يُنظر إلى النظرية البنيوية في العلاقات الدولية، بكونها الإطار الأمثل لفهم سلوك الكيانات الأيدلوجية المختلفة، وتفسير مؤشرات صعودها وهبوطها، وتحليل عناصر خطابها.

إذ إن الحجة المفتاحية في هذه النظرية، تقول بأن العوامل الحاسمة لتشكيل العلاقات بين الدول والكيانات، هي الهوية المُصاغة وفق العوامل التاريخية والاجتماعية والدينية، وليست اتجاهات السياسة العالمية.

وقد ارتكز العديد من الباحثين على الفرضيات البنيوية لتفسير السلوك الجَسور الذي تبنّته شخصيات جانحة مثل صدام حسين وفيدل كاسترو وأسامة بن لادن وغيرهم، حين تحدّوا منظومة القوى العالمية وتوعّد بعضهم بتدميرها رغم افتقارهم لأقل الإمكانيات المادية القادرة على المنافسة.

وتناول قطاع آخر من الباحثين، سلوك الحركات الاسلامية المشتغلة بالسياسة، وحاولوا تفسير أطروحاتها عبر منظار بنيوي، وتتناول السطور القادمة جزءًا يسيرًا من هذا المسار، مع أهمية التنويه إلى أنّ الحركات الإسلامية ليست الحركات الوحيدة – عربيًا أو عالميًا – المستندة في أطروحاتها إلى منظومة الأفكار البنيوية.


النظريات البنيوية Constructivist theories

منذ أواخر الثمانينات أصبحت البنيوية مدرسة مستقلة في العلاقات الدولية، إذ سعت عبر جهد متراكم لعشرات المفكّرين، إلى شرح السياسة الدولية عبر مناقضة أطروحات الـ «نيو واقعية» و الـ «نيو ليبرالية» وغيرها من النظريات التي تجنح نحو تفسير سلوك الدول والكيانات بالاستناد إلى مبدأ القوة المادية.

ومع بدايات التسعينيات تشعّبت النظرية إلى مدارس متعددة، أجمعت – في مجملها – على فكرتين عريضتين لصيقتين بموضوعنا:

الأولى: أن النظام الدولي مؤسس على الأفكار وليس على القوى المادية. ويعني هذا أن مصالح الدول والكيانات تتشكل بصورة أساسية، بناء على منظومة الأفكار الناشئة عبر تاريخ من التفاعل الاجتماعي العالمي. وهي ترى أن سلوك الدولة أو الكيان يُحدده عاملان: الهوية ثم المصلحة.

الثانية: هي أن الهوية سابقة على المصالح، وأن المصالح سابقة على الممارسات والأفعال. بمعنى أن هوية الدولة أو الكيان هي الجوهر شبه الثابت، وأن المصالح تتشكل للحفاظ على هذه الهوية، وتأتي الممارسات والتفاعلات بين الدول والكيانات لخدمة هذين الركيزتين.

وترى البنيوية الاجتماعية أن منظومة الأفكار التي تشكّل سلوك الدول والكيانات قد تكون: أيدلوجيات، معتقدات معيارية «أخلاقية»، معتقدات النتيجة والسبب أو وصفات وقوالب السياسات.

وبالعودة إلى دراسة الحركات الإسلامية كنموذج لفهم النظرية، نلاحظ على سبيل المثال، أن حركات الإسلام السياسي ترسم الخطوط العريضة لمصالحها وسلوكياتها عبر الارتكاز إلى منظومة من الأفكار المستمدة من الإسلام «الأيدلوجيا» وعبر التفاعل الاجتماعي لهذه الأفكار تاريخيًا «الموروث وتشكله في وعي الحاضنة الشعبية»، وتضع قيمة هذه المصادر فوق اعتبارها لميزان القوى المادية. وهو ليس بالضرورة أن يكون موطن إخفاق مطلق.

كما نجد أن منطلقها الأيدلوجي هو ما يقودها إلى تحديد مصالحها وصياغة أهدافها من قبيل الوصول إلى الحاكمية الشرعية، أو إقامة دولة إسلامية، أو «إعلاء كلمة الله» أو غيرها من الأهداف والتكتيكات وفقا لطبيعة الجماعة.

ولأن الهوية «الأيدلوجيا» هي الجوهر الثابت الذي تدور حوله المصالح، تصدّر هذه الجماعات خطابًا يعلو فيه صوت الهوية، وتخفت فيه ملامح الخطط والأهداف التكتيكية أو المرحلية، لذا تتلقى سهامًا من منافسيها بغياب الرؤية والنزعة نحو الشعاراتية.


ثنائية الجمود والإصلاح

تتعرض الكيانات البنيوية لهزات عنيفة بفعل العالم المتغير الذي تعيش فيه، فتظهر ضمن صفوفها دعوات للإصلاح والمواءمة مع الواقع. قد ينجح العقلاء والشخصيات الأقل خضوعًا لأثر الأدلجة في إحداث إزاحات على صعيد مصالح وأولويات الدول أو الكيانات البنيوية، لكنها في الوقت ذاته تُواجه بجدار منيع من الصدّ والرفض الشعبي الأكثر تحفظًا وتكتلا حول الأيدولوجيا.

ولعل السبب الأبرز لمقاومة التغيير داخل هذه الكيانات، ومن بينها الحركات الإسلامية، هو تنشئة أبنائها وأنصارها على خطاب الهوية، والثوابت، والأحكام القطعية.

ويُشير المفكر الألماني ألكسندر فنت، إلى أن مصالح أي كيان بنيوي عرضة للتغيير على المدى المتوسط وبصورة يفرضها الواقع على المنشغلين بالسياسة، لكنه من الصعب جدًا أن يتم إدخال تغييرات على الهوية ومنظومة الأفكار. وينوّه إلى أن التغييرات الطارئة على المصالح لا تقود بالضرورة إلى تنشئة جديدة لمنظومة الأفكار. ومن هنا قد يحدث الشرخ داخل الحركات الإسلامية ما بين تيارات «صقور» و «حمائم»، أو يحدث الانفصال عن المظلة الأم، أو تبقى الجماعة تعاني لحظات من الشدّ والجذب ما بين قياداتها وأنصارها.

وفي مثال معاصر، نجد أن حركة ترتكز إلى حد ما إلى الأفكار البنيوية، كحركة المقاومة الإسلامية حماس، تقع كثيرًا في مأزق الموازنة ما بين مصلحتها كحركة لها هدف وظيفي يقضي بتحرير فلسطين، وبين حاضنتها الشعبية المستجيبة لخطاب الهوية الإسلامية. فلا هي تستطيع أن تقطع علاقتها مع إيران لانعدام قنوات دعم بديلة، ولا هي تستطيع أن تُكاشف جمهورها بحقيقة هذه العلاقة احترامًا لاعتبارات أيدلوجية وأخلاقية، وتجد أن الحركة وأنصارها مسكونون بالخشية من استفزاز الجمهور، على الرغم من ابتعاد علاقة إيران وحماس عن معاني التبعية والارتهان.

وبذا تتحول الرقابة الجماهيرية إلى سيف مسلط على محاولات الإصلاح داخل الحركات الإسلامية، وتساهم كثيرًا في ترسيخ الجمود، وبطء المواءمة مع الواقع.


التصنيف الديني والطائفي

ولأن الكيانات البنيوية تنظّر لفكرة أن النظام الدولي مؤسس على الأفكار «الهويات» وليس القوى والمصالح المادية، فإنّها ساهمت دون وعي في تنشئة أجيال من المريدين، لا يرون السياسة الدولية إلا عبر نظارات الدين أو الطائفة أو القومية أو غيرها من المظلات الكبرى.

وتجد كثيرًا من النخب المتأثرة أو المؤثرة على الخطاب الأيدلوجي للحركات الإسلامية، يطلقون أحكاما فاقعة وقطعيّة لتوصيف العديد من الظواهر، كأن يسمّي أحدهم الاتحاد الأوروبي بالنادي المسيحي الذي أسسه بابا الفاتيكان، أو يُطلق آخر لقب خليفة المسلمين على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وتكمن الخطورة في امتداد هذه التعميمات نحو تفسير الظواهر وبناء المصالح ورسم السياسات والصداقات والعداءات، فيجزم فريق بأن الإسلام الشيعي شر محض، أو أنه لا فرصة للتعاون مع شركاء الوطن لتبنّيهم طرحًا أيدلوجيا مغايرًا، إلى جانب الانصراف عن الاحتكام إلى مبادئ ومعايير المجتمع الدولي بحجة أنه معادٍ من حيث المبدأ للمسلمين، وإلخ من هذه الافتراضات.


فخ الطوباوية

لا شك أن خطابات الهوية أكثر عرضة للوقوع في فخ الشعبوية «الديماجوجية أو دغدغة عواطف الجماهير على حساب خطاب الأرقام والبيانات والخطط»، كما أن الجمهور المنشّأ على مثل هذا النوع من الخطابات، هو أميل إلى الوقوع في فخ الرسائل الشعبوية غير الصادقة، حين تصدّرها أطراف أخرى أيضًا.

وتاريخيًا، وقعت شرائح عربية عريضة في فخ الخطابات الشعبوية التي صدّرتها شخصيات شهيرة من أمثال: جمال عبد الناصر، وحسن نصر الله، ووزير إعلام صدام: محمد سعيد الصحاف، وغيرهم. وبات الكثيرون أسرى لنظرة طوباوية تجاه الكيانات التي مثّلها هؤلاء بخطاباتهم المجافية للواقع.

واليوم، يقع قطاع من الإسلاميين في فخ الخطابات الشعبوية التي صدرتها الدبلوماسية التركية نحو العالمين العربي والإسلامي، فتحولت النظرة إلى دولة براغماتية كتركيا، إلى نظرة طوباوية نزّهتها عن أي خطأ أو سوء تقدير، كما تم تحميلُ عبارات مسؤوليها عن احترام العمق الإسلامي والتآخي معه إلى انطباعات عن دولة إسلامية تُخفي هويتها الدينية.

النظرة الطوباوية ذاتها صارت أيضًا المحدد لرؤية قطاع من الجمهور المُنشّأ على خطاب الهوية الإسلامي نحو الذات الحزبية أو الحركية، فتجد الكثيرين يقعون في التباس التفريق ما بين الدين والحزب، بصورة تجعلهم يتورّعون عن التشكيك في رؤى الحزب كما يتورعون عن الانخراط في نقاش يشكك بالثوابت الدينية.

ختامًا، تساهم العديد من الحركات الأيدولوجية، على اختلاف مشاربها، في قولبة وعي الجمهور العربي وصياغة رؤيته للسياسة الدولية عبر عدسات بنيوية، وهي بالضرورة لا تعطي انطباعات حقيقية حول النظام العالمي، لا سيما وأن صانعي السياسات الكبرى تحركهم منظومة قوى ومصالح مغايرة تعجز النظريات البنيوية عن تفسيرها كلها أو التنبؤ بها.