لا يزال بريقُ حلم العلاج السحري بأعشابٍ ومواد طبية- تُحقق المستحيل وتقضي على الأمراض المزمنة والخبيثة بالضربة القاضية- يذهب بأبصار كثيرين في مصر وحول العالم، لا سيَّما المهووسين بنظريات المؤامرة، والمؤمنين بأن مافيا الدواء العالمية تتعمد إخفاء العلاجات السحرية الحقيقية، من أجل ربح المليارات من الدولارات من أدويتها العاجزة، ويستجيب لمثل تلك الأحلام المرضى المزمنين، الذين ضجروا من العلاجات الطبية التقليدية الدوائية والجراحية، التي تُكلف الكثير ماديًا ومعنويًا، ولا تخلو من آثارٍ جانبية عديدة ومضاعفاتٍ مُكْلِفة صحيًا ونفسيًا.

ومن أكثر المواد الطبيعية التي حظيت في السنوات الأخيرة بزخمٍ كبير في مجال العلاج بالأعشاب، مادة الكركمين، وهي المادة الفعَّالة الرئيسة الموجودة في الكركم الأصفر الذي يُكسِب توابل الكاري الشهيرة لونَها الأصفر المميز، ويُروِّج بعض الضالعين في مجال طب الأعشاب قدراتٍ خارقة لهذه المادة، تجعلها تعالج جُلّ الأمراض المزمنة والخبيثة التي أرهقت الطب والأطباء، وإلى جانب ذلك يتوافر أيضًا أدلة علمية رصينة على فوائد طبية حقيقية لتلك المادة.

في السطور التالية سنختبر معًا صدق تلك الادعاءات المتعلقة بالفوائد الصحية الهائلة للكركمين، ونضع النقاط على الحروف حول بعض جوانب الغموض في تلك القضية.

أبرز الفوائد الصحية الثابتة للكركمين

يتضح بسهولة لكل من يبحث عمَّا يقوله العلم المُدعَم بالقرائن والأدلة عن مادة الكُركمين وفوائدها الصحية، أنها بالفعل تستحق الاهتمام، وأن دورها لآلاف السنين في العلاجات التقليدية في الثقافة الهندية، لم يأتِ من فراغ. ويُرجع العلماء الدور المفيد للكركمين بالأساس لخصائصه كمضاد عامٍ للالتهاب، وجلّ الأمراض التي تصيب الإنسان تحدث على شكل التهاب لأنسجة الجسم المختلفة.

لكن لا يعني هذا أن الكُركمين قادر على علاج وشفاء كل الأمراض، فهذا ضربٌ من المبالغة، لكنه يصلح للقيام بدورٍ مساعد في السيطرة على بعض الالتهابات المزمنة التي تصيب الجسم، مثلما أظهرت إحدى الدراسات أن جرعة مركزة من الكركمين نحو جرامين يوميًا، قد ساعدت إلى جانب العلاجات الدوائية التقليدية في السيطرة على التهاب القولون التقرحي Ulcerative colitis، وتقليل فرص حدوث الانتكاسات المرضية الحادة. وما زلنا بانتظار المزيد من الدراسات لاستجلاء أدوارٍ إيجابية مماثلة للكركمين في أمراض مزمنة أخرى.

1. الكركمين والصحة العقلية والنفسية

أظهرت دراسة منشورة في دورية ScienceDirect العلمية المرموقة، أن المواظبة على تناول الكركمين بشكلٍ يومي على مدار عامٍ ونصف قد أسهم في تحسين وظيفتيْ الذاكرة والانتباه لدى كبار السن من غير المصابين بالخرف العقلي Dementia. كما أظهرت الأبحاث العلمية على الحيوانات أن الكركمين يسهم في زيادة مادة بروتينية تسمى BDNF والتي تسهم في حيوية مراكز المخ، وتكوين تشابكات عصبية جديدة بين خلاياها، وقد ربطت بعض الأدلة العلمية المتاحة بين نقص مادة BDNF  والإصابة ببعض الأمراص العقلية والنفسية مثل الخرف العقلي والاكتئاب النفسي… إلخ.

ولذلك فقد اهتمت دراساتٍ عديدة أجريت على حيوانات التجارب، وعلى بعض المرضى من البشر، باستطلاع قدرة الكركمين على الوقاية من وعلاج الخرف العقلي، لا سيما داء ألزهايمر الشهير، لكن حتى اللحظة، لا يوجد أدلة علمية قوية تؤكد وجود دورٍ ملموس للكركمين فيما يتعلق بألزهايمر وأخواته، وما زلنا بحاجة للمزيد من التجارب العلمية المنضبطة التي تدرس هذا الأمر.

اقرأ: هل يمكن تجنب الإصابة بألزهايمر؟

وفيما يتعلق بالاكتئاب، فقد توصَّلت بعض الدراسات إلى أن الكركمين يمكن أن يقلل حدة أعراض الاكتئاب عن طريق زيادة مادتيْ السيروتونين والدوبامين في المخ، واللتان تلعبان دورًا مهمًا في الحالة النفسية والمزاجية للإنسان، بل إن دراسات أخرى ذهبت إلى أن نتائج تعاطى الكركمين الإيجابية في بعض الحالات كانت مقاربة لدواء شهير مضادٍ للاكتئاب مثل البروزاك، وإن كانت النتائج الأفضل على الإطلاق من نصيب الجزء من المرضى الذي تعاطى البروزاك والكركمين معًا، ولكننا لا نزال بحاجة للمزيد من الأدلة القوية لتعضيد تلك النتائج.

اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.

2. الكركمين والمفاصل

تُمثل خشونة المفاصل مشكلة كبرى للعديد من كبار السن، لا سيما عندما تؤثر على المفاصل المهمة للحركة والحاملة للوزن، مثل الركبتين، مما يدفع كثيرين للإفراط في تناول المسكنات من أجل القيام بمهامهم اليومية، وقد يصل البعض إلى مرحلة الحاجة لاستبدال المفاصل جراحيًا.

أظهرت مراجعة علمية واسعة عام 2016 لمئات الدراسات الصغيرة التي أجريت حول علاقة الكركمين بعلاج التهابات وخشونة المفاصل، أن الكركمين بالفعل يمكن أن يكون علاجًا إضافيًا مكملًا يخفف الآلام الناجمة عن خشونة المفاصل، ويقلل حدة التهابات مختلفة في المفاصل، لكن حتى الآن لا يوجد أدلة علمية على أنه يكفي للاستغناء عن الأدوية المضادة للالتهابات والمسكنات. ويتوافر في السوق الدوائية المصرية مكملاتٍ دوائية لعلاج التهابات وخشونة المفاصل، تحتوي على الكركمين إلى جانب بعض المواد الأخرى.

وأظهرت دراسة على عينة ليست كبيرة من المرضى نتائج جيدة للكركمين على صعيدي الأمان والفاعلية في السيطرة على مرض الروماتويد المناعي الذي يتلف بالمفاصل عبر الالتهاب المزمن، لكن ما زلنا بحاجة إلى دراسات أكثر وأكبر من أجل ترسيخ تلك النتائج.

3. الوقاية من أمراض القلب والشرايين

عبر دوره كمضادٍ عام للالتهاب، يقلل الكركمين فرصَ الإصابة بالجلطات الحادة في شرايين القلب، حيث إنه يقلل من فرص حدوث الالتهابات لطبقة الإندوثيليم الناعمة المُبطنة للشرايين، والتي يؤدي تلفها أو التهابها إلى إثارة الصفائح الدموية، فتبدأ التفاعل الذي ينتهي بحدوث التجلط الدموي داخل الشريان. ولذا فلا غرو أن اعتبرت الأغذية الغنية بالكركمين من ضمن الأطعمة الصديقة للقلب.

كما بيَنت إحدى الدراسات أن تناول 4 جرامات من الكركمين قبل وبعد عمليات القلب المفتوح لاستبدال الشرايين القلبية التالفة CABG قد أسهم في تقليل الإصابة بالنوبات القلبية في فترة الإقامة بالمستشفى بعد إجراء العملية. وأظهرت دراسة أخرى فوائد للكركمين في الحفاظ على صحة قلب النساء في انقطاع الطمث، توازي الأثر الإيجابي للرياضة المنتظمة. كما أكَّدت مراجعة طبية واسعة أجريت عام 2017 أن إضافة الكركمين كمكمل غذائي إلى جانب تعاطي أدوية تقليل الكولسترول المعتادة، يسهم في تسريع السيطرة على ارتفاع الكوليسترول الضار، وبالتالي تقليل فرص الإصابة بأمراض القلب والشرايين.

لكن بالطبع لن يغني الكركمين في حماية القلب عن السيطرة على عوامل الخطر الرئيسة المسببة لجلطات شرايين القلب، مثل التدخين، وارتفاع ضغط الدم، وداء السكري، وارتفاع كوليسترول الدم… إلخ.

اقرأ: كيف أحافظ على صحة قلبي في زمن كورونا؟

4. مكافحة السرطان

يمكن تفسير الأدوار الإيجابية للكركمين في مواجهة السرطانات الخبيثة بقدراته كمضادٍ عام للالتهاب، ومضادٍ أيضًا لتفاعلات الأكسدة الضارة. لدينا بالفعل نتائج علمية أوَّلية مبشرة عن أدوارٍ للكركمين في تقليل النشاط السرطاني لبعض الأورام الخبيثة مثل أورام القولون، وكذلك تقليل فرص الإصابة بها في المقام الأول. وأكدت تلك الدراسات أن تعاطي الكركمين لفترة يؤدي إلى تقليل قدرة الخلايا السرطانية على الانقسام والانتشار، كما يقلل من تمدد الأوعية الدموية داخل الأنسجة السرطانية، والمسؤولة عن تغذية خلاياها. كما نمتلك بعض النتائج الأولية  التي تتحدث عن دورٍ مساعدٍ إيجابي للكركمين في السيطرة على سرطانات البنكرياس الخبيثة، وبعض أنواع سرطانات الدم كاللوكيميا.

لكن حتى الآن لا يوجد دليل علمي قاطع على أن الكركمين منفردًا يمكن يلعب دورًا حقيقيًا ملموسًا كمضادٍ لأي نوعٍ من السرطانات الخبيثة المعروفة.

مشكلات محدودة تتعلق بالكركمين

من أبرز الخصائص السلبية للكركمين، أنه من المواد سيئة الامتصاص عبر الجهاز الهضمي،  ولعلَّ هذا هو السر في شكوى البعض من الإصابة للإسهال بسببه، حيث ينزل القدر الأكبر منه مباشرة إلى القولون الغليظ وعبره إلى البراز. ولكن يمكن التغلب على مشكلة الامتصاص تلك بتناول الكركمين مع الفلفل الأسود، إذ وُجِد أن هذا الأخير يحسن امتصاص الكركمين 20 ضعفًا، ولذا فقد قامت بعض شركات الدواء بإنتاج مكملاتٍ غذائية تحتوي على الكركمين مزودًا بمادة البيبرين الفعالة المشتقة من الفلفل الأسود. كما أن تناول أقراص الكركمين مع الوجبات الدهنية يحسن امتصاصه أيضًا.

كذلك هناك حاجة إلى تناول جرعاتٍ كبيرة من الكُركمين من أجل الحصول على نتائج صحية ملموسة، مما يزيد احتمالات حدوث آثاره الجانبية مثل الإسهال والانتفاخات واضطرابات الجهاز الهضمي. لكن في المُجمل،لم يُسجَّل آثار جانبية خطيرة للكركمين حتى في الجرعات الكبيرة التي تصل إلى 8 جرامات يوميًا. وينصح معظم الأطباء لمن يريدون تعاطي المكملات الدوائية المحتوية على الكركمين للحفاظ على الصحة والحيوية بوجهٍ عام، بجرعةٍ تتراوح بين نصف، وواحد جرام من الكركمين يوميًا.

الخلاصة

الكركمين هو إضافة غذائية صحية ومفيدة وآمنة، يُحسِّن مناعة الجسم بوجهٍ عام، ويُقلِّل حدة الالتهابات بمختلف أسبابها، وقد يُقلِّل فرص الإصابة بأنواعٍ مختلفة من السرطانات، وكذلك يحد من خطورة الإصابة بأمراض القلب والشرايين.

لكنَّ في المقابل، فحتى لحظة كتابة سطور هذا المقال، لا يوجد دليل علمي قوي على أنَّ الكركمين بمفرده قادرٌ على علاج السرطانات الخبيثة، فنستعيض به عن علاجاتها الجراحية والكيماوية والإشعاعية الحالية، كما أنه لن يغني مثلًا عن دعامات الشرايين التاجية للقلب في حالات الجلطات الحادة والضيقات الشديدة، ولن يحل محلَّ أدوية القلب المختلفة، وكذلك لن يُحيي مواتَ كُليتيْن تعرضتا للفشل النهائي، فيغني الجسم عن جلسات الغسيل الكلوي الضرورية للحياة… إلخ.

ونعيد التنبيه مرارًا وتكرارًا أنه ليسَ كل ما يلمع ذهبًا، والعناوين البراقة التي تتحدث عن علاجٍ سحري ينهي كل المعاناة غالبًا ما يختفي وراءها بائعو الأوهام من اللاهثين من أجل الثراء السريع على حساب أرواح وآلام وأعصاب ملايين المرضى وذويهم.