في عام 1996 قدم «الأخوين كوين» فيلمهما اللافت «Fargo»، والذي كانت أحداثه تدور حول مؤامرة فاشلة من قبل زوج أراد التخلص من زوجته عبر استئجار شخصين لقتلها، لكن الأمور تسير في سياق مخالف لكل التوقعات مما يؤدي إلى فشل الجريمة وانقلابها على رأس الزوج وكلا القاتلين.

وبعد ما يزيد على العشرين عاما يعود الأخوان، أصحاب النظرة الكوميدية السوداء الشهيرة للواقع الأمريكي بمختلف تجلياته، ليعيدا إنتاج تيمة تآمر الزوج على زوجته لقتلها من خلال أحدث أفلامهما «Suburbicon»الذي كتبا السيناريو الخاص به بالتعاون مع مخرجه الممثل «جورج كلوني» وشريكه المفضل في كتابة سيناريوهات أفلامه كمخرج «جرانت هيلسوف».

يحمل الفيلم الجديد اسم مدينة أمريكية في خمسينيات القرن الماضي، تمامًا مثلما كان فيلم «Fargo» يحمل اسم المدينة التي شهدت محاولة اغتيال الزوجة، فثمة ولع لدى الأخوين كوين بالمكان في تجلياته المختلفة؛ بداية من الموقع الجغرافي، وٍأسماء المدن، وصولا إلى طبيعة البيئة المكانية نفسها التي تدور فيها الأحداث.

ويكفي أن نتتبع بصريا خط سير الصياد الهارب بملايين تجار المخدرات في فيلم «No Country For Old Men»وهي رحلة الدم التي تتوغل في تضاريس البيئة –الغرب الأمريكي- المكانية والنفسية على حد سواء من خلال مطاردة أحد القتلة لحقيبة الملايين التي يحملها الصياد الهارب.

وكذلك خط سير رحلة بحث المارشال الأمريكي عن قاتل والد الفتاة المراهقة التي يصطحبها معه للانتقام منه في فيلم «True Grit» وهي رحلة دم أخرى يلعب فيها المكان/الغرب دورا مهمًا في الوقوف على خشونة الواقع الشعوري والذهني لشخصيات الفيلم، كذلك استغلال التضاريس الجبلية للغرب الأمريكي في خلق خصوصية مكانية وبيئية تخص الواقع الأمريكي نفسه ومحلية الحكاية بكل تفاصيلها المباشرة وغير المباشرة.


صوتان في قلب الحكي

يبدأ فيلم «Suburbicon» بمقدمة كرتونية تشبه مقدمات البرامج التليفزيونية الخمسينية، والتي تشرح طبيعة المدينة، والتركيبة السكانية الخاصة بها، وكيف أن تلك التركيبة هي تركيبة أمريكية بيضاء نقية من شوائب الأصول والعرقيات الملونة، وتعكس في نفس الوقت الروافد المكانية التي امدت هذه المدينة بسكانها أصحاب الطبيعية الأمريكية الطيبة والمسالمة والودودة !!

سرعان ما تتغير هذه الزاوية السردية ويغيب صوت الراوي العليم الذي يحكي عن المدينة، لكنه يظل موجودًا في الخلفية، لا كصوت بل كصورة حاضرة تعكس جزءاً من واقع المدينة. ثم يبدأ صوت الحكي الآخر المتمثل في عيني الطفل «نيكي» الذي يستيقظ ذات ليلة على أبيه يوقظه في هدوء مرعب كي يبلغه أن ثمة من يقتحم البيت، وأن عليه أن يستجيب لكل ما يطلبه المقتحمون على وعد بأن أحدًا لن يتعرض لأي أذى.

يلعب السيناريو لعبة سرد ذكية عندما يجعل لكل خط، من الخطين الأساسين للدراما في الفيلم، عين خاصة بالحكي، فالفيلم ينقسم إلى خطين رئيسيين يشكلان في توازيهما وتداخلهما المكاني والبيئي الفكرة العامة التي يطرحها العمل ككل وهي؛ قراءة في جذور الواقع والشخصية الأمريكية التي تهرب دوما من مواجهة فسادها الداخلي الذي ينهش في واقعها، في مقابل تعليق هذا الفساد على عناصر خارجية لا علاقة لها بما يعتمل داخل البيت الأمريكي والأسرة الأمريكية من ديدان الأمراض النفسية، والاجتماعية، والمادية البغيضة.

الخط الأول هو الخط الخاص بوصول أسرة أمريكية سمراء –في ذروة أيام الاضطهاد العنصري الأمريكي للسود خلال سنوات الخمسينيات والستينيات – إلى تلك الجنة البيضاء، وكيف يقرر سكان المدينة التي عرفنا من البداية أنها تمثل خليطاً من الأسر الأمريكية – أي تمثل نموذجًا سكانيًا أمريكيًا بامتياز- اضطهاد هذه الأسرة دون سبب محدد سوى أنهم من بقع سوداء على ثوب المدينة الأبيض.

هذا الخط يتم روايته من خلال عين عليمة تعرض لنا مراحل عملية الاضطهاد العنصري التي تصل ذروتها إلى مهاجمة بيت هذه الأسرة وحرق سيارتهم، بينما الخط الثاني يتم روايته من خلال عين الطفل الصغير نيكي الذي يصبح شاهدا على تآكل أسرته الصغيرة كنتيجة طبيعية لعوامل التعرية النفسية والسلوكية التي لا تحجبها عن شخصيات الأسرة أي قيم أخلاقية أو إنسانية خاصة الأب – كرمز لحامي الأسرة ورب البيت الضارب بدف الجريمة – والذي يتآمر على والدة نيكي لكي يحصل على مبلغ التأمين الخاص بحياتها ويتزوج من أختها التوأم التي تصبح هي الأخرى شريكة له في جريمة التخلص من الأم.

ويرتبط كلا الصوتين اللذين يمثلان قلب الحكي إلى جانب الارتباط الدرامي بارتباط مكاني واضح وهو؛ ارتباط الجيرة السكنية حيث يتلاصق منزل الأسرة السوداء ومنزل عائلة نيكي بل وتنشأ صداقة ما بين ابن الأسرة البيضاء وابن العائلة السوداء على اعتبار أن الأجيال الجديدة ربما يصبح لديها فرصة أفضل في الحياة إذا ما تطهرت المدينة البيضاء من وجهها الأسود الحقيقي.


الوجه الأسود للمدينة البيضاء

في الوقت الذي يشرع فيه أهل المدينة في إلقاء اللوم على الأسرة السوداء في ظهور الجرائم المتتالية داخل المدينة، والتي يصبح سببها الأساسي هو أسرة نيكي التي يقرر فيها الأب والخالة التخلص من الأم، ثم يأتي القتلة المأجورين ليتخلصوا من الخالة ونيكي نفسه. في الوقت الذي ينهار فيه بيت نيكي من الداخل، يحاصر أهل المدينة البيض منزل الأسرة السوداء ليل نهار مطلقين كراهيتهم وشعاراتهم العنصرية البغيضة في مواجهة السلم التام والاستسلام من قبل الأسرة السوداء الطيبة.

تدور أحداث الخط الخاص بالجرائم الأسرية المرتبطة بأسرة نيكي داخل المنزل طوال الوقت، وهو اختيار مكاني وبيئي واضح جدا لكن قيمته الدلالية لا تتخذ قوتها إلا باقتران هذا المسرح الداخلي للجرائم بمسرح آخر خارجي لجريمة أخرى، أو للواجهة التي يعلق عليها أهل المدينة ظهور الجرائم وهي؛ باحة المنزل الأمامية للأسرة السوداء.

فبدلا من أن ينتبه أهل المدينة إلى أن الجرائم نابعة من داخل منزل العائلة البيضاء الملاصق لمنزل الأسرة السوداء – بكل دلالات المنزل المجتمعية والواقعية- يحاصرون الباحة الطيبة للأسرة المسالمة التي لم تسبب لهم أي مشكلة من أي نوع، بل إنهم هم الذين تسببوا بعنصريتهم في الكثير من الخسائر المادية والنفسية لهذه الأسرة، فأين إذن هو الوجه الأسود للمدينة البيضاء؟ هل هو وجه الأسرة السوداء الطيب، أم وجه عائلة نيكي التي يحاول فيها الأب نفسه أن يهدد الابن بالقتل بعد أن فشلت كل الخطط وتطورت كل السياقات بشكل كوميدي مأساوي – تماما مثلما حدث للزوج في فيلم «Fargo» قبل عشرين عاما.

أن تلاصق المنزلين ليس تلاصقا مجانيا، واشتراك المنزلين في الباحة الخلفية التي يخرج إليها نيكي في النهاية عقب الليلة الدموية الخارقة التي تقضي فيها أسرته على بعضها، وعلى القتلة المأجورين الذين قاموا بقتل أمه، في نفس الوقت الذي تكاد فيه الأسرة السوداء أن تفقد منزلها تحت وطأة الهجوم العنصري.

اشتراك المنزلين في الباحة الخلفية مكانيا، واجتماع نيكي وابن العائلة السوداء ليتبادلا رمي كرة البيسبول ومن خلفهم المدينة على امتداد البصر -وهو ما سبق وأشرنا إليه- هو متنفس الطاقة السلبية الأساسي التي تحتشد داخل المتلقي من جراء تعاطي التناقض والمقارنة الواضحة ما بين باطن المدينة وظاهرها، وما بين غرف منزل نيكي وبين باحة منزل العائلة السوداء.

فتقاذف كرة البيسبول – وهو اختيار متقن للعبة الأمريكية رقم واحد وليس أي لعبة أخرى – ما بين الطفل الأبيض والطفل الأسود هو في الحقيقة ما يحتاجه المجتمع الأمريكي لكي يستمر على قيد الحياة من وجهة نظر صناع الفيلم، لأنه مهما بلغت الخسة والدناءة والفساد المتمثلة في أسرة نيكي فإن تلك الصفات لن تؤدي إلا إلى فناء الأسرة بأكملها، ومهما حاول أهل المدينة تعليق جرائم مدينتهم على وجود السود سوف تظل الأسرة السوداء موجودة وباقية ومستمرة دون أن يلوث وجهها الداكن أي شيء سوى بعض من رماد الاضطهاد العنصري.

كل الجرائم في سيناريوهات وأفلام «الأخوين كوين» هي جرائم دموية جدا لكنها في نفس الوقت تتطور إلى سياقات غاية في العبث والسخرية، كأن تحاول الخالة أن تقوم بسم نيكي عبر وضع المهدئ بكميات كبيرة في كوب الحليب وساندويتش المربى، ليأتي الأب ويشرب اللبن ويأكل الساندويتش فندرك أن نهايته الطبيعية في الصباح هو الرقود ميتا على سطح طاولة المطبخ نفسها التي أعدت عليها الخالة وجبة الموت.

ثمة رصد رائع في أفلام الأخوين كوين لتلك المفارقة بين قدرة البشر على التخطيط للقتل والعنف ثم الوقوع في شرك هذا العنف وتلك الغريزة الدونية بصورة تلقائية وغير متوقعة لكنها طبيعية ومؤثرة، كل ذلك دون الانسياق لساحات الميلودراما الفجة، أو الدروس الأخلاقية الجامدة وعبرة التطهر الدرامي العتيقة.