأفاعيل، فيتذكر وجهها المليح في الماضي وبشرتها النقية، وقد غمرته التجاعيد، ومستها الشيخوخة والشحوب.

الحارة في همس النجوم، هي المكان الذي تدور فيه الحكايات، تشبه «حكايات حارتنا» حيث يغلب على معظمها روح التأمل، وإرسال العبرة، من خلال حكايات قصيرة لا تتجاوز الصفحات الخمس، ولا تخلو من مسحة بؤس، لكنها تختلف عن الحكايات من خلال أن الحكايات أشبه بما يمثل سيرة ذاتية[5] بينما همس النجوم ليست كذلك.

مطاردة سيد من الوجهاء للاعتراف بابنه الشرعي، ومجنون متنبئ يخبر الناس بما يقع لهم من مآسٍ، وشاب نحس يراوغ حظه التعس في الزواج، وشكوك في زور شهادات تدل على متهم بريء بالقتل. ولكنها أيضًا حكايات لا تخلو من أمل في مستقبل أفضل لأبناء المعلم عجوة الذي سيبني لهم بيتًا كبيرًا، وأصحاب الملابس البيضاء الذين تجمعوا بعد العاصفة عند باب الحصن القديم، «يتبادلون الهمس والشد على الأيدي في الظلام ويتطلعون بعزم ونفاد صبر إلى طلوع الفجر».


نسل الجبلاوي الذي لا ينتهي

على الرغم من أن نجيب محفوظ أكد في أكثر من مناسبة أن «أولاد حارتنا» لا تتصل بحال من الأحوال بملحمة الحرافيش، وأن نسل الجبلاوي يختلف تمامًا عن نسل عاشور الناجي، فلا يمكن إخفاء التشابه الكبير بين الروايتين، خصوصًا مع تأكيد محفوظ – في مرحلة السبعينيات – أن أولاد حارتنا كانت رسالة سياسية في الأساس، فإما أن نكون كالأنبياء أو كالفتوات[6]، وهو ما يتفق مع المغزى العام الذي ترمي إليه ملحمة الحرافيش، سواء بذكر سيرة الأولياء الصالحين كعاشور الناجي وشمس الدين، أو بذكر سير المفسدين.

في همس النجوم، تظهر لنا حكاية أخرى من حكايات أولاد الحارة، عن «ابن الحارة» مجهول الأب مثله في ذلك مثل عاشور الناجي. يأتيه – مثل جبل أحد أولاد الحارة – صوت غريب يأمره بالقيام وإنذار المعلم زاوي آمرًا إياه بأن يعيد كل الأموال الحرام الذي أخذها من مستحقيها، وهو ما سيترتب عليه تعرض ابن الحارة للضرب والإهانة، ثم يعاوده الصوت معيدًا نفس الأمر عليه، فيتشجع ويذهب، ولكن تلك المرة تقف الحارة في صفه وتحدث ثورة، تأخذ المعلم زاوي في ركابها، وبذلك يعيد محفوظ استخدام فكرة البطل الذي لا يهتم لشأنه أحد، ولكنه يكتسب موقف الحق من خلال خطابه.

وفي قصة أخرى تحت عنوان «السهم» يصيب سهم مجهول الهوية أحد وجهاء الحارة، وهو المعلم زين البركة، ويشك الجميع في أشباح الحصن القديم، الذين حققوا لهم العدل من قبل، وها هم يعيدون الكرة، وفي مطلع القصة يجيب رجلٌ الراوي قائلًا: «الظاهر أن الأزمنة التي تمر بالناس تمرض وتموت مثل بقية المخلوقات»، هذه الفكرة استخدمها محفوظ في بناء رواية «قلب الليل» التي نشرها عام 1975 حيث يكرر جعفر سيد الراوي نفس المعنى.

في الوقت الذي يعود فيه «شيخون» في قصة أخرى بنفس الاسم محملًا بالكرامات، ويعمل على علاج المرضى، ويتحلق حوله العشاق والمريدون، بعد غيبة طويلة عن الحارة، وفقر مدقع في الماضي، ليتم الكشف عن سر الغيبة في النهاية، من خلال رجال مستشفى المجاذيب الذين يطاردونه.


نبقة في الحصن القديم

في المقدمة التي أرفقها الصحفي محمد شعير المجموعةَ القصصية يوضح أن المسودات التي تم العثور عليها سبق أن نشرت مجموعة منها في دوريات صحفية مختلفة، بينما حاز اثنتان منها باختيار الأستاذ محمد سلماوي أثناء تجميعه لمجموعة من مختارات نجيب محفوظ للنشر تحت عنوان «السهم» ضمن إصدارات مكتبة الأسرة لعام 1997، والقصة الوحيدة التي لم تُنشر من قبل من المجموعة الجديدة هي القصة ما قبل الأخيرة التي تحمل عنوان «نبقة في الحصن القديم».

نبقة أيضًا من أبناء الحارة المثيرين للجدل، فهو عاشر الأبناء الذين سبق أن ماتوا لرجل من أهل الحارة، وهو ما يدفع الأب لتسليمه إلى إمام الزاوية ، ليتعهده بالتربية، فيكبر ويُثبت أمانته، وهمته، ونشاطه، لكنه يغيب على إثر زيارة إلى قبر والديه، ويعود بعد ثلاثة أيام محملًا بمعرفة وقدرة أهداها له الراحلين كما يقول.

بعدها صار نبقة حديثًا في الحارة، فما من أحد إلا وتوقف أمامه واعظًا إياه، لا يفرق في ذلك بين سيد من الأعيان أو فقير من الحرافيش، ما يجلب عليه غضب الأسياد، وتعاطف الفقراء الذين لا يملكون شيئًا، وتنقطع الرواية الحقيقية، ويتوقف السياق الزمني، ليشير إلى عدة حكايات تصف نهاية نبقة، فهو ما بين الأحياء في الحصن القديم المليء بالعفاريت حينًا، وفي حين آخر يقال إنه مات في معركة، وفي حكاية أخرى يقال إنه كان من المقبوض عليهم، ومن الضالين، لكن الرواية الأشهر أنه لا يزال حيًّا، ويتعاظم دوره يومًا بعد يوم.

تظهر الأسطورة في سيرة نبقة ممثلة في علم الراحلين الذي أكسبه قوة في الإعلان عن رأيه ومساءلة أهل الحارة عن العدل الغائب، وبين نهاية نبقة التي ظلت مثارًا للجدل بعد ذلك، في نهاية تشبه نهاية رفاعة أحد أولاد الحارة، وما ظل مخفيًا بين سطور أولاد حارتنا من قبل، حسب التأويل السياسي الذي وضحه الكاتب في السبعينيات[7]، يظهر بجلاء في رد نبقة على إمام الزاوية الذي دعاه إلى الكف عن ملاحقة الناس بالوعظ، فيقول له نبقة: «عد أنت إلى زاويتك، أما أنا فلا زاوية لي».


تتويج الاكتمال

ربما لا تكتسب المجموعة الجديدة أهميتها من القصص التي تحتويها، ففي الأغلب لن يختلف مستوى الاحتفاء بها عن القصص الأخرى في تاريخ محفوظ التي تجاوزت 250 قصة قصيرة، ولكنها تستمد قيمتها من كونها المحطة الأخيرة التي نقف عليها مع أعمال محفوظ المرتبة والمنشورة، بشكل يسهل الاطلاع عليه. وهكذا لا تحمل همس النجوم في طياتها الجديد، بل تضع اللمسات الأخيرة على الأعمال الكاملة، لتكتمل بذلك أعمال محفوظ الروائية والقصصية، وكذلك الأحلام، فضلًا عن المقالات في سلسلة الحوليات، وتخلد مسيرة الإنتاج التي قاربت الستين عامًا.

ورغم أن الأحلام الأخيرة من أحلام فترة النقاهة كان من المتوقع أن تظهر بعد وفاة محفوظ، وكذلك مسودات ما تم نشره في جرائد دون الكتب، فهل يحمل لنا المستقبل، مفاجأة أخرى، وجزءًا آخر من تراث محفوظ؟!

المراجع
  1. المجالس المحفوظية – جمال الغيطاني (طبعة دار الشروق)
  2. نجيب محفوظ يتذكر – جمال الغيطاني (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب)
  3. المصدر السابق
  4. مقدمة مجموعة همس الجنون – محمد شعير (طبعة دار الساقي)
  5. المجالس المحفوظية – جمال الغيطاني (طبعة دار الشروق)
  6. أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة – محمد شعير (طبعة دار العين)
  7. المصدر السابق