في مرحلة ما بنت آليات سوسيولوجيا المعرفة العلمية نفسها على تصرفات وسلوك العناصر الفاعلة في هذا الحقل البحثي، تنظيم العمل، شكل التراتيبية، آليات انتقاء الباحثين وتعيينهم، التمويل .. الخ، بمعنى أنها كانت تهتم بالظروف التي تدور حول إنتاج المعرفة العلمية بغض النظر عن طبيعتها ومحتواها، في الجهة الأخرى من النهر وقفت فلسفة كارل بوبر لتشرح تطور الحقائق العلمية ذاتها عن طريق آليات عقلانية انتقائية تشبه الانتخاب الطبيعي من البيولوجيا، لكن مركزها هو القابلية للتكذيب، بذلك تكون سوسيولوجيا العلم هنا هي «سوسيولوجيا العلماء»، فقط.

تبنى هذا البرنامج، وهو ما نسميه «البرنامج الضعيف لسوسيولوجيا المعرفة العلمية Weak Program» السوسيولوجي الأمريكي الكبير روبرت ميرتون، في الأربعينات، أنه ميرتون ذو المعايير الأربعة الشهيرة والتي تحدثنا عنها في مقال سابق منفصل، لكن في تلك النقطة يدخل توماس كون صاحب كتاب «بنية الثورات العلمية» لأرض الملعب فيتحدث عن الباراديجمات والعلم القياسي طارحًا على طاولة النقاش آلية لتطور العلم لا تضع إصلاحات كالعقلانية، الحقيقة، أو الموضوعية، في المركز تمامًا من العملية العلمية.


وجاء توماس كون

كانت حجة توماس كون هنا هي أنه في مرحلة ما من تطور المعرفة العلمية لا يمكن للعلماء أن يجدوا آليات عقلانية للفصل بين النظريات المتنافسة، وذلك لأن قصور التحديد Underdetermination وهو المفهوم الذي طرحه للمرة الأولى الفيزيائي بيير دوهيم في بداية القرن الفائت، يمنع النجاح/الفشل التجريبي من الإشارة لنظرية واحدة، بل قد يكون مرتبط بالنظرية الرئيسية، أو أي من الفرضيات الإضافية Auxiliary hyposises الخاصة بها، أو حتى أجهزة القياس والتجريب ذاتها، وهو المفهوم الذي طوره ويلارد كواين في منتصف القرن فنصل إلى فرضية دوهيم-كواين والتي تجعل من كل المعرفة شبكة واحدة.

في تلك المرحلة – منتصف السبعينات – يتدخل باري بارينز Barry Barnes من جامعة إدنبرة ليقول في كتابه «المعرفة العلمية والنظرية الإجتماعية» أن النظريات مفروضة على الواقع أكثر ما هي مستمدة منه، ويضيف بنفس الكتاب أنه[1] «من لحظة قبولنا بأن المعتقدات لا تنبع بالكامل من إكراهات الواقع، فإنه لن يعود ممكنًا معارضة الاستقصاء السوسيولوجي بأي حجج ما قبلية» ويستكمل في موضع آخر أن «ما تؤكده النظرية الكونية هو الانعدام التام لإمكانية تطبيق مفهوم الموضوعية».

يعني ذلك إذن أن هناك بُعدًا اجتماعيًا ذا علاقة باستكشاف الحقائق العلمية ذاتها وليس فقط مجتمع العلماء، لكن هنا نود أن نُشير – قبل الولوج إلى عدة نقاط أخرى مهمة – إلى أن مشكلة بارينز لم تكن تحديدًا هي عقلانية العلم، أو موضوعيته، لكن أيضًا خصوصيته، بمعنى أنه اختلف مع كون نقطتين، الأولى هي أن اهتماماته لم تكن كاهتمامات علماء الاجتماع، أقصد لم يبحث عن نظرية اجتماعية، والثانية، هي أنه تحدث عن خصوصية للسياق العلمي باعتبار أن نظريته تخص الحقل العلمي فقط، بينما يمكن مد حدود تلك النظرية لتشمل ضمن حدودها كل نوع آخر من المعرفة.


البرنامج القوي

هنا يجيء دور ديفيد بلور[2] David Bloor زميل بارينز بقسم الدراسات العلمية بإدنبرة ليقول إن هناك مشكلة، غريبة ربما، حينما نتحدث عن وظيفة سوسيولوجيا المعرفة، فهي تميل لدراسة النماذج القديمة من المعارف، خاصة النظريات القديمة التي أثبتت فشلها، بذلك يصبح دور السوسيولوجيا هو فقط تأمل الأسباب الاجتماعية للخطأ في تطويرنا للمعرفة، دون الحديث عن دور السبب الاجتماعي بشكل عام سواء لصحة أو خطأ المعرفة.

حيث هنا يلتفت بلور إلى التأكيد على أن خطأ التحليل السوسيولوجي يظهر في اللحظة التي نتعامل فيها مع المعرفة العلمية كظاهرة طبيعية محددة بأسباب معروفة، بينما يجب تعريفها على أنها قناعات/معتقدات يلتزم بها البعض ويعيش كذلك بها، تلك القناعات تكتسب درجة عالية من الصلابة والسلطة، ويتم إدراجها كقواعد مؤسساتية عامة وبذلك فهي ليست فردية، ولكنها مكون لثقافة المجتمع العلمي ككل، بالتالي فإن المعرفة عند بلور لا علاقة لها بالصواب والخطأ، ولكن فقط بمعتقدات الناس.

بذلك، يعيد بلور صياغة مفاهيم بارينز في صورة أكثر وضوحًا وصرامة، إنها القواعد الرئيسية الأربعة[3] لما نسميه البرنامج القوي Strong Program لسوسيولوجيا المعرفة العلمية:

  • أولًا: «السببية Causality»، وهو القول أن الظروف الاجتماعية بشكل جوهري هي ما يدفع العلماء للظن أنهم يعرفون ما يعرفونه (تكوين المعتقدات وتأكيدها). لو كانت «الحقيقة» هي السبب لتكوين تلك المعتقدات، لم إذن نجدها مختلفة باختلاف العصور؟
  • ثانيًا: «الحيادية Impartiality»، وهي القول أن سوسيولوجيا العلم محايدة لا تهتم بالنجاح والفشل، أو بالحكم على المعرفة على أنها صائبة أو غير صائبة، بالعقلانية أو عدمها، ولكن فقط بكيفية التوصل لتلك المعتقدات، كونها صوابا أو خطأ لا علاقة له بوجود سبب لحدوثها.
  • ثالثًا: «التناظر Symmetry»، ويعني أن نفس آليات الشرح والتفسير يجب أن تنطبق على كل النطاقات، صواب أو خطأ، كانت علم أو غيره، علم الفيسيولوجيا مثلا لا يهتم فقط بالصحة ولكن بالصحة والمرض، لا يمكن أن نستخدم أدوات لتفسير صحة المعرفة العلمية وأدوات أخرى لتفسير فشلها بمناطق أخرى.
  • رابعًا: «الانعكاسية Reflexivity»، ويعني أن الآليات – النماذج التفسيرية – التي يطبقها السوسيولوجيين من أجل تفسير المعرفة العلمية، تنطبق – تنعكس – أيضًا على سوسيولوجيا العلم، أو السوسيولوجيا عمومًا، نفسها.

دعنا الآن نتأمل تلك المعايير قليلًا فهناك الكثير من النقاش الممكن حولها، إذ – مثلًا – كيف يستند كل من الخطأ والصواب على نفس القاعدة؟ بمعنى أن المعرفة المنطقية أو العقلانية من المفترض ألا تتطلب أي تفسيرات فهي حقائق، وغاية المعرفة العلمية هي الوصول لتلك الحقائق، بينما إن كانت المعرفة غير منطقية أو عقلانية فيجب أن نسأل عن الأسباب التي أدت للحيود عن الطريق الصحيح إليها .. أليس كذلك ؟!


نزع القداسة عن العلم

توماس كون، عالم، البرنامج القوي، فلسفة العلوم
توماس كون، عالم، البرنامج القوي، فلسفة العلوم
ديفيد بلور،عالم، البرنامج القوي، فلسفة العلوم
ديفيد بلور،عالم، البرنامج القوي، فلسفة العلوم

لا، يجيب بلور، الأمر للوهلة الأولى يبدو كذلك، لكن ما المنطق؟ إنه علاقات بين مقدمات، نتائج، وعقول البشر التي تتبع تلك العلاقات، لكن في النهاية فإن العلاقات التي تبدو «معقولة» لهؤلاء الأشخاص هي ما يوفر أفضل تفسير لمعتقدات نفس الأشخاص، فيصبح الأمر كأنك تشرح نفسك لنفسك، الكثير من المعايير تتدخل لاستنتاج المنطق نفسه، وإلا كيف تمكننا من معرفة ما نظن أنه عقلاني أو منطقي الآن، لماذا في تلك الحقبة فقط من تاريخنا تمكننا من استنتاج كل العلاقات الصحيحة؟

أضف لذلك أن بلور يشدد على أن المعرفة العلمية لا تتكون فقط من خلال خبراتنا كأفراد والتي نكتسبها من خلال أعضاء الحس، فهي خبرات غير منظمة، وغير ممكن أن نتحدث عن معرفة من خلالها بشكل فردي، ولكن فقط تظهر المعرفة من خلال رؤية كلّية Collective للواقع بحيث يمكن أن نكون معرفة صحيحة نتفق فيها جميعًا، بالتالي تكون نظرتنا للواقع هي دائمًا نظرة ثقافية، وتكون الثقافة هي مكون رئيسي للمعرفة العلمية وليس الخبرة فقط، يرى بلور إذن، وفي نهاية المطاف، أن المعرفة النظرية، وهي المكون الرئيس للعلم، هي مكون اجتماعي، قد تتفق بالفعل مع الخبرة لكنها لا تفسر بشكل كامل ما تعنيه تلك الخبرة.

يبني بلور كامل برنامجه إذن على نقطتين، الأولى، ذات علاقة بالتنوع الحادث في تاريخ العلم، حيث لا يمكن أن نكون نحن فقط الأذكياء بينما أرسطو كان غبيًا، والثانية، ذات علاقة بقصور قدرتنا على تحديد الارتباط السببي الواضح الصريح بين النظرية العلمية ونتائجها التجريبية، مما يدفع بالعلماء للخوض في اختيارات بين النظريات تتصف بأنها – رغم كونها قد تبدو معقولة بالنسبة لهم لكنها – غير عقلانية، كان توماس كون كما يبدو إذن هو الفتح الرئيسي لسوسيولوجيا العلم بعدما تحطمت على يديه ما تعنيه كلمات كالـ «عقلانية، الموضوعية، والحقيقة»، هنا أصبح كل هجوم ممكن متاح، يشبه الأمر أن يفقد كبير الحارة نبّوته في رواية لنجيب محفوظ.

المراجع
  1. Scientific Knowledge and Sociological Theory- Barry Barnes(Monographs in social theory) P. 8-12
  2. مدخل إلى علم اجتماع العلوم – ميشيل دبوا (ص 72-81)
  3. David Bloor, Knowledge and Social Imagery, Chapter 1