في عام 1949 وُلدت «جمهورية الصين الشعبية»، الصين التي نعرفها، لكن ظلت 3 جُزر كبيرة خارج سيادتها. هونج كونج تحت السيادة البريطانية، ماكاو تحت سيادة برتغالية. أما فورموزا، تايوان، فأصبحت «جمهورية الصين الوطنية». عند قيام الثورة الصينية المسلحة بزعامة «ماوتسي تونج» ضد الجنرال الإقطاعي « تشيان تشاي»، هرب الجنرال وأسرته إلى فورموزا و أنشأوا بها دولتهم الجديدة، تايوان على بعد 160 كيلو مترًا من الحكومة الاشتراكية، وبمساحة تبلغ 0.3% من مساحة الصين الشعبية.

جزيرتان تحت الحكم الغربي، وواحدة تحت حكم من قامت ضدهم الثورة. لذا لعقودٍ طويلة كانت تلك الجزر الثلاث رأس الحربة في أي تحرك غربي ضد الصين الشعبية. ولأن الصين تمثل أكبر دولة شيوعية في آسيا، من الطبيعي أن ينالها نصيب الأسد من هجمات الرأسمالية الأمريكية اقتصاديًا وإعلاميًا وأمنيًا. خاصةً وأن ميلادها جاء في خضم الحرب الباردة بين المعسكر الأمريكي والمعسكر السوفيتي.

السياسة الأمريكية ضد الصين الشعبية تلخصت في الاختباء خلف تايوان، وجعل المواجهة مباشرة بين الطرفين. بدأت الولايات المتحدة حربها بعدم الاعتراف بالصين الشعبية ممثلًا للشعب الصيني، وأن تايوان هى الممثل الشرعي لهذا الشعب. لكن مقارنة الجزر الثلاث بالصين جغرافيًا واقتصاديًا وعسكريًا في صالح الصين الشعبية باكتساح، مما جعل الاستراتيجية الأمريكية محكومًا عليها بالفشل قبل أن تبدأ. أمام قوة بكين المتنامية لم تجد الدول الغربية بدًا من توالي الاعتراف بالصين الشعبية. لكن بكين اشترطت على من يريد الاعتراف بها أن يُنكر في الوقت ذاته أن تكون الصين الوطنية، تايوان،ممثلًا شرعيًا للشعب الصيني.


أمريكا تخون

اعترفت الولايات المتحدة، واعترفت دول أوروبا واحدة تلو الأخرى بالصين الشعبية كيانًا واحدًا وشرعيًا. هذا الاعتراف ترتب عليه خروج تايوان من الأمم المتحدة، وهى أحد أعضاء المؤسسين فيها. كما كانت أحد الخمسة الكبار الدائمين في مجلس الأمن، لكن سُحب المقعد منها لصالح الصين الشعبية، بكين.

بعد الاعتراف الدولي رفعت بكين شعار «الصين الواحدة»، صين تضم بكين والجزر الثلاث. استردت الصين هونج كونج وماكاو، وبقيت تايوان دولة مستقلة تمثل ثغرة أمنية وكابوسًا استراتيجيًا للصين. حتى الآن تُعتبر تايوان دولة غير مُعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وتأبى بكين إنشاء أي علاقات دبلوماسية في أي دولة تعترف بتايوان. إذن تايوان الدولة الجميلة، فورموزا تعني الجميلة، دولة مستقلة على الورق فقط، وتُعرف في الأروقة الرسمية باسم «جمهورية الصين الوطنية».

اقرأ أيضًا: الممر الاقتصادي: طوق الصين حول عنق العالم

منذ اللحظات الأولى تتخذ الصين خطابًا شديد الوضوح فيما يتعلق بتايوان،الضم بالقوة. لم تتحدث الصين في البداية، تحدثت مدافعها نياية عنها. هجمات متتابعة لكل الجزر الصغيرة المحيطة بتايوان استمرت حتى عام 1979. في 1979 أعلنت الصين التوقف عن القصف الذي سمته بالـ«القصف الروتيني» وفتح قنوات اتصال بين الطرفين. الرفض جاء من جانب تشيانج تشينج، رئيس تايوان آنذاك، بعريضة الـ«لاءات الثلاثة»، لا للتسوية، لا للتواصل، لا للتفاوض. بعد عامين تنازل تشينج عن الثانية، وسمح للمواطنين بزيارة الصين للقاء عائلاتهم. لكن دون توقيع أي اتفاق تهدئة أو تسوية بين الطرفين.


بلد واحد بنظاميّ حكم

هدأت وتيرة التصعيد، وتوارت التوترات خلف علاقات دبلوماسية غير رسمية حتى عام 2016. في 2016 تولت السيدة «تساي إينغ وين» رئاسة تايوان. تساي تنتمي للحزب الديموقراطي التقدمي المؤيد للاستقلال الرسمي. توقعت بكين أن تجازف تايوان بإعلان استقلالها رسميًا، فكثّفت عملياتها العسكرية جوًا وبحرًا حول الجزيرة. لكن أمام التقارب الأمريكي التايواني المتزايد، خشيت الصين أن تستدعي تايون الجيش الأمريكي لحمايتها أو تكون الولايات المتحدة عادت لاستخدام ثغرة تايوان لاختراق الصين.

ما دفع الرئيس الصيني «شي جين بينج»، في يناير/ كانون الثاني 2019، أن يُحذر تايوان ومن يدعمها أن الصين تحتفظ بحقها الكامل في ضم تايوان بالقوة. كما أبرق إلى الشعب التايواني أن يتقبل إعادة التوحد مع الصين في أي وقت. وأكد بينج أن ضم تايوان أمر لا مفر في نهاية المطاف، عاجلًا أو آجلًا. سبقت تلك التصريحات رسالة وزير الدفاع الصيني للعالم الغربي بأن الجيش سيتحرك مهما كان الثمن لإحباط المحاولات لفصل جزيرة تايوان.

إلا أن شعارًا جديدًا دخل قاموس الخطاب الصيني لتايوان « بلد واحدة ونظامان»، مما يعني أنه يمكنه لتايوان ذات الـ23 مليون مواطن أن تكون تابعًا للصين مع احتفاظها بنظامها السياسي والاقتصادي. رُفضت الدعوة الصين مباشرة، وهى مرفوضة منطقيًا قبل أن تُرفض رسميًا، كيف للصين الشيوعية أن تحتضن نظامًا رأسماليًا، وكيف للصين التي تحارب أي اختلافٍ في الدين أو العادات أن تحتوى تايوان المتدينة ذات العادات المختلفة تمامًا عن الشعب الصيني. إضافةً أن ذلك الشعار هو المعتمد رسميًا في علاقة الصين مع هونج كونج، لكن لا تتوقف مظاهرات ساكني الإقليم اعتراضًا على تضييق الحزب الشيوعي على الحريات الفردية.


وهم الغزو

في التصورات الصينية أن إجبار تايوان بالقوة العسكرية أمر بسيط، لكن بتدقيق النظر يبدو الأمر أصعب مما يبدو. الصين تقول إن بإمكانها احتلال جميع الجزر الصغيرة التابعة لتايوان، بجانب حصار الموانئ والمطارات الرئيسية. يتزامن ذلك مع انطلاق هجمة إلكترونية على البنية التحتية التايوانية. يُتوج ذلك هجمات صاروخية تُمهد للسفن الحربية الصينية لتقوم بإنزال جنودها على الأراضي التايوانية.

خطة محكمة نظريًا إلا أنها تتجاهل نقطة بسيطة، مضيق تايوان. الصين ستنقل جنودها بسفن كبيرة الحجم بطيئة الحركة نسبيًا، وستضطر للاصطفاف لتمر من مضيق تايوان البالغ طوله 180 كيلومترًا. طوال فترة مرورها من المضيق ستكون السفن معرضة لنيران تايوانية مباشرة دون أن تقدر على الرد بصورة مناسبة. حتى عند السفن التي تمر بسلام، لن تقدر على إنزال معدات ثقيلة وحاملات جنود على أراضي جزيرة تايوان المقابلة للمياه لكونها رمليةً وطينيةً لن تستقر فوقها تلك المعدات الثقيلة. كما أن ارتباك الجنود في اللحظات الأولى لنزولهم يجعلهم عرضةً لنيران 180 ألف جندي تايواني ينتظرونهم فور نزولهم.

كما أن الصين تُغفل أن الولايات المتحدة تمتلك قواعد عسكرية في المنطقة يمكن أن تُطلق منها ضربات جوية على القوات الصينية. والولايات المتحدة لن تعدم الحيلة لتجد مسمى قانونيًا يبرر ضرباتها الجوية. خاصةً في ظل التوترات الأبدية بين الصين والولايات المتحدة، فصارت الصين دولةً معادية رسميًا، بينما تايوان حليف وإن كان غير رسمي. حتى وإن انتصرت الصين في حربها وضمت تايوان بالقوة، فإنها ستعاني من إجبار شعب تايوان المختلف كليًا على التماهي مع الحياة الصينية.


فتش عن أمريكا

أعضاء الكونجرس الأمريكي يروون تايوان «حاملة طائرات غير قابلة للغرق»، والقيادة الأمريكية تدرك أهمية تايوان الاستراتيجية كخنجر في خاصرة الصين يمكن طعنها به إذا تجاوز الخطوط الحمراء التي تضعها الولايات المتحدة. لذا لا تبالي الولايات المتحدة بإغضاب التنين الصيني مقابل تمكين تايوان عسكريًا. في 3 يوليو/ تموز 2019 طالبت الصين الولايات المتحدة بإلغاء صفقة الأسلحة مع تايوان، لكن دون استجابة أمريكية.

الصفقة الضخمة قيمتها 2.2 مليار دولار، أكبر صفقة في تاريخ تايوان منذ عشرات السنوات. تشمل 108 دبابات «أبرامز»، و250 صاروخ أرض- جو قصير المدى. في يوليو/ تموز 2018 أقرت الولايات المتحدة صفقة أخرى لصالح تايوان تُقدر بـ330 مليون دولار. الصفقة كانت قطع غيار مُحدّثة لطائرات «إف- 15» و«إف-5». الصفقة الثانية، كما الصفقة الأولى، تزامنت مع فترة جفاء بين الصين والولايات المتحدة. فصفقة 2018 جاءت بعد فرض رسوم أمريكية على البضائع الصينية، بجانب توقيع عقوبات مباشرة على الصين لشرائها أسلحة من روسيا. كلاهما شبهته الصين باللعب بالنار وحثت الولايات المتحدة على التوبة عنهما.

اقرأ أيضًا:لماذا لن تنتهي الحرب التجارية الأمريكية الصينية قريبًا؟

يمكن أن نتحدث بلهجةٍ ساخرة عن كون بكين هى سبب تقارب الولايات المتحدة مع تايوان. فكلما زاد التنافر بين بكين وواشنطن، زاد التقارب بين وواشنطن وتايبي. إلا أن اللهجة الساخر ستُخفي جانبًا أصيلًا من الحقيقة،الجفوة مع بكين هي بالفعل سبب الدعم الأمريكي لتايوان. لذا فإن تعويل تايوان على الولايات المتحدة يُعد خطأ، وبهذه الصورة يمكن أن تُلدغ تايوان من جُحر الولايات المتحدة مرتين. فأمريكا أثبتت لتايوان سابقًا أنها حليف لا يمكن الاعتماد عليه بتخليها عنها حين اعترفت بالصين الشعبية وسمحت بطرد تايوان من المنظمات الدولية ككيانٍ غير رسمي.