لم يكن حرق مقرات ودور «حزب المؤتمر الوطني» إبان الاحتجاجات التي انتظمت في عدد من ولايات السودان منذُ 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، إلا مؤشرًا لحالة من الفصام بلغت مداها بين الشعب والنظام الحاكم. الاحتجاجات، وإن بدت الأزمة الاقتصادية هي وقود حراكها، إلا أنها لم تقف على ذلك. ففي المظاهرات التي انتظمت في عدد من ولايات السودان، طالب المتظاهرون برحيل النظام؛ لتعبّر تلك المظاهرات عن أزمات متراكمة ظل السودان يرزح تحت وطأتها منذ مجيء الإنقاذ بانقلاب عسكري في 1989.

الشعارات لم تعد تطالب بتحسين الأوضاع المعيشية ليقين بات لدى السودانيين أن شيئًا لن يتغير ببقاء النظام، وظل الهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام»، حرية، سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.

بطبيعة الحال لم يقف النظام عاجزًا إزاء تلك المطالب. ففي المؤتمر الصحفي الذي عقدهُ الفريق صلاح عبد الله قوش، مدير جهاز الأمن والمخابرات، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، عن تورط خلية تتبع لـ«حركة تحرير السودان» التي يقودها عبد الواحد محمد نور، وأنهُ تم تجنيدها بواسطة جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، مشيرًا إلى تشكيل الخلية لغرف تخريب في كل من دنقلا، وعطبرة شمال السودان، وود مدني وسط السودان، وعدد من الأحياء بالخرطوم.

وفي أواخر ديسمبر/كانون الأول، أعلنت السلطات السودانية القبض على خلية تخريبية تتبع لـ«حركة تحرير السودان»، كانت مهمتها تنفيذ عملية اغتيال وسط المتظاهرين والقيام بعمليات تخريب ونهب، وكان المعتقلون من أبناء دارفور. هذا الإعلان من قبل السلطات قوبل بالاستهجان من قبل السودانيين على وسائل التواصل الاجتماعي، واعتبروه نوعًا من زرع الفرقة بين الشعب، ليأتي الرد عبر المظاهرات التي انتظمت بدعوة من «تجمع المهنيين السودانيين» الذي تنبى الحراك الثوري. المظاهرات التي كان مقرّرًا انطلاقها من صينية القندول في السوق العربي، الخرطوم، وانطلقت من أماكن متفرقة نسبةً لإغلاق الصينية، أطلقت الهتافات «يا عنصري ومغرور.. كل البلد دارفور».


رد النظام

اعتقالات عديدة نفّذتها السلطات الأمنية لناشطين، وسياسيين، وصحفيين، واعتقالات للمشاركين في المظاهرات التي تهدف للوصول للقصر الجمهوري وتسليم مذكرة للرئيس السوداني عمر البشير تطالبهُ فيها بالتنحي، إلى جانب سقوط عدد من القتلى تقول الرواية الرسمية إن عددهم 19 قتيلًا، والإصابات 219 مدنيًا، و187 من القوات النظامية. بالمقابل، أعلنت منظمة العفو الدولية عن سقوط 37 قتيلًا.

رغم ذلك فإن رد فعل النظام مقارنةً بالاحتجاجات التي وقعت في سبتمبر/أيلول 2013، يبدو قليلًا؛ إذ قتل 200 شخص طبقًا لمنظمات حقوقية، بينما تقول الحكومة السودانية إن عدد قتلى المظاهرات لم يتعدَّ 80 شخصًا. ليس ذلك فحسب، بل حتى الخطاب الذي ينتهجهُ المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) هذه المرة بدا أقل حدةً واستفزازًا من الخطابات السابقة عند اندلاع احتجاجات أو التذمر عند الأزمات.

فعلى سبيل المثال، أقرّ د. عبد الرحمن الخضر، رئيس القطاع السياسي بالمؤتمر الوطني، في 23 ديسمبر/كانون الأول، لدى لقاء تنويري لقيادات الحزب بولاية القضارف، بأحقية المواطن في التعبير عن رأيه بشأن موجة الغلاء، وأن خروج المواطنين في تظاهرات له مبرراته. وقال وقتها إن جزءًا من مسبباتها «صنعناه بأنفسنا، ولم نأت لنتسلط على رقاب الناس». أما حامد ممتاز، رئيس قطاع التنظيم بالمؤتمر الوطني، فأقرّ هو الآخر بحق المواطنين في «التعبير سلميًا»، في ظل اقتصاد يعاني أزمات لم يشهدها منذُ استقلال البلاد.


خلافات النظام

تعبر تلك التصريحات إلى حالة من الاختلاف داخل الحزب الحاكم، وخلاف في إدارة الأزمة، ومحاولات لتحييد المتظاهرين عبر الإقرار بمطالباتهم. فللفريق صلاح قوش رأي سلبي في إدارة الأزمة الاقتصادية من قبل معتز موسى، وزير المالية. وسبق أن تطرقت تقارير صحفية قبيل اندلاع المظاهرات إلى وجود خلاف في وجهات النظر بين قوش ومعتز في كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية.

وبدا ذلك جليًا لدى حديث بالمؤتمر الصحفي في 21 ديسمبر/كانون الأول، حين حمّل الفريق قوش الجهاز التنفيذي وولاة الولايات المسئولية عن تدهور الخدمات والأزمة الراهنة، بقوله إن جهاز الأمن قام بأدوارٍ كبيرة لمعالجة الوضع، وعندما ترك الأمر للجهاز التنفيذي عادت الأزمة من جديد.

في سياقٍ متصل، يقع الجيش في موقف حرج إذ يعيش في حالة تجاذب بين الحكومة والمواطنين؛ إذ يحظى الجيش بسمعة طيبة في معظم أنحاء السودان، وسمعة أفضل نسبيًا مقارنة بالشرطة والأمن، باعتباره قوات الشعب، كما أن الخبرة التاريخية السودانية تدعمه، إذ اختار الجيش في مواقف تاريخية حرجة، الانحياز للشعب، حتى ضد رؤوساء ذي خلفيات عسكرية، تحديدًا في حقبة الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر نميري.

وقد جاء بيان الجيش حمّال أوجه، ويُقرأ بأكثر من زاوية؛ البيان الذي صدر في 23 ديسمبر/كانون الأول أكّد فيه الجيش التفافهُ حول قيادته، وحرصه على مكتسبات الشعب وأمن وسلامة المواطن في دمه وعرضه وماله. وبدا موقف الجيش جليًا في الاحتجاجات التي شهدتها القضارف، شرق البلاد. فبحسب شهود عيان، قامت قوات الجيش بحماية المتظاهرين. رغم ذلك، يظل موقف الجيش رهينًا بالأوضاع السياسية.


الأحزاب السياسية

في الأول من يناير/كانون الثاني 2019، عقدت «الجبهة الوطنية للتغيير» التي تضم 22 حزبًا مؤتمرًا صحفيًا، أعلنت فيه عزمها تقديم مذكرة للرئيس السوداني عمر البشير تطالبهُ فيها بتشكيل مجلس سيادة انتقالي يتولى تسيير شؤون البلاد وتشكيل حكومة قومية تضم كفاءات وممثلي أحزاب، وحل البرلمان وتعيين مجلس وطني يتكون من 100 عضو، وحل حكومات الولايات ومجالسها التشريعية، والنأي بالقوات النظامية عن الاستقطاب السياسي، إلى جانب مطالبة القوات المسلحة بحماية التظاهرات السلمية.

أما أبرز الأحزاب الموقعة على المذكرة فهي حركة «الإصلاح الآن» بقيادة غازي صلاح الدين، وحزب «الأمة» بقيادة مبارك الفاضل، بينما قررت حركة الإصلاح الانسحاب من حكومة الوفاق الوطني.

أما «حزب المؤتمر الشعبي»، أحد أبرز الأحزاب المعارضة، وهو الذي يشارك في الحكومة حاليًا، فقد أعلن في مؤتمرٍ صحفي في 26 ديسمبر/كانون الأول، على لسان أمينه السياسي السفير إدريس سليمان، أنهم ما زالوا مع خيار الحوار حتى لا تنزلق البلد إلى منزلق خطر، وأنهُم بعد 17 عامًا من العمل مع القوى السياسية لإسقاط المؤتمر الوطني، فإن قناعتهم هي أن الحوار هو الخيار الأمثل. مصدر في حزب المؤتمر الشعبي أخبرني بصعوبة انسلاخ الشعبي من الحكومة، وأنهُ وضع نفسهُ على طريقٍ يصعب الرجوع منه.


وعود الرئيس

منذ اندلاع الاحتجاجات، ظهر الرئيس السوداني عمر البشير في أكثر من محفل. ففي 24 ديسمبر/كانون الأول، التقى البشير قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، مؤكدًا وفقًا لوكالة الأنباء السودانية (سونا)، استمرار الدولة في إجراء إصلاحات اقتصادية توفر للمواطنين حياة كريمة، داعيًا المواطنين لعدم الالتفات لمروجي الشائعات.

أيضًا، التقى الرئيس البشير في أواخر ديسمبر/كانون الأول بقيادات الشرطة بمقر الشرطة ببري-الخرطوم. البشير أكّد أن الحكومة لن تسمح لأيّ مخرب بالمساس بمكتسبات الشعب وزعزعة الأمن والاستقرار بالبلاد، مقرًا بالأزمة الاقتصادية والعمل على حلها.

أما مساء 31 ديسمبر/كانون الأول، واحتفالًا بذكرى استقلال السودان، قال الرئيس البشير في خطابه بالقصر الجمهوري إن البلاد تمر بظروف اقتصادية ضاغطة أضرّت بشريحة واسعة من المجتمع، مشيرًا إلى تقديره لمعاناة الشعب وصبره الجميل، لافتًا إلى أن البلاد تقترب من تجاوز المرحلة الصعبة والانتقال إلى الإصلاحات. أيضًا، خاطب الرئيس البشير في 3 يناير/كانون الأول اتحاد العمال والنقابات بالخرطوم، حيثُ أشار في خطابه إلى تعرض السودان لمؤمرات خارجية مستمرة وحصار اقتصادي.

بالمقابل، لم تؤدِّ وعود الرئيس البشير، ولا حالات الطوارئ التي فُرضت في كلٍ من ولاية القضارف، شرقي السودان، والنيل الأبيض وعطبرة، شمالي البلاد، أو حجب مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك، تويتر، واتس آب)، إلى خفض وتيرة الاحتجاجات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.