كتب الناقد الكبير «عبد القادر القط»مرة أن الدراما التليفزيونية صارت «ديوان العرب»،خلفًا للشعر والرواية، من حيث قدرتها على توثيق حياتهم وحفظ ذاكرتهم، فهي سجل أحوالهم ومرايا أحلامهم. دراما «أسامة أنور عكاشة»مثال حي على تحول السرد الدرامي إلى سجل لأحوال البلاد والعباد، ومرصد للتحولات السياسية والاجتماعية والتغيرات العنيفة التي أصابت المجتمع عبر ملاحمه التليفزيونية.

سرديات عكاشة الدرامية – التليفزيونية منها أو المقروءة – هي سرديات انكسار الحلم والحب الضائع. أبطال مهزومون وعشاق خائبون. تكاد قصص الحب عنده تشكل نمطًا ثابتًا يتكرر في كل أعماله مثل قدر مشؤوم يحلق فوق رؤوس أبطاله أو مثلما يقول بورخيس: «القدر يهيم بالتكرار».

(علي البدري وزهرة، عادل البدري وقمر السماحي، مجدي البشري ونجوى، هشام أنيس وأمل صبور، حسن أرابيسك وأنوار، بشر عامر وعايدة، سيد العجاتي وشاهندة…) كل قصة حلقة تتكرر في سلسلة طويلة من قصص الحب المنذورة للفشل. يبدو هذا التكرار قريبًا مما سماه فرويد «إجبار التكرار»،وهو مصطلح في التحليل النفسي يصف ميول الإنسان للعودة إلى ما يخاف منه بل والوقوع فيه بحيث تتكرر الصدمات مرارًا كما لو أن الشخص يسعى لا شعوريًا للوقوع فيها.

يعزو فرويد هده الميول إلى محاولتنا لتجاوز خوف الصدمة الناشئ عن التجربة. نكرر الحوادث المؤلمة كمحاولة لتجاوز خوفنا منها. الطريف في إجبار التكرار أننا سنفشل في كل مرة طالما خوفنا من التجربة لا يزال حاضرًا وأننا ما دمنا نفشل سيتعزز إحساسنا بالهزيمة أمام مخاوفنا وندخل في حلقة مفرغة. كل قصص الحب الضائع في سرديات أسامة أنور عكاشةتلامس جرحًا غائرًا في روحه لم تداوه يد الزمن، وصدمة عاطفية لم يخفف أثرها تكرار الوقوع فيها. يتنقل أبطال عكاشة في الزمان والمكان لكن الجرح يعرف القلب الذي يسكنه والعاشق يمضي إلى ذات الخيبة بعيون مفتوحة على اتساعها.

يمكننا عبر رصد أعماله أن ندرك سببين أساسيين في ضياع الحب المتكرر في سرديات عكاشة أحدهما ذاتي والآخر مجتمعي. السبب الذاتي هو طبيعة شخصياته، شخصيات ترزح تحت مثالية متطرفة تريد المستحيل فتضيع الممكن. أبطال ينخر أرواحهم الشك وتشتهي نفوسهم اليقين وإن أطبقوا بشفاههم على رماد العالم.

ثاني السببين هو الفوارق الطبقية. طالما كانت الطبقية أحد مكونات وعي أسامة أنور عكاشةوسببًا أساسيًا في تحطم الكثير من قصص الحب في سردياته الدرامية. عبر ثلاثة من أعماله نحاول أن نستقصي لماذا آلت قصص الحب فيها إلى ذات المصير؟


رحلة السيد أبو العلا البشري (مجدي البشري ونجوى)

على خلفية رحلة أبو العلا البشري (الدون كيشوتيه) ومحاولته اليائسة أن يعيد العالم المقلوب رأسًا على عقب إلى وضعه الطبيعي. في زمن المادية والجشع وضياع القيم المثالية (عكاشة دائم النقد لسياسات الانفتاح الاقتصادي وانقلابها على اشتراكية عبد الناصر وانحيازه للفقراء، وقيمه الصاعدة بكل ما هو سوقي وزائف على حساب ما هو أصيل ونبيل) تأتي قصة الحب بين مجدي البشري (محمد العربي) ونجوى (نسرين) مضفورة في زمانها ومكانها. في اللحظات الأخيرة من زمن الحب قبل أن يسحب ظلاله بعيدًا عن العالم مثلما يرى البشري الكبير (زمن الحب ولى).

مجدي هو امتداد لأبو العلا، نفس المثالية المتشائمة. مضروب بالشك في أعماقه، يتحدث لغة قديمة تنتمي لزمن ضائع، ويحمل على كاهلة إرث مجتمع أبوي مشحون حتى النخاع بطهرانية متزمته يسميها عكاشة مرة «عقدة الرجل الشرقي»الذي يريد أن يكون الرجل الأول والأخير في حياة امرأته، ومرة ساخرًا «قولي علي رجعي أو متخلف». نجوى خارجة من تجربة أفقدتها إيمانها بالحب تنجذب بقانون الطبيعة إلى نقيض تجربتها السابقة، رجل لم يلوثه الزمن الجديد لأنه ينتمي لزمن آخر. هذا النقاء الشاسع ستعكره أصغر شائبة. لن يتصالح أبدًا مع ماضيها ولن يكون مجرد رجل في حياتها.


الحب وأشياء أخرى (سامح وهند)

الحب هنا هو مركز العالم وقلب الحكاية. والسؤال الرئيسي هو؛ هل يستطيع الحب أن يذيب الفوارق بين الطبقات أو أن يقرب بين طرفين كليهما يزداد بعدًا؟سامح (ممدوح عبد العليم) موسيقي من طبقة شعبية، ابن البروليتاريا الكادحة، وهند (آثار الحكيم) طبيبة من الطبقة البرجوازية العليا. كلاهما يحلم أن ينتصر حبهما على الواقع.

قبل ثورة يوليو 1952 كتب نجيب محفوظ «بداية ونهاية»حيث يحلم حسنين البرجوازي الصاعد والذي ينتمي لطبقة فقيرة ومسحوقة الانتقام لطبقته عبر جنسنة العلاقة بين الطبقات حين يشتهي فتاة من الطبقة الأرستقراطية قائلًا «هذه امرأة إذا ركبتها فقد ركبت طبقة بأسرها». وبعد الثورة يأتي طرح «يوسف السباعي» الساذج والطفولي في «رد قلبي»والذي يبشر بزوال الفوارق الطبقية لمجرد أن ثورة قامت تنادي بالمساواة، فإن ابن الجنايني سيتزوج ابنة الباشا.

عكاشة رومانسي ومتشائم يحلم أن يكون الحب هو الجواب، لكنه يعرف أن خيالات الحب ستتحطم على أرض الواقع. سامح أيضًا يحمل على كتفيه نفس الإرث القديم الذي حمله مجدي البشري يسميها عكاشة هنا مستعيرًا لغة التحليل النفسي «مركب النقص»وهو شعور مستمر بالدونية يرفض أن تكون امرأته في مكانة أعلى ماديًا منه، يحاول أن يسحبها إلى عالمه بعيدًا عن عالم أبيها البورجوازي كأنه بذلك سيمحو الفارق بين عالميهما.

مركب النقص يتم تعويضه بأحلام الفن .سامح أيضًا به شيء من حسنين «بداية ونهاية»وإن كانت رغبته في ركوب الطبقة البورجوازية قد تسامت بالفن فإنه أراد أن يثيت تفوقة على هذه الطبقة باختياره لونًا موسيقيًا مرتبطًا أشد الارتباط بالطبقة البورجوازية (الموسيقى المكتوبة للأوركسترا) ليكون مجال أحلامه.


موجة حارة (سيد وشاهندة)

وآه من الحزن يا شاهندة، حزنك أنت بعرض هذا البحر، حزنك لا يتحرك سقط داخلك كالحجر. حملت بحسرة دائمة لا تولد من رحم لكنها تثقل كل أطرافك. كان حبك لسيد جنينًا يوشك أن يولد لكنه أجهض قبل أن يستوفي شهوره. لماذا لم تكن أكثر حنانًا ياسيد؟ لماذا لم تكن أقل قسوة؟
منخفض الهند الموسمي

ربما تختصر شاهندة (رانيا يوسف) كل أحزان بطلات أسامة أنور عكاشة. وسيد (إياد نصار) هو كل أبطاله المهزومين، إحساس بالنقص يغذيه هنا عدم قدرته على الإنجابوجنون الشك الذي يحوله إلى وحش حقيقي. ربما وجوده في جانب السلطة يجعله أكثر قسوة وعدوانًا. تتساءل بثينة، زوجة نبيل في نص عكاشة «كيف تحول الطفل الوديع وحامل مراسيل الغرام إلى ذلك الوحش؟». سقطا من الجنة في زمن جحيمي، وتبخر حبهما سريعًا على أسفلت المدينة. هل أحبها سيد فعلًا أم كان عاجزًا أيضًا عن حبها مثلما عجر عن أن يمنحها الطفل الذي تحلم به؟تلقى علاقته المضطربة بأمه بظلالها على علاقته بشاهندة. أحبت الأم أحد أبنائها ومنحته قلبها كاملًا وحين توفي دفنت قلبها معه. هذا الحرمان من حب الأم أو على الأقل الشك فيه جعل سيد يبحث في شاهندة عن ذلك الحب المفقود، أرادها له خالصة جسدًا وروحًا. أراد بحبه الاستحواذي أن يفرض سلطته حتى على أفكارها المكنونة في غياهب اللاوعي. تقول له شاهندة «تبحث عن المحال ياسيد».