لعل أشد أنواع الأخطار فتكًا، هي تلك التي تأتينا من حيثُ لا نحتسب، أو من مصدرٍ اعتدنا الاستهانة بقدرته على إحداث الأذى. ينطبق هذا كثيرًا على فيروسات الإنفلوانزا.

ألِفَتْ آذانُنا كثيرًا كلمة الإنفلوانزا، ويعتبرها أكثرُنا مرضًا محدود الخطورة، تقتصر آثارُه السلبية على الإصابة بالحمى، والشعور بالإجهاد، وعدم القدرة على القيام بأدوارنا الجسمانية والذهنية بالشكل المعتاد، ويستمر هذا بضعة أيام، بحدٍ أقصى أسبوع، ثم تتحسَّن الأمور، وكأنَ شيئًا لم يكُنْ.

برغم صحة الكثير مما ورَد في العبارة السابقة، فهو لا يصف إلا جانبًا واحدًا من الصورة. على الجانب الآخر، فإن فيروسات الإنفلوانزا مصدر تهديد خطير محتمل لصحة الإنسان، رغم التطور الكبير الذي شهده الطب في العقود الأخيرة. لا نتحدث فقط عن أشباح الماضي المخيفة، كوباء الإنفلوانزا الإسبانية الذي أزهق عشرات الملايين من الأرواح أوائل القرن الماضي – والذي يعتقد العلماء أن الفيروس المسبِّب له كان من نفس النوع الجيني المُحدِثْ لإنفلوانزا الخنازير موضوع تناولنا اليوم – إنما حتى عن الإنفلوانزا الموسمية التي تفتك بأرواح مئات الآلاف حول العالم كلَّ شتاء، كما حدث العام الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية – أقوى منظومة صحية في العالم – حيث تسببت في دخول أكثر من مليون مريض إلى المشافي، وما يُقارب 80 ألف حالة وفاة.

اقرأ: مائة عام على الإنفلوانزا التي أزهقت مائة مليون روح

تتميَّز فيروسات الإنفلوانزا بقدرتها اللانهائية على التحور الجيني، وإصدار نسخٍ معدلة جديدة، لا تتعرف عليها ذاكرة أجهزة مناعتنا، بخصائص مغايرة، وبقدراتٍ شديدة على إحداث المرض، وتوسع في دوائر الانتشار، كما حدث مع فيروس إنفلوانزا الطيور – ويُرمَز له بالرمز H1N5 وفقًا لتركيب مادتيْن معيَّنتَيْن فيه، طبقًا لنظام HN في تسمية فيروسات الإنفلوانزا – الذي اكتسب القدرة على الانتقال من الطيور إلى الإنسان.

في السطور التالية، سنتحدث عن سلالة أخرى شهيرة من الإنفلوانزا، أصابت الإنسان، ونجمت أيضًا عن التحورات الجينية لهذا القاتل المرن، واكتسبت ليس فقط القدرة على الانتقال من الحيوان إلى الإنسان، إنما أيضًا من الإنسان للإنسان. اسم شهرتها، هو إنفلوانزا الخنازير، رغم أن تركيبها يمزج بين عناصرٍ من إنفلوانزا الإنسان، والطيور، والخنازير. وأشهر إصداراتها هو H1N1v، وأقل منه كثيراً H3N2v (الحرف v مشتق من كلمة variant والتي تعني «نوعاً مختلفاً»).

إنفلوانزا الخنازير .. العودة إلى عناوين الأخبار

في الأيام والأسابيع الماضية، عادت إنفلوانزا الخنازير إلى الواجهة مجددًا، خاصةً في الشرق الأوسط، حيثُ سُجِّلت في الأردن وحدّه أكثر من 200 حالة إصابة، تُوُفِّيَ منهم – وفقَ مصادر مستقلة – خمس حالاتٍ على الأقل، مما أثارَ حالة من الهلع بين المواطنين الأردنيين، خاصة من أولياء أمور طلاب المدارس، حاول المسؤولون الأردنيون عبثًا التخفيف من حدَّتها.

انتقلت حالة التوجس من إنفلوانزا الخنازير إلى مصر، التي سرتْ بها شائعاتٍ عن بداية انتشارٍ وبائي لإنفلوانزا الخنازير بين طلاب المدارس – المتكدسة غالبًا – المصرية، وهو الأمر الذي نفاه مسؤولو الصحة في مصر جملةً وتفصيلًا، حيث ذكروا أن كل الحالات المسجّلة هي للإنفلوانزا الموسمية المعتادة، والتي تتوافر الأمصال الجديدة المضادة لها لهذا الموسم، ويمكن علاج أدوارها بالتزام الراحة، والنوم الجيد، والطعام الصحي.

ذكَّرَت تلك الأجواء بالانتشار الوبائي قبل الأخيرْ لهذا النوع من فيروسات الإنفلوانزا عام 2009، والذي لم يعلَن عن انتهائه إلا أواخر صيف العام التالي 2010، بعد أن فتكَ بأرواح العشرات حول العالم. نتج هذا الوباء آنذاك من إصابة بعض الخنازير بشكلٍ مزدوج بفيروس إنفلوانزا حيواني، وآخر إنساني، ليحدث تفاعل جيني بين الاثنين، نتج عنه النوع الجديد الذي سبَّب الوباء، لقدرته ليس فقط على الانتقال من الحيوان للإنسان، إنما أيضًا من الإنسان للإنسان عبر الرذاذ التنفسي، مما سهّل انتقاله لعامة الناس، بعيدًا عن مربِّي الخنازير، والمحتكِّينَ بها عن قرب.

إنفلوانزا الخنازير .. سؤال وجواب

عبر بعض الأسئلة والأجوبة السريعة، سنجلو الكثير من الحقائق الثابتة عن إنفلوانزا الخنازير، مبتعدينَ عن تهويل وسائل الإعلام، وتهوين المسؤولين السياسيين، لكي توضَعَ كلُّ الأمور في النصاب الصحيح.

هل تستحق إنفلوانزا الخنازير كل هذه الضجة الحالية؟

الإجابة نعم ولا. بالفعل هو نوع ذو خصوصية من الإنفلوانزا، قد يسبب في بعض الأشخاص – لا سيَّما من كبار السن والأطفال وأصحاب المناعة المنخفضة – التهابًا رئويًا شديدًا، قد يصل إلى حد التسبب في فشلٍ تنفسي حاد، قد يتطور إلى الوفاة. كما أن له القدرة على الانتشار الوبائي بين البشر محليًا ودوليًا.

لكن في المقابل، فإنَّ معظم أدواره تشبه الإنفلوانزا الموسمية المعتادة في أعراضها، وشدَّتها، ومضاعفاتها، وحتى طريقة العلاج. كما أن المصل المضاد لها أصبح يتوافر مع مصل الإنفلوانزا الموسمية الذي يُحدَّث كل عامٍ بالأنواع الجديدة من الإنفلوانزا الشائعة في كل بلد، والقادر على منع وقوع الإصابة، أو على الأقل تحسين المناعة ضدها إن وقعت وتجنُّب وقوع المضاعفات.

اقرأ: لهذه الأسباب عليكَ الحصولُ على لقاح الإنفلوانزا الموسمية

كيف تنتقل وما أعراضُها؟

لا يتحمل فيروس إنفلوانزا الخنازير درجة حرارة طهي اللحوم، ولذلك فلا ينتقل بتناول لحم الخنازير، لكنه قادر على الانتقال تنفسيًا عبر استنشاق الرذاذ للمختلطين بالخنازير عن قرب، وكذلك يمكن أن ينتقل بنفس الطريقة من إنسان لآخر، بل هو قادر على الانتقال من ملامسة اليد لأسطح ملوثَّة بالرذاذ الملوََث، ومنها إلى الأنف والعين.

تشبه الأعراض الإنفلوانزا الموسمية كثيرًا، حيث تحدث الحمى، والتي يصحبها الصداع وآلام منتشرة بالجسم، واحمرار العينيْن، وسيلان الأنف، وشعورٌ طاغٍ بالإجهاد الشديد، مع تكرار الميل للقيء ونوباته. في بعض الحالات قد تمتد الإصابة إلى الجهاز التنفسي السفلي، مسبِّبةً التهابًا رئوًيًا شديدًا ينتج عنه ضيق التنفس وصعوبته، والذي قد يتطور إلى فشل وظائف التنفس، والحاجة إلى وسائل الدعم التنفسي، وصولًا في الحالات الحرجة إلى أجهزة التنفس الصناعي.

وتبدأ الأعراض في الظهور بعد فترة حضانة منذ وصول الفيروس إلى الجسم تبلغ حوالي يومين إلى 4 أيام. وفي المعتاد، لا تستمر الأعراض لأكثر من أسبوع، حيث إن جهاز المناعة قادر على احتواء غالبية الإصابات دون تدخل خارجي.

كيف يتأكد تشخيص إنفلوانزا الخنازير؟

من الصعوبة بمكان التفرقة بينها وبين أدوار الإنفلوانزا المعتادة، نظرًا للتشابه الشديد في الأعراض. لكن يمكن الحصول على مسحة من البلعوم الأنفي وتحليلها لتحديد فيروس الإنفلوانزا الموجود، لكن لا داع لإجراء مثل هذا في كل حالات الإنفلوانزا، إنما يقتصر على شرائح المرضى الأكثر قابلية لحدوث المضاعفات مثل أصحاب الأمراض المزمنة، وكبار السن فوق 65 عامًا، والأطفال الرضع، والحوامل، والمصابين بأمراض تؤثر على المناعة مثل من يتلقون علاجًا مزمنًا بالكورتيزون، والمصابين بالإيدز، وبعض سرطانات الدم الخطيرة كاللوكيميا واللمفوما.. إلخ.

والعلاج؟

لا يختلف العلاج كثيرًا في غالبية الحالات عن علاج الإنفلوانزا الموسمية، حيث الراحة، وشرب السوائل بوفرة، والطعام الجيد المتوازن هي الأساس، إلى جانب خافض حرارةٍ كالباراسيتامول للسيطرة على الحمى. ولا دور للمضادات الحيوية مطلقًا هنا، فهي مصمَّمة لتواجه البكتيريا، لا الفيروسات، إلا في بعض الحالات الخطيرة التي تفتح فيها الإصابة الفيروسية الأبواب أمام إصابة بكتيرية ثانوية نتيجة إجهاد المناعة، حينها يستخدم الأطباء المضادات الحيوية بعد التأكد من بعض العلامات الإكلينيكية، والمزارع البكتيرية.

اقرأ: سوء استخدام المضادات الحيوية .. انتحارٌ جديد للإنسانية

واقرأ: الأساطير المؤسسة لطب الأطفال في مصر .. أسطورة المضاد الحيوي

لحسن الحظ، تستجيب معظم الفيروسات المسببة لإنفلوانزا الخنازير لمضادات الفيروسات المعتادة للإنفلوانزا، مثل التاميلو الشهير – اسمه العلمي أوسيلتاميفير – والريلينزا – زاناميفير – والقادرة على تسريع التعافي من الدور عندما تُعطى في الوقت المناسب خلال 48 ساعة الأولى بعد الإصابة. وينصح بتناولها لأي حالة إصابة بالإنفلوانزا في شرائح المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالمضاعفات، وذلك لتقليل فرص حدوث المضاعفات.

اقرأ: مجموعة البرد .. هيا ندمَّر المناعة ونُغذي البكتيريا

متى يجب طلب المساعدة الطبية؟

في الحالات الشديدة، عندما يعاني المريض من ضيق شديد في التنفس، أو اضطراب في درجة الوعي، أو هبوط في ضغط الدم .. الخ، لا سيَّما إن كان من الشرائح الأكثر عرضةً للخطر والتي سردناها منذ قليل. ويجب اللجوء فورًا إلى خدمة الطوارئ، لا انتظار الدور في إحدى عيادات أمراض الصدر.

تغريدات ختامية

  • لا داع للهلع من إنفلوانزا الخنازير. المطلوبُ هو الحذر لا أكثر.
  • التعامل مع إنفلوانزا الخنازير لا يختلف كثيرًا عن التعامل مع أنواع الإنفلوانزا الموسمية المعتادة.
  • مصل الإنفلوانزا الموسمي كل شتاءٍ لا غنى عنه خاصة للشرائح الأكثر هشاشة، كالأطفال، وكبار السن، والحوامل، وأصحاب الأمراض المزمنة، والمصابين بضعف المناعة لأي سبب.