بعض الروايات لا تنتهي منها بمجرد إغلاق صفحتها الأخيرة؛ إذ أن كل ما كنت تفعله أنك تغوص في عالمها وتتأمل أركانها وتتفاعل مع شخصياتها وأحداثها، تود لو أن الأمر لن ينتهي، وأن المواقف ستمتد أكثر، ولو أن النهايات أكثر انفتاحًا، بل ربما يدفعك الفضول لأن تفعل أكثر من ذلك، أن تبحث عن الأماكن التي تدور فيها الرواية، والشخصيات التي وردت، ربما تجد أثرًا باقيًا، لاسيما إذا كانت رواية تحمل عبق التاريخ وتتقاطع بعض أحداثها مع ما نراه ونسمع عنه هذه الأيام.

للمرة الثالثة على التوالي ينجح «أحمد القرملاوي» في روايته «أمطار صيفية» الصادرة مؤخرًا عن «الدار العربية للكتاب»، في أن يرسم عالمًا خاصًا به، رغم ما نكاد نراه متطابقًا فيه مع عالمنا وشخصيات يمكن أن نعرفها أو نقترب منها، ولكن يبقى لعالم «القرملاوي» وشخصياته خصوصيتهم وتفردهم، تلك الخصوصية التي لا تستمد من طبيعة الحكاية وتفاصيل الأحداث فحسب، وإنما أيضًا من تلك اللغة التي يمسك بزمامها باحترافٍ ويطوّعها تبعًا لحكايته كيفما تراءى له.

بطريقة فنية «هندسية» وبناءٍ «معماري» متماسك يقيم القرملاوي روايته الجديدة «أمطار صيفية» على أنقاض «وكالة الموصلي»، ذلك المكان الثري الذي افترض وجوده وأنشأ شخصياته وأدار الرواية كلها حوله، بينما نحن نعلم منذ البداية أن ذلك المكان أصبح أثرًا بعد عين.

سريعًا ما سيقُصُّ عليك أحدهم تاريخ الموصليّ، الذي كان صانعَ أعواد، قبل أن يصير إمامًا صوفيًّا في زمن لاحق. سيحكي لكَ كيف شرُفت مدينة الموصل بمولده، تلك التي أنجبت من قبله نبي الله يونس، كما أنجبت أفذاذ الموسيقيين في أزهى عصور الحضارة، لذلك أسماها العرب بالموصل، كونها ملتقًى يوصِل الشرق بالغرب. سيقول لكَ إن أباه كان صانعَ أعواد عُرِف بالمهارة والورع، وسقى ولده الفنَّ والصنعة، كما زكّاه بالإيمان. شَبَّ الصبي «عبادة» على محبة العود والألحان، وابتدع في سنٍّ صغيرة مقامات موسيقية لها العجب، لم يعرفها أهلُ زمانه ولم يُقَم لها وزنٌ في حينها، فقد سادَ في زمانه الوغى والصراخ، واندهس الناس أسفل أحذية جلدية مُلطَّخة بالدماء، وسنابك خيلٍ حادة كالنصال، حيث وافقت تلك الأيام البائسة زحف المغول على الموصل؛ «تيمورلَنك» وأشياعه.

سيدور في ذهنك كثيرًا أن هذه الرواية كان ينبغي أن يكون اسمها «وكالة الموصلي»، ذلك المكان المميز الذي دارت حوله الرواية وشخوصها، ولكن للمؤلف دومًا شأن آخر، عرفناه في رواياته السابقة، فلم تكن «التدوينة الأخيرة» كذلك، ولا كان «دستينو» -ذلك الاسم الغريب- كاشفًا لما سيأتي في الرواية، من هنا -ربما- جاء العالم وبني هذا الاسم، ذلك أن «القرملاوي» بين الثنايا، وفيما أنت منمدجٌ بين الأحداث والشخصيات، سيضع عددًا من حكايات الوكالة، تلك الحكايات التي قد لا توليها كل الاهتمام حينها، ولكن لعلك تعود إليها في قراءةٍ تالية لتتذكر الحكاية التي تحكي عن أمطارٍ تهطل في الصيف عقب زيارة أحد الشباب للوكالة، وكان يشكو وجده، ورغبته في الرحيل عن الدنيا.

«طالما أن الحياة منحة أُعطيتُها، فما العيب إن رغبتُ في ردِّها؟»، لم يُحِر الشيخ جوابًا، ولكنه أدناه منه وتلقّاه في حضنه، وجاد على شعره الجاف بدموع بلّلته. صار الموصليّ يرمق السماء، ومن عقيق عينيه يسيل ينبوعان صافيان، فيغيبان في صمت مهيب أسفل لحيته المفضَّضة. بكت سماء الصيف اللاهب لبكائه، فما عُرِف من أي غيم يسيل المطر الصامت، وليس في زُرقة السماء إلا ندفات قطن مبعثرة هنا وهناك، ولا عُرِف أكان المطر كرامة للشاب أم الشيخ.

ولكن الرواية مع ذلك ليست عن «الوكالة» ولا عن «الموصلي»، بل عن آخرين عاشوا حول تلك التحفة الأثرية الخاصة جدًا، التي غدت مركزًا روحيًا وموسيقيًا فريدًا، يؤمه المريدون من كل مكان وتتمازج فيه الأوردة الصوفية مع النغمات الموسيقية العذبة التي تصدح عن أعوادٍ رنانة صُنعت خصيصًا لهذا المكان وبين أصحابه. تحكي الرواية حكاية أصحاب هذا المكان والمترددين عليه؛ «ذاكر رسلان»، «الأستاذ» آخر شيوخ الوكالة القائم على أعمالها والذي يسلّم عهدته إلى تلميذه النابه العوّاد الماهر «يوسف» الذي يتعلق قلبه بابنته «رحمة»، في الوقت الذي يسعى إلى إنجاز رسالته في الماجستير عن «الموسيقى العربية» وتدور حوله «زينة ديناري» التي تطمح أن تحقق أحلامها في تحويل الوكالة إلى مركز فني بمواصفات عالمية ولن يتم لها ذلك إلا بمساعدته، وفي المقابل نجد ذلك الشاب «زياد» الذي دخل إلى الوكالة بائعًا يبحث عن فرصةٍ لتحقيق أحلامه بين رواد الوكالة وزائريها والتي تتعثر كلها وتنهار على أنقاض تلك الوكالة!.

امتلأ زياد بالنشوة التي استلبها مفتاح الوكالة، سيملك منذ اللحظة زمام الأمر، سيمسك رسن الدابة الحجرية التي تساوي الملايين والتي تضم كنوزًا تنتظر من يدرك قيمتها وطريقة استخراجها. أقعد الشيخ في بيته ورابضت بجواره ابنته، فيما انشغل يوسف بسعيه وراء المجد، فإذا بمفتاح الوكالة ينتقل من يدٍ عاجزةٍ لأخرى زاهدة، ويقع أخيرًا في يده، لامعًا ودافئًا.

لا يكتفي «القرملاوي» بالصراعات التي تنشأ -بطبيعة الحال- بين الرغبة الخفية المستترة التي تسعى إلى تحويل الوكالة من مركز صوفي روحي إلى مركز فني عالمي. ولكننا نلحظ صراعاتٍ من نوعٍ آخر بين جيران الوكالة من «السلفيين»، الذين يريدون أن يقضوا على ذلك المكان الذي يرونه مكانًا لنشر «المنكر» ويطمحون في الاستيلاء على موقعه من جهة، وتلك الصراعات الخفية الأخرى التي تمور في نفوس أصحابها كل واحدٍ منهم وما يضمره من أحلام شخصية ورغبات خاصة يسعى لتحقيقها بعيدًا عن هيمنة الآخرين من جهة أخرى، وإذا بالقدر في النهاية يفرض كلمته، والتي تبدو كما لو كانت صيحة التحذير التي يطلقها الكاتب عبر روايته من سيطرة أصحاب النفوذ والمادة على الجوانب الروحية في الحياة، واتخاذهم كل الوسائل في سبيل تحقيق مصالحهم تلك!.

استخدم «القرملاوي» تقنية جديدة في هذه الرواية، حيث لجأ إلى كسر الإيهام من خلال صوت «زينة» الأجنبية التي تتحدث إلى «القارئ»، وهي التي تكشف عن وجهة نظرها في الرواية التي بين أيدينا؛ مما يوضّح أن هناك طرفًا آخر غائبًا، أو «راويًا عليمًا» ولكنه مجهولٌ بالنسبة لنا، له علاقة بأبطال الرواية وبكل ما حدث منهم، ولكنه ليس أحدهم، وتتداخل زينة في الرواية مرتين أو ثلاثة لتوضّح وجهة نظرها ثم تنسحب في هدوء، وهي طريقة ذكية غيّرت من أجواء الرواية وصنعت حالة خاصة.

وقارئ روايات «القرملاوي» ربما يدرك أن كل رواية منهم قابلة جدًا للتأويل وإعادة القراءة على أكثر من وجه، ولكنه يدرك أيضًا أن العالم الذي ينسجه الراوي يبقى نسيج وحده، قابلٌ لأن يكون هو ذلك العالم الذي يحكيه بتفاصيله الثرية وخصوصية شخصياته وأحداثه وبنائه، فعل ذلك في رواياتٍ سابقة مثل «التدوينة الأخيرة» التي أنشأ فيها عالمًا موازيًا لعالمنا الذي نحياه ولكنه هناك في «الفردوس»، وكذلك فعل في «دستينو» يوم قارب عوالم الرأسمالية والهيمنة الأمريكية على مقدرات الأمم والشعوب بواسطة ألعابٍ ومسابقات ساذجة، وهو يبني هنا عالمًا آخر في «وكالة الموصلي» تدور فيه أنغام الموسيقى وتسبح فيه الروح حتى تحلق في السماوات فيما هي مشدودة إلى الأرض بحبلٍ وثيق!.

ستبقى في البال طويلاً شخصيات الشيخ «ذاكر رسلان» والجميلة «زينة»، والشاب المغلوب على أمره «يوسف» العوّاد، كما يبقى «زياد» بكل ما يمثله من تهوّر واستغلال وطيش، وتبقى على الجانب الآخر «رحمة» البريئة الطيبة، كما ستبقى شخصياتٌ أخرى جاءت على الهامش مثل «ياسمين/مبروكة»، والشاب الكويتي وغيرهم، وستبقى أيضًا «وكالة الموصلي» وما تمثله من رمزٍ روحيٍ رفيع، حتى وإن اختفت آثارها ولم تهطل «أمطار صيفية» تنقذها من الحريق!