تعد شخصية صبحي الطفيلي، أول أمين عام لحزب الله اللبناني، من الشخصيات القيادية المؤثرة التي شغلت الإعلام أينما حلت، فالرجل يتمتع بكاريزما قوية أوصلته إلى قيادة حزب الله وافتتاح مسيرته، وهي أيضاً التي أطاحت به من مقدمة الركب وقذفت به على رأس ركب آخر.

مسيرة حزب الله

ولد صبحي ملحم الطفيلي في قرية بريتال جنوب مدينة بعلبك في أواخر عام 1947 لأسرة شيعية، وفي سن الخامسة عشرة تقريباً سافر إلى الحوزة الدينية في النجف جنوب العراق لدراسة المذهب الجعفري، وهناك انضم إلى حزب الدعوة الشيعي المعارض، وفي عام 1974 تلقى نصيحة بضرورة الفرار إلى الخارج لتجنب وقوعه في قبضة الأمن العراقي إذ عُرف أنه قد صدر ضده حكم بالإعدام بسبب علاقته بالحزب، فعاد إلى بلاده.

بعد سنتين أي في 1976 رحل إلى إيران حيث اشتغل بالدراسة والتدريس في مدينة قم، ولما اشتعلت الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1978، انخرط فيها وبسبب ذلك لاحقته الأجهزة الأمنية الإيرانية وتعرض للاحتجاز والتحقيق، وشهد انتصار الثورة وتولي روح الله الخميني السلطة وإعلان الحكم الديني، وكان من أشد أنصاره وتأثر به بشدة، وعاد إلى بلده في نفس العام وعمل على تنشيط عمل حزب الدعوة اللبناني (جماعة شيعية أسسها رجال الدين الشيعة المتعلمين في النجف)، وشارك في تأسيس «تجمع العلماء المسلمين» في منطقة البقاع ليكون منصة لتوحيد علماء السنة والشيعة، إلى أن جاء الغزو الإسرائيلي على لبنان عام 1982.

كان الطفيلي أثناء الغزو في زيارة إلى طهران، وحينها قرر الخميني إرسال قوات لمواجهة الغزو، وتباحث المسئولون الإيرانيون مع الطفيلي حول موضوع التنسيق مع هذه القوات بصفته قيادي بحزب الدعوة وله شبكة علاقات واسعة، وبعد عودته من طهران بأيام قليلة زاره مهدي كروبي (برلماني إيراني مقرب من الخميني) في لبنان لتنظيم عملية دعم هذا المشروع، لكن الحرب توقفت قبل أن تصل طلائع قوات الحرس الثوري الإيراني، فتغيرت الخطة إلى التدريب العسكري للبنانيين الشيعة وبدأت أول مجموعة في هذا البرنامج في رمضان في حزيران/يونيو 1982، واستمرت عمليات التدريب، وبدأت الهجمات على قوات الاحتلال من دون أن يكون لهذه المجموعات اسم محدد أو هيكل تنظيمي معروف وتباعاً حسب الحاجة بدأت تنمو الأمور شيئاً فشيئاً حتى ظهر في النهاية حزب الله، وتم الاتفاق على هيكل تنظيمي واستحداث منصب الأمين العام سنة 1989، وتولاه الطفيلي الذي كان قبل ذلك أبرز قادة الحزب وممثلاً له خلال التواصل مع إيران وسوريا، وزار دمشق مراراً للقاء الرئيس حافظ الأسد لتنظيم وصول الدعم الإيراني إلى الحزب عبر سوريا وتنسيق المواقف.

وخلال الفترة من 1982 إلى 1989 نشط الحزب في شن هجمات واسعة، وصار الطفيلي مطلوباً للولايات المتحدة بعد الهجوم على قوات المارينز في لبنان عام 1983 التى قتل فيها 241 جندياً أمريكياً، وصدر ضده حكم بالإعدام من محكمة عسكرية لبنانية بسبب كمين لقافلة تابعة للجيش في عام 1983.

وخلال الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات والثمانينيات شن الجيش السوري حرباً استهدفت المقاومة الفلسطينية والجماعات السنية، وكان الطفيلي يحاول ألا يخسر السنة فعندما حاصر الجيش السوري طرابلس، معقل السنة في لبنان، عام 1985، وبدأ في دكها، ذهب حينها الطفيلي إلى دمشق والتقى كبار المسؤولين بصفته أبرز قادة الحزب، وبحسب روايته فإنه بعد إلحاح وضغوط وافق الرئيس السوري حافظ الأسد على وقف استهداف المدينة وهو ما لم يحدث، فدخل الطفيلي طرابلس خلال القصف والتقى قادتها وتواصل مع السوريين حتى نجح في النهاية أن يفك الحصار ويوقف القصف.

وبعد انتخابه كأول أمين عام في 1989 شن الحزب تحت قيادته أعنف الهجمات على إسرائيل، وخاض قتالاً عنيفاً ضد حركة أمل الشيعية التي كانت تعترض على عمليات المقاومة في الجنوب، وكانت أمل مدعومة من دمشق، ووقعت خلافات كثيرة مع الجيش السوري، ويذكر الطفيلي أن اللواء غازي كنعان، رئيس شعبة الاستخبارات السورية في لبنان، قال عنه في جلسة جمعتهما ببعض القادة «أنا أخفت جميع اللبنانيين إلاّ الشيخ»، وكان كنعان بالفعل مرهوباً في لبنان بسبب شدة بطشه.

وهذه الروايات مأخوذة في معظمها من أحاديث الطفيلي الإعلامية لأن دوره في تأسيس الحزب تعرض للطمس بسبب الخلافات اللاحقة مع إيران والحزب، وتم كذلك طرد عدد كبير من أتباعه من الحزب.

وخلال زعامته للحزب خصوصاً بعد تعيينه في منصب الأمانة العامة شهدت علاقته مع الإيرانيين توترات كبيرة، فقد جعله موقعه على تماس مباشر مع التيارات الإيرانية المتنافسة وتشنجت العلاقة بينه وبين كثير منهم، بسبب رفضه أن يكون تابعاً لأي فريق، كما أن شخصية علي خامنئي، الذي أصبح المرشد الأعلى لإيران عقب وفاة الخميني عام 1989، لم تُقنعه، ففي 1990 خلال زيارته لطهران، التقى خامنئي وخرج بانطباع سلبي جداً كما يحكي عن هذا اللقاء الذي تمت فيه مناقشة مسألة التعامل مع الحركات الإسلامية في الدول العربية ووجد أنه لا سبيل للتعاون بينهم وبين طهران في ظل تلك القيادة، واحتدت الخلافات بين الطرفين حتى وصلت إلى طريق مسدود بسبب شخصيته المتمردة، إذ يقول: «قلت مراراً للإيرانيين إنه عندما تصطدم مصلحتهم مع قناعتي سأغلب الأخيرة، ولن أكون أبداً عميلاً لإيران ولسياستها، أنا أخوكم وشريككم لا أكثر ولا أقل»، وفي عام 1991 تسلم عباس الموسوي قيادة الحزب عبر انتخابات داخلية، وأصبح الطفيلي عضواً في مجلس شورى الحزب.

الانقلاب على إيران

بعد مقتل الموسوي عام 1991، كثرت الخلافات بين الرجل والأمين العام الجديد، حسن نصر الله، خصوصاً في ما يخص علاقة الحزب بطهران، ومرت الأمور بـ«محطات كثيرة جداً ومؤلمة جداً» على حد وصفه لكنه لم يفضل نشرها على الملأ، واعترض علناً على مشاركة حزب الله في الانتخابات النيابية عام 1992، ودخوله اللعبة السياسية بأمر من طهران بدلاً من اكتفائه بالقيام بدور حركة مقاومة، وقال: «لكي لا أكون شريكاً في ظلم أهلي وغضب ربي نأيت بنفسي عن المشاركة بقرارات الحزب في حينه وحتى اليوم».

وتوالت الخطوات التي جعلت الفراق واجباً بين الطرفين؛ فقد عقد الحزب تفاهم نيسان 1996 الذي ينص على عدم ممارسة أي نشاط عسكري داخل الأراضي الفلسطينية، وهو ما اعتبره الطفيلي تخلياً عن مبدأ تحرير القدس، ومقدمة للدخول في ما يُعرف بعملية السلام، كما اعترض على التحالف الذي جمع حزب الله وحركة أمل في الانتخابات النيابية عام 1996.

وفي 4 يوليو/تموز 1997 أطلق حركة عصيان مدني تحت شعار «ثورة الجياع» احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية في البقاع، وأنشأ مجلساً محلياً من الوجهاء المحليين لإدارة المنطقة وهدد بمنع الوزراء من دخول هذه المنطقة.

وتم فصله من الحزب في مطلع 1998، وأرجع بيان الحزب المشكلة إلى ما جرى في احتفالات إحياء يوم القدس، إذ أعلن الحزب أنه سيقيم مراسم يوم القدس في ساحة رأس العين، فأعلن الطفيلي إقامة المراسم نفسها في المكان ذاته مكرراً يوم عاشوراء السنة السابقة، مما دفع الحزب إلى تغيير المكان والتخلي عن تلك الساحة إلى مكان آخر.

وقال البيان، إن «الوقائع المشار إليها تكشف بعد عدة أشهر وبشكل واضح للجميع أن ما يقوم به ليس حركة مطلبية، وإنما سعي لتقسيم الساحة وفرزها وفرض نفسه عليها بكل الوسائل.. بناء على كل ما تقدم نقول: لم يعد الشيخ صبحي الطفيلي واحداً في مسيرتنا المتواصلة بعد كل ما فعله لهذه المسيرة وعلى مدى عدة أشهر وبعد أن أخرج نفسه منها وخرج عليها».

وقد رد الطفيلي على ذلك بالمطالبة بمحكمة إسلامية تبت بالأمر وقال، إن قرار الحزب وبيانه أضرا بالمقاومة وشوها كثيراً من الحقائق، واتهم الجماعة بأنها تحولت إلى حزب أشخاص، وفي 23 يناير/كانون الثاني 1998 قام أكثر من ألف شخص من مؤيديه بمسيرة احتجاجية في بعلبك مما أجبر حزب الله على الانسحاب، ونظموا احتجاجاً أمام مقر الحزب في الضاحية الجنوبية بالعاصمة بيروت، قائلين إنه لا يزال زعيم الحزب ولم يخرج منه.

ووقعت مواجهة مسلحة بين قوات تابعة له وحزب الله على خلفية محاولة منعه من دخول حوزة عين بورضاي جنوب بعلبك في 30 يناير/كانون الثاني 1998، واعتصم بالحوزة مع أتباعه، وتدخل الجيش لصالح حزب الله وحاول إخراج المعتصمين المسلحين، وقتل أثناء تبادل إطلاق النار عدد من القتلى من الطرفين منهم الشيخ خضر طليس، المقرب من الطفيلي في 2 فبراير/شباط عام 1998 خلال تنفيذه مسعى للوساطة بين الجيش والشيخ صبحي، ووجهت أصابع الاتهام إلى حزب الله وأمينه العام حسن نصرالله، وانتهى الامر بمعركة قتل فيها ضابط في الجيش وبعض انصار الطفيلي، لتبدأ الملاحقة القضائية بحقه، ورغم ذلك انسحب الجيش وقرر التغاضي عن الأمر ولم تجر أي محاولة للقبض عليه من مكانه المعروف.

وانصرف الطفيلي بعد ذلك إلى الدعوة وسط أبناء الطائفة الشيعية في منطقة البقاع الشرقي التي تعد معقلا له، ويوجد له فيها أنصار كثيرون يتعصبون له، منهم عدد كبير من المسلحين، وأجرى دراسات فقهية توصل من خلالها إلى بطلان نظرية «ولاية الفقيه» التي يستمد منها النظام الإيراني شرعيته وخلص إلى أنها «فكرة لا تقوم على أساس فقهي متين وليس لها ما يدعمها لا في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة».

وفي أول حديث صحفي له منذ تواريه في مقر إقامته الجبرية داخل حسينية قديمة في بلدة بريتال جنوب مدينة بعلبك اللبنانية، أجراه مع صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية في سبتمبر/ أيلول 2003، قال إنه يعتبر أن المقاومة انتهت، وإن ذلك ليس موضع نقاش من الأساس، وإن نهاية هذه المقاومة بدأت منذ دخلت قيادتها في صفقات كتفاهم يوليو/تموز 1994، وتفاهم أبريل/نيسان 1996، الذي أعطى حماية للمستوطنات الإسرائيلية، بموافقة إيران، وقال:

ما يؤلمني أن المقاومة التي عاهدني شبابها على الموت في سبيل تحرير الأراضي العربية المحتلة، تقف الآن حارس حدود للمستوطنات الإسرائيلية، ومن يحاول القيام بأي عمل ضد الإسرائيليين يلقون القبض عليه ويسام أنواع التعذيب في السجون ..حدثت أكثر من حالة، وقد سلم الذين قاموا بمحاولاتهم إلى السلطات اللبنانية التي أخضعتهم للتحقيق والتصنيف.

وتابع:

أوجه كلامي إلى أبنائي في المقاومة لأقول لهم، إن ما تفعلونه حرام وخدمة للعدو وخيانة للقضية، ألقوا سلاحكم وارحلوا أو تمردوا وأطلقوا النار على عدوكم ولا تجعلوا أحداً يخدعكم تحت عنوان أي فتوى أو ولاية فقيه، فلا فقيه في الدنيا يأمرني بأن أخدم عدوي، أنا آسف كيف أن المقاومة التي صنعناها بدماء شهدائنا تختطف وتُحول إلى خدمة أعدائنا.

ويرفض الطفيلي تعاون حزب الله مع «سارقي المال العام وناهبي ثروات الدولة» بدعوى الانشغال بالمقاومة، ويحذر من المشروع الطائفي الإيراني باعتباره خطراً على الشيعة في لبنان والمنطقة، وأن هناك محاولة لإقناع الشيعة «أن عدوهم ليس الأميركي، بل السني عموماً.. موضوع التشيع السياسي والتسنن السياسي هو صناعة السلاطين والدول .. الأميركي حتى لو عين شيعياً فهذا الشيعي سيكون خادماً له ولا يخدم الإسلام»، ويقول إن هناك تواطؤاً إيرانياً مع واشنطن، وإن الخلافات حول اعتقال شخص هنا أو حديث عن سلاح نووي هناك: «فهو يدخل من باب السعي الأميركي لتحسين شروط التعاون الإيراني».

ولما قامت الثورة السورية في 2011 أيدها، واتخذ موقفاً معارضاً ضد تورط حسن نصر الله في المجازر ضد المدنيين في سوريا مبيناً أنه تسبب في حرب مذهبية، وأنه قبل تدخله في سوريا كان معارضو النظام السوري ينادون بدعم الثورة، لكن بعد تدخله بات المقاتلون يأتون تحت عنوان الدفاع عن السنة ومواجهة الشيعة، قائلاً: «للأسف نحن قررنا أن نضحي بأنفسنا خدمة لمصلحة في إيران».

وإلى جانب نفوذه في معقله بالبقاع شرق لبنان، ينشر محاضراته باستمرار حتى اليوم على حسابه على موقعي «تويتر» و«يوتيوب»، وتحظى فيديوهاته بآلاف المشاهدات، ويروج لمشروع مستقل عن المشروع الإيراني عنوانه توحيد الأمة الإسلامية؛ فينتقد محاولات تكوين حلف للأقليات في لبنان ضد العرب السنة ويتهم إيران وحكومات عربية وغربية بدعم تنظيم داعش الإرهابي لتنفيذ أجنداتها، ويؤيد مشروع حركة طالبان السنية ويدعو لمناصرتها ودعمها بكل قوة، ويرفض الضغوط الدولية عليها بحجة حماية الأقليات الأفغانية، ويحمل منظوراً عن النظام الإيراني مؤيداً لثورة الخميني ومبادئها لكنه يرى أنها أكلت أبناءها وانحرفت عن مسيرتها القرآنية إلى كسروية غاشمة بحد وصفه، ويقول إن كل المصائب التي وقعت في لبنان تتحمل إيران الجزء الأوفر منها بصفتها صاحبة النفوذ الأكبر.

وبعكس موقفه من الخميني، يقف موقفاً معادياً لخليفته، المرشد الإيراني الحالي، علي خامنئي، وبناء على ذلك وقف في صف الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق أواخر 2019 ضد الطبقة السياسية الموالية لإيران، معتبراً أن فريق رئيس الجمهورية اللبنانية، ميشال عون، كان يظن أنه هو من يستخدم حزب الله وليس العكس، لكن أخيراً وبعد فوات الأوان، أدرك أنه كان مجرد أداة في خدمة مشروع تدمير البلد، وأطلق على الطرفين مسمى «ثنائي الفساد».

وبعد انفجار مرفأ بيروت حاول حزب الله تعطيل تنحية قاضي التحقيق، وعطل جلسات مجلس الوزراء لأشهر لهذا السبب، وهو ما اعتبره الطفيلي مؤشراً على أن التحقيق «قد يكشف عورة خط الجهاد الممانع»، متهماً إياه بالسعي إلى «تفكيك الدولة» اللبنانية، وأن «التعطيل وشلّ المؤسسات وتفكيكها، سياسة يتبعها الحزب»، وطالب بمقاطعة الانتخابات البرلمانية، وأفتى بأن التصويت لثنائي الفساد الشيعي (حزب الله وحركة أمل) من الكبائر، ومنذ عدة أيام ظهر الطفيلي في مقطع مصور قال فيه: «نحن في لبنان نتعرض لعملية دمار بقيادة إيران ..الأميركان تركوا وظيفة التخريب حتى لا يلوثوا أيديهم، طالما لديهم خادم مستعد أن ينفذ ما يريدون دون أن يظهروا في الواجهة».