في روايتها المرشّحة على القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» هذا العام، ترسم الروائية السورية «شهلا العجيلي» لوحة متعددة الألوان والأطياف لحكايات النساء في سوريا، وما فعلته الثورة والحرب في نفوسهم وحياتهم، وكيف تركتهم في النهاية نهبًا لعدد من المشكلات النفسية والاجتماعية التي يصعب تجاوزها أو تخطيها في عالم اليوم الذي يغص بالدماء والحروب، ويضيع فيه كل شعورٍ بالطمأنينة والأمان.

تبدو الحكاية عن الحرب والثورة في سوريا هذه الأيام أمرًا مستهلكًا ومعتادًا، فمنذ سنوات لم يعد في جعبة الروائيين هناك ما يقدمونه غير المزيد من تصوير الفجيعة وأشكال الدمار التي لحقت بسوريا، إلا أن شهلا العجيلي تلجأ لذاكرة أبطالها في الرواية لكي تستعيد مع مشاهد الدمار والنهاية ذكريات مختلفة للطفولة والصبا، وأيام الرغد والسعادة التي كانوا يهنأون بها كغيرهم، مستعينة في ذلك باستحضار جيل آخر شهد حروبًا أخرى وتعامل مع مثل تلك المشكلات والأزمات، وتخطى حوادث الموت والدمار بقلبٍ ثابت، بل واستطاع أن يجعل من كل ما مر به من حوادث ذكريات يحكيها الأجداد للأحفاد بكثيرٍ من الحنين.

في رواية «صيف مع العدو» نحن أمام ثلاث حكايات تختلف زمنيًا ويتم تناولهم من خلال راويةٍ/ساردة واحدة هي لميس التي تعتبر شاهدة على جيلين مختلفين، جيل الجدة كرمة بحكاياتها وقصصها التي تعود بنا إلى ثمانينيات القرن الماضي، وجيل البطلة نفسها وحياتها وما جرى فيها، حتى تصل إلى صديقتها كارمن وما تعرضت له من مشكلات وأزمات، هناك في ألمانيا حيث يعيش السوريون لاجئين أخيرًا، تتجمع الحكايات وتستثار الذكريات.

من الرقة في سوريا، وذكرياتها وأحداثها، إلى مدينة كولونيا الألمانية وما فيها من رفاهية وترف، تستعيد الصديقتان لميس وكارمن رغم اختلاف بيئتيهما وتفاصيل حياتهما، ذكرياتهما. كيف كانتا قديمًا وكيف وصل بهما الحال إلى ما هما عليه الآن. ويأتي ذكر الحروب والدمار وما تخلفه فيهم من آثار، وعلاقاتهم بالناس والأصدقاء والرجال، وما تنتهي به إليهم من شعورٍ قاسٍ بالغربة وقسوة الأيام مع الحنين للماضي زمانًا ومكانًا.

لم تكن البيوت ميسورة في غالبيتها لكنها عامرة بالألفة، بحيث تشعر أن أي بيتٍ فيها هو بيتك، وأي وجهٍ من وجوه أهلها هو وجه قريب، لعل حزنًا سحيقًا هو الذي صنع هذه الألفة، حزن مجهول المصدر صاغ الناس في الرقة، وتحول من عاطفة متوارثة إلى حالة مناخية، فتجده في الماء والهواء وعلى الأرصفة، حتى البط في الفرات تجده ساهمًا يحدق في المدينة المرمية على الشاطئ، وأفكاره في مكانٍ آخر. وعلى الرغم من أن النهر يمتد حتى الطرف الجنوبي للمدين ولا يخترق قلبها، نتعامل معه كأنه شيء يومي مثل اللبن والبندورة والخيار والسمن العربي الذي يجب أن يكون في كل بيت… الفرات مصدر طمأنينتنا وخوفنا في الوقت ذاته، نعرف أننا لن نكون من غيره، ونعرف أن الخطر قادم منه أيضًا.

اقرأ أيضًا:«عمتِ صباحًا أيتها الحرب»: توثيق الحرب السورية روائيًا

رغم أن حكايات الحرب والمأساة تتشابه وتتلاقى وتتقاطع إلا أن ثمة تمايزًا واختلافًا في رؤية وطرح كل كاتب، وطريقة سرده وتناوله للقضية ورسمه لشخصيات أبطاله ومصائرهم. نحن هنا إزاء تجربة وحكايات عن الحرب، ولكن ثمة شخصية أخرى، ربما لم تصل إلى أن تكون مركزية في السرد، لكنها محورية في الأحداث، لا سيما وأنها الحاضرة الأولى في العنوان. أقصد به ذلك «العدو».

في صياغة مغايرة، ومن خلال مصادفة قدرية نادرة، يحضر نيكولاس الشاب الألماني المغرم بالبحث في النجوم والسماء، والذي يحتل جزءًا من قلب البطلة لميس وأمها في الوقت نفسه، يأتي إليهم في صيفٍ غابر قديم، أيام كانت تستكشف بعد مراهقتها وحياتها، وتغار على أمها، لتفاجأ به بعد سنوات الحرب والشتات والألم، وبعد أن تموت أمها في الحرب، تفاجأ بذلك الذي كانت تعتبره عدوًا صديقًا مختلفًا عن تلك الصورة القديمة التي رسمتها له في الماضي، وإذا به يغدو عجوزًا تصفه بأنه ذو وجه قبيح.

تزخر الرواية إلى جانب حكايات بطلاتها المركزيات بحكايات وشخصيات أخرى ثانوية، يحضرون فقط كنوعٍ من تداعي الذاكرة والخواطر على ألسنة البطلات، يأخذ بعضهم مساحة في السرد، ويرحل تاركًا أثرًا على نفسية القارئ قد لا ينسى.

من هؤلاء مثلاً الخال نجيب وحكايته التي تبدو في تفاصيلها وكأنها رواية أخرى شديدة الثراء والتأثير عن أيام النضال الشعبي السوري القديم، رغم نهايتها المأساوية القاسية. كذلك تحضر على الهامش حكاية أبو ليلى والخيول التي يربيها وعلاقته الفريدة بها، حتى خروجه من الرقة بعد اعتقال أبنائه، وغيرها من حكايات الحارة السورية الشيقة.

تضع شهلا العجيلي في روايتها وحكايات أبطالها الكثير من التفاصيل التي يغرق القارئ فيها، وربما يتوه في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط بعض أبطال الرواية ببعضهم، وتنتقل بالسرد زمنيًا ومكانيًا كما يتراءى بأبطالها بدون وضع حدود زمانية أو مكانية، بل تعتمد على التداعي الحر، فتنقلنا مع بطلتها إلى الماضي في فقرة، ثم تعود إلى الحاضر في الفقرة التالية. وكذلك تفعل مع عدد من شخصيات الرواية الذين يحضرون فجأة ويغيبون، ولكن تبقى الرواية في النهاية زاخرة بالعديد من التفاصيل والحكايات التي تعكس وجهًا إنسانيًا حقيقيًا لسوريا وغيرها من الشعوب التي قهرتها الحروب.

يبقى في النهاية إشارة لا بد منها، أن الرواية لم تقدم ولم تحكِ إلا حكايات أبطالها، وهي إن دارت بين الماضي والحاضر، إلا أنها لم تصور تاريخ الأمة العربية خلال فترة زمنية كبيرة، ولم تكن مشغولة بذلك أصلاً، وإنما توثق وتحكي حكايات أبطالها وبطلاتها التي تبدو من لحمٍ ودم، وما فعلته فيهم الحروب على مدار الأيام.

شهلا العجيلي روائية سورية، حاصلة على الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة حلب، وصلت روايتها «سماء قريبة من بيتنا» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2015، كما حصلت مجموعتها القصصية «سرير بنت الملك» على جائزة الملتقى للقصة القصيرة عام 2017.