طلقات رصاص عشوائية تشق هدوء ليل العاصمة السودانية الخرطوم. الأعيرة النارية صدرت من قاعدتين تابعتين لجهاز المخابرات العامة السودانية. رافق إطلاق النار إغلاق الطرق المؤدية للقاعدتين. البيان الرسمي للجيش السوداني أعلن رفضه لما يقوم به أعضاء المخابرات العامة، ولمح أن الحادثة هي احتجاج من ضباط المخابرات على ضعف رواتبهم.

تزامن مع البيان قيام الجيش السوداني بإغلاق الشوارع القريبة من مطار الخرطوم الدولي، وانتشرت فيه قوات الجيش بكثافة. لحق ببيان الجيش بيان من قيادات جهاز المخابرات العامة أكدت فيها ما جاء في بيان الجيش، وشرحت أنه في إطار خطة إعادة الهيكلة لجهاز المخابرات تم دمج بعض الوحدات مما أدى لتسريح عدد من المنتسبين للجهاز. أضاف البيان أن اعتراضهم جاء على التسريح أولًا ثم قيمة المكافأة المالية.

تجمع المهنيين السودانيين، الجهة التي قادت المظاهرات التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير، أعلن رفضه القاطع لحادثة إطلاق النار. كما وجّه دعوته للسلطات الرسمية بالتدخل الفوري لوقف العمليات غير المسئولة التي تسببت في حالة ذعر بين المواطنين. السلطات السودانية لم تتأخر في التدخل العسكري بالفعل.

مقتل أسرة وجنديين

الفريق محمد عثمان الحسين، رئيس أركان الجيش السوداني، أعلن يوم الأربعاء 15 يناير/ كانون الثاني 2020 مقتل اثنين من جنود الجيش وإصابة أربعة آخرين في محاولة الجيش لإنهاء ذلك التمرد. لجنة أطباء السودان المركزية أعلنت إصابة شاب بطلق ناري منطلقًا من قاعدة المخابرات العامة، كما أعلنت اللجنة مقتل أسرة سودانية مكونة من ثلاثة أفراد تقطن بالقرب من مسرح الأحداث بسبب سقوط قذيفه عليهم، لكنّ لجنة الأطباء، غير الرسمية، لم تذكر معلومات أكثر عن الحادث، وعما إذا كانت القذيفة أتت من جانب الجيش أم عناصر المخابرات العامة.

لم يتم حصر الخسائر رسميًا سواء خسائر بدايته أو نهايته لكن الحسين أعلن أن الجيش استطاع إنهاءه بأقل الخسائر، على حد قوله. كما أعلن المتحدث باسم مجلس السيادة السوداني، محمد سليمان، إعادة فتح المجال الجوي السوداني وأن الأمور قد عادت لطبيعتها في الخرطوم. أما رئيس المجلس السيادي، عبدالفتاح البرهان، فقد لمح إلى احتمالية أن يكون الأمر محاولة انقلاب لا مجرد تمرد من أجل المستحقات المادية. البرهان شدّد على أنه لن يسمح بحدوث أي انقلاب، وأن الجيش السوداني يسيطر على زمام الأمور.

اقرأ أيضًا: السودان الدولة الهشة واستحالة الهيمنة السياسية

لكن البيانات الرسمية لم تتطرق إلى المعلومة التي نقلتها وكالة رويترز الإخبارية عن مصدر حكومي لم يذكر اسمه، من أن العاملين الغاضبين قد أغلقوا حقلي نفط في دارفور وكردفان بجانب عمليتهم في القاعدتين. يجدر ذكر أن الحقلين ينتجان يوميًا 5 آلاف برميل نفط، لكن في وقتٍ متأخر من يوم 15 يناير/ كانون الثاني 2020 أعلن وزير الطاقة والتعدين السوداني، عادل علي إبراهيم، أن المتمردين قد سيطروا بالفعل على حقلي نفط وتمت استعادتهما.

نشرت كذلك وكالة الأنباء السودانية تقريرًا مصورًا يحكي تفاصيل إضافية عن الحادثة. جاء في التقرير أن المتمردين أجبروا المهندسين على قطع الكهرباء عن الحقل بعد ساعتين من اقتحامهم للمكان. التقرير قال إن التزامن بين اقتحام الحقلين وإطلاق النار في قواعد المخابرات يكشف حجم التنسيق بين الفريقين ويؤكد وجود قيادة عليا تتحكم في المشهد.

من أطلق الرصاص؟

جانب من اشتباكات أمس بين الجيش السوداني وعناصر المخابرات العامة

بعد انتهاء التمرد، طبقًا للوصف الرسمي، أعلن البرهان أن مدير المخابرات العامة، أبوبكر مصطفى، قد تقدّم باستقالته. البرهان قال في تصريح رسمي إن مصطفى اتصل به ليُبلغ باستقالته لكن البرهان طلبها منه مكتوبة ليتم النظر فيها رسميًا. الجدير بالذكر أن جهاز المخابرات العامة السوداني يتكون من 14 ألف عنصر، 50% منهم في الخرطوم وحدها. واجه الجهاز اتهامات بقمع المعارضين أثناء فترة حكم البشير، لذا كان حلّ الجهاز مطلبًا أساسيًا من مطالب الحراك السوداني.

أما رئيس قوات الدعم السريع، حميدتي، فاتهم الرئيس السابق لجهاز المخابرات العامة، صلاح قوش، بأنه اليد الخفية وراء هذا التمرد. حميدتي صرّح بما لمح به البرهان إذ قال إن التمرد قام به أفراد من الجناح العسكري للمخابرات العامة، وهو الجناح الذي أسسه قوش. الجناح العسكري، أو هيئة العمليات، صدر بحقها قرار من المجلس العسكري في يوليو/ تموز 2019 بنقل تبعيتها إلى قوات الدعم السريع. ثم لحقه قرار آخر بنقل تبعيّتها للجيش وتسريح بعضها في خطة إعادة الهيكلة.

اقرأ أيضًا: الفريق حميدتي: يد ملطخة بالدماء تصطف مع ثوار السودان

في الخطة المذكورة تمت إحالة ضباط كبار إلى التقاعد من بينهم نائب مدير المخابرات و12 لواء. أما مديرها السابق صلاح قوش فهو مطلوب من قبل النيابة العامة السودانية بعدة تهم تتعلق معظمها بالثراء غير المشروع. ومنحته النيابة مهلة أسبوع لتسليم نفسه بدأ من 26 ديسمبر/ كانون الأول 2019. وإلا سوف يتم اعتباره هاربًا من البلاد أو مختفيًا عن الأنظار لإعاقة قرار النيابة بالقبض عليه.

بعد انقضاء المهلة أعلن النائب العام، تاج السر الحبر، بداية عدة إجراءات بالتعاون مع الشرطة الدولية، الإنتربول، للقبض على قوش المتواجد خارج البلاد للبدء في إجراءات محاكمته.

قوش: الهارب الحاضر

مظاهرت السودان المطالبة برحيل صلاح قوش، مدير المخابرات العامة الهارب.

قوش كان منذ أيامه الأولى شخصيةً مثيرةً للمتاعب. فقد شغل منصب رئيس جهاز الأمن والمخابرات بجانب منصب مستشار الرئيس حتى عام 2009. وفي عام 2012 سُجن بتهمة التخطيط لانقلاب على البشير لكنّه خرج من السجن بموجب عفو رئاسي.

بعد ست سنوات من السجن بدعوى الانقلاب على البشير عيّنه البشير مرةً أخرى رئيسًا لجهاز المخابرات وظل فيه حتى سقوط البشير في أبريل/ نيسان 2019. وفي مايو/ آيار من نفس العام تحدثت تقارير أن قوش رهن الإقامة الجبرية في منزله، لكنّه لم يظهر منذ ذلك الحين مما أكدّ وجوده في الخارج. كما أكدّ حميدتي تلك المعلومة بتصريحه الأيام الماضية بأنه لا يستبعد احتمالية وجود تدخل خارجي وراء أزمة ضباط المخابرات العامة، وأنّه أيضًا يرجح أن تلك الدولة الخارجية هي الدولة التي يقطن بها قوش حاليًا دون أن يُسميها.

قوش، أو صلاح عبدالله محمد صالح، ورد اسمه في عدة تقارير أمريكية تربط اسمه بقضايا تعذيب أثناء فترة رئاسته لجهاز المخابرات. التقارير الأمريكية تقول إنها تمتلك أدلة موثقة وشهادات ذات مصداقية تثبت تلك التهم على قوش. قد تكون التهم المرتبطة بقوش محل نزّاع قضائي لكن التهمة التي يواجهها عناصر التمرد لا جدال فيها.

النائب العام السوداني أكدّ أن ما حدث من أفراد هيئة العمليات هو تمرد كامل الأركان. قائلًا إنه يجب تقديمهم لمحاكمات عاجلة، ولوّح بالمادة 56 التي تنص على الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد لكل من يتآمر أو يُحرض على التآمر ضد الدولة. تبعاتٌ كثيرة لليلة طويلة عاشها السودان، أمس، لكنّ وزير الدفاع السوداني الفريق أول جمال عمر أكدّ أن جميع القيادات السودانية ماضية في إعادة هيكلة المخابرات العامة. وأضاف أن أحداث الأمس لن تؤثر على نزوع القادة في السودان للحلول السلمية لا المسلحة.