في 30 يوليو/تموز الماضي، وبينما كانت قيادة حركة النهضة التونسية تسعى لحشد جبهة وطنية معارضة لقرارات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية التي أصدرها عشية الاحتفال بعيد الجمهورية (25 يوليو)، وشملت إقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان لمدة شهر، فاجأ 130 من شباب الحركة الجميع بإصدار بيان يُحمِّل قيادتها المسؤولية عن الأزمة السياسية في البلاد.

دعا البيان الذي تداولته وسائل الإعلام بشكل واسع، مجلس شورى حركة النهضة (أعلى سلطة تنظيمية حاليًا) لحل المكتب التنفيذي للنهضة (الهيئة القيادية والتنفيذية العليا)، وتكليف خلية أزمة لها الحد الأدنى من القبول الشعبي للتعاطي مع الأزمة الحالية، إضافةً لمطالبة راشد الغنوشي، رئيس الحركة ورئيس البرلمان التونسي، بتغليب المصلحة الوطنية واتخاذ ما يلزم من إجراءات لتأمين عودة البرلمان إلى سيره العادي واستعادة الثقة فيه.

مثّل إصدار البيان صدمة لقيادة النهضة وتأكيدًا إضافيًا على اتساع الفجوة الموجودة بين الجيل القيادي التاريخي للحركة وجيل الشباب الأصغر سنًا الذي عايش لحظات الثورة ونشوة الانتصار عام 2011.

لاحقًا، اضطرت القيادة التي يُمسك راشد الغنوشي بتلابيبها إلى التراجع التكتيكي، فبعد أن اعتبر قرارات الرئيس التونسي «انقلابًا» على الثورة والشرعية الدستورية، عاد يدعو للاستفادة منها واعتبارها «فرصة للإصلاح ومرحلة من مراحل التحول الديمقراطي»، قبل أن يتراجع عن تلك الدعوة من جديد.

وفي هذه الأثناء، بدا أن الحركة التي تُصارع للخروج من الأزمة السياسية الراهنة في تونس، تواجه تدافعًا داخليًا، وأن الشقاق بين مكوناتها قد بلغ نقطةً غير مسبوقة في مسيرتها الممتدة لعقود.

البحث في التاريخ عن جذور الأزمة

غير أن هذا الصراع لم يظهر من العدم، وإنما استمد وقوده من الخلافات الداخلية التي تعيشها الحركة، وبرز، فقط، كفصل جديد من فصول التنافس التنظيمي لكن في ثوب الفجوة/ الصراع الجيلي– بالمفهوم السوسيولوجي، بين شيوخ الحركة وشبابها.

ويكشف التدقيق في تاريخ الحركة وسياقات نشأتها وتحولاتها الأسباب الكامنة للخلاف بين القيادة الحالية المنتمية للجيل الأقدم/ الشيوخ، والجيل الجديد/ الشباب الذي يُشكل قاعدة الارتكاز الجديدة للنهضة.

ومنذ نشأتها المبكرة، اصطدمت النهضة (التي عُرفت في بدايتها بـ«الحركة/الجماعة الإسلامية»، ثم «الاتجاه الإسلامي») بنظام الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، ثم خلفه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وتعرضت لملاحقة وتضييق من قبل أجهزة الأمن في البلاد.

ومع بداية تشكل النواة الأولى للنهضة («الاتجاه الإسلامي» وقتها) عام 1981، تعرضت لحملة قمع استثنائية من قبل نظام الرئيس بورقيبة، لكن تلك الحملة تركت أثرًا جانبيًا على مستوى العمل الحركي، إذ أثرت على المجموعة القيادية ودفعتها نحو العمل السري للهرب من الملاحقة الأمنية.

وخلال السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة (1984-1987)، حاولت الحركة إعادة بناء شبكتها التنظيمية واستعادة الفاعلية الحركية، كما استفادت من انقلاب زين العابدين بن علي، على سلفه «بورقيبة» (نوفمبر 1987)، إذ أتاح لها فرصة لالتقاط الأنفاس عبر الإفراج عن أعضائها والتوقف عن ملاحقتهم مؤقتًا، لكنها اصطدمت به منذ عام 1989، ودخل الطرفان في سلسلة مواجهات متفرقة، أدت لتقويض بنائها الداخلي وتحييد عناصرها البارزة وفرار أغلب قادتها (في مقدمتهم راشد الغنوشي- 80 عامًا- قائد الحركة الأبرز منذ نشأتها وحتى الآن) إلى خارج تونس.

وبحلول تسعينيات القرن الماضي، انهارت الحركة فعليًا وأصبح تنظيمها داخل تونس مفككًا ومقوضًا، بينما كانت القيادة في الخارج غير قادرة على التواصل مع الداخل بالصورة المطلوبة، وبالتالي نشأت حالة من «ازدواج القيادة» بين مسؤولي العمل التنظيمي السري والقيادة المعلنة في المهجر والتي عُدت «قيادة رمزية» لا أكثر.

قيادة ضعيفة وتنظيم مترهل

مع بدايات الألفية الجديدة، حاول قيادات الداخل، المفرج عنهم من سجون بن علي، مع الطلاب والشباب الذين انضموا للحركة، إعادة بناء التنظيم وتشكيل الخلايا/ الأسر التربوية/ التنظيمية، كما حاولت القيادة في الداخل فتح أبواب حوار سري مع نظام الرئيس زين العابدين بن علي، لكنها لم توفق في مسعاها.

بيد أن الأزمة الحقيقية التي واجهت عملية إعادة البناء، كانت ترهل البنيان الهيكلي للحركة، وضعف سيطرة القيادة وعدم تناسبها مع المسؤولية المنوطة بها، ففي حين تمدد بناء الحركة بشكل أفقي وتعددت إدارته التنظيمية، بقيت القيادة على حالها وفشلت في مواكبة التطور الداخلي.

كما حاولت القيادة تشكيل بنيان الحركة الداخلي بصورة شمولية- في محاولة لتطبيق تنظيرات مؤسس الإخوان حسن البنا، الذي تأثر به مؤسسو حركة النهضة الأوائل، حول شمولية الدين- ليكون بمثابة حزب سياسي وجماعة دينية ومدرسة تربوية وتنظيمًا سريًا وحركةً احتجاجية، وأدت محاولة الجمع بين هذه المتناقضات إلى فقدان التخصص الوظيفي الذي أصاب الحركة بحالة تيه هوياتي أثرت على ممارستها الحركية.

وفي سياق متصل، شابت عملية تصعيد القيادات الوسيطة والعليا داخل النهضة شبهات فساد، كما تقرر الحركة في لائحتها التقييمية، وأصبح معيار الثقة مقدمًا على الكفاءة، وصار تصعيد المسؤولين القياديين معتمدًا على العلاقات الشخصية واعتبارات المصلحة التي تراها «قيادة النهضة».

وبينما كانت الحركة تعيش، في ظل حالة انهماك داخلي، اندلعت الثورة التونسية التي لم تكن متوقعة لدى قيادة النهضة، على الأقل، ومنحتها حالة السيولة التي عاشتها البلاد في السنوات التالية، فرصة ذهبية للعودة للمجال العام.

أزمة القيادة المركزية

حصلت النهضة عقب سقوط نظام بن علي، على اعتراف قانوني للمرة الأولى في تاريخها، وعاد زعيمها الكاريزمي راشد الغنوشي إلى البلاد بعد عقدين قضاهما في المنفى، وأعلن بمجرد عودته أنه لا يطمح لشغل منصب رسمي، وسيسلم قيادة حركة النهضة لـ«جيل الشباب» الذي وصفه بأنه يستحق أن يكون في الواجهة.

وفي أول انتخابات تشريعية بعد بن علي، حظيت النهضة بزخم سياسي كبير، ونجحت في الفوز بـ90 مقعدًا من أصل 217 (بنسبة 41,47%) لتحوز أغلبية، بنسبة أكبر مما كانت تتوقع، في المجلس التأسيسي الذي تولى وضع مسودة الدستور التونسي.

وفي هذه الأثناء، ارتفعت أسهم الغنوشي داخل «بورصة النهضة» التي شهدت خلال مؤتمرها التاسع (2012)، انقسامًا بين التيار التقليدي القديم الذي يميل للأصولية واعتماد الدين الإسلامي، بالمنظور الحركي الشمولي، كمرجعية أساسية للحركة والدولة معًا، والتيار الجديد المتشرب للعلمانية الجزئية (بتعبير راشد الغنوشي المستقى من عبد الوهاب المسيري) والذي تميز بالمرونة النسبية فيما يتعلق بالتعاطي مع قضية المرجعية الدينية.

وحرص الغنوشي على احتواء الخلافات وإظهار الحركة بمظهر الوحدة، وتجنب اتخاذ مواقف حدية في قضية المرجعية الدينية، وخرج البيان الختامي للمؤتمر التاسع يؤكد وسطية النهضة واعتدالها، دون التطرق للقضايا الخلافية.

وعقب المؤتمر، تراجعت نبرة الغنوشي الداعية لتمكين الجيل الشبابي الجديد في النهضة، وآثر إبقاء القيادة بيديه، واستخدام سلطته التنظيمية لترسيخ مكانة القيادات التاريخية المقربة منه – كعبد الكريم الهاروني رئيس مجلس الشورى الحالي، ورفيق عبد السلام صهر الغنوشي وعضو مجلس الشورى – داخل البناء الهيراركي للحركة، إضافةً لمحاولة استمالة المعارضين عبر الامتيازات التنظيمية والمالية، مستفيدًا من سيطرته على مفاصل التنظيم.

بهذه الصورة، أصبحت السلطة مركزة في شخص الغنوشي ودائرته القيادية اللصيقة، وصارت عملية اتخاذ القرار معتمدة على المركزية البحتة، كما عُطلت آلية الشورى الداخلية في الحركة – كما تقول الحركة في استخلاصاتها التقيمية الموجودة ضمن لائحتها الهيكلية والتنظيمية – بخاصة في اتخاذ القرارات المصيرية وأُبعد الشباب عن مواقع المسؤولية الحقيقية بدعوى افتقارهم إلى الخبرة والحنكة اللازمة، وبالتالي أُصيبت القواعد التنظيمية والشبابية بحالة تململ وقلق داخلي، وفشلت محاولة احتواء واستيعاب الجيل الجديد الذي بدا مختلفًا، نسبيًا، عن القيادة ولا يتشارك معها خبرتها النضالية التاريخية، وتوجهها الفكري والأيديولوجي.

كما أسهم غياب الحكمة السياسية وفشل تجربتي النهضة في رئاسة الحكومة – حماد الجبالي (ديسمبر 2011-فبراير 2013)، وعلي العريض (مارس 2013-يناير 2014) – في تعزيز الشقاق الداخلي بين الغنوشي وتياره الدعم من جهة، ومعارضيه من جهة أخرى.

وبمرور الوقت تآكلت شعبية رئيس حركة النهضة وتراجعت «هالة التقديس» التي تُحيط بشخصيته، لكنه بقي الشخصية الأبرز داخل الحركة، لعدة أسباب منها الدعم الذي يحوزه من بعض التيارات داخلها، وارتباطه بالتنظيم العالمي/ الدولي للإخوان وبالدول الداعمة للجماعة إقليميًا، كتركيا، وسيطرته على ملفي التمويل والتنظيم.

وفي عام 2016، انتُخب الغنوشي، مجددًا، رئيسًا للحركة في مؤتمرها العاشر الذي شهد أيضًا تعديل لائحة النظام الأساسي للنهضة، وقصر مدد تولي منصب رئاسة الحركة/ الحزب على مدتين متتاليتين فقط، إضافةً لإعلان التخصص الوظيفي في العمل السياسي وفصله عن الجانب الدعوي.

على أن هذا الإعلان لم يُحدد المشروع الجديد للنهضة، بشكل واضح، وبقيت آليات تنفيذه ضبابية إلى حد كبير، وبالتالي فشلت عملية الانتقال والفصل الكامل من الدعوي للسياسي، كما يتضح من مراجعة التجربة بعد مرور نحو 5 سنوات.

ومع أن الحركة استهدفت من خطوتها السابقة زيادة قاعدتها الشعبية والانتخابية، إلا أن المؤشرات التي سجلتها تونس في انتخابات عام 2019، كشفت عن تراجع واضح في أداء الحركة السياسي، إذ حازت 52 مقعدًا في مجلس نواب الشعب (البرلمان) بنسبة 19.55% (أي بانخفاض حوالي 52% مقارنة بانتخابات 2012).

العيش بما يكفي لتصبح منبوذًا

وفي سياق متصل، ظهرت العديد من المؤشرات السلبية التي تُلمح إلى أن الحركة غير مستعدة لتداول «ديمقراطي» للسلطة داخل الحركة. ففي الوقت الذي طالب فيه 100 من القيادات والأعضاء البارزين داخل الحركة (يعرفون بمجموعة المائة) بإجراء المؤتمر الحادي عشر لحركة النهضة الذي كان مقررًا في عام 2020، وعدم تعديل الفصل 31 من ميثاقها الداخلي بما يضمن عدم ترشح «الغنوشي» لفترة رئاسية جديدة، أصر «تيار الغنوشي» داخل مجلس شورى النهضة على تأجيل المؤتمر بحجة أن الوضع الوبائي الذي فرضته جائحة كورونا لا يسمح بإقامته.

عند تلك المرحلة، طفت على السطح كل الخلافات الداخلية بين مكونات حركة النهضة، وأبدى رئيسها – في رده على مجموعة المائة – نيةً للاستمرار في منصبه، متجاهلًا التدافع الداخلي الذي تعيشه الحركة، لأنه يرى أن «الديمقراطية الحزبية تختلف عن الديمقراطية في الدولة، وأن (الزعيم) بخلاف الرئيس، فالأول استثناء قادر على الصمود وتحمل الصدمات واستيعاب تقلبات الزمن فلا داعي لتغيره إذن».

وفي حين سيطرت أسطورة «الزعيم الملهم» على راشد الغنوشي، كان تياره يخسر نفوذه شيئًا فشيئًا داخل الحركة التي أسسها، فأُبعد رفاقه المقربين- على رأسهم صهره رفيق عبد السلام الذي خسر انتخابات المكتب التنفيذي مطلع العام الجاري – وصعد خصومه من «مجموعة المائة» إلى المكتب التنفيذي، وجاهر الشباب بالتمرد عليه في مرات عديدة، تمامًا كما فعلوا، خلال الأزمة الراهنة التي تعصف بما بقي من «إرث النهضة» السياسي القديم.