لطالما مثّل وادي بنجشير الرقم الصعب في معادلة الصراع الأفغاني حتى اكتسب سمعة أسطورية على مر العقود، وقد أخذ المكان اسمه من أسطورة قديمة تخلد قصة خمسة رجال استطاعوا إنقاذ الوادي من الغرق، فأطلق عليه اسم بنجشير، وهي كلمة فارسية من مقطعين: «پنج» تعني «خمسة»، و«شير» تعني «أسد».

وقد نال الوادي شهرة عالمية بسبب صموده إبان الغزو السوفييتي لأفغانستان طوال سنوات الحرب العشر بسبب طبيعته الجبلية الوعرة التي تجعله شديد التحصين ضد أي هجوم، فهو محاط بجبال الهندكوش الشاهقة القريبة من سقف العالم، كما أنه لا يتأثر بالحصار لاحتوائه على كل مقومات الحياة وكأنه دويلة صغيرة قائمة بذاتها.

وقد ألهبت كلمات عبد الله عزام (الأب الروحي للتيار الجهادي) مشاعرَ متابعيه في الدول الإسلامية عندما كان يقص عليهم بطريقته الملحمية كيف تحطمت القوة السوفييتية الحديدية على مداخل بنجشير في الثمانينيات، وكيف تجاوزت آمال المجاهدين ذرى الهندكوش وأن هدفهم القادم رفع رايات النصر لترفرف فوق جبل المكبر وجبال الخليل في فلسطين.

أسد بنجشير

يضم الوادي أبرز تجمّع لأقلية الطاجيك في أفغانستان وكان معقلاً للجمعية الإسلامية التي أسسها عبد الرحيم نيازي في عام 1969 من الشباب الطاجيك، وخلال الغزو السوفييتي شكلت الجمعية قوات تحت قيادة أحمد شاه مسعود اضطلعت بدور محوري في الحرب، ولما عجز الروس عن اقتحام الوادي عقدوا معاهدة لوقف إطلاق النار في المنطقة مما مكن مسعود من قتالهم في أماكن أخرى في الشمال.

أطلق الأفغان على مسعود لقب «أسد بنجشير» التي ولد فيها ودافع عنها بمنتهى الصلابة حتى انهزم الروس وانسحبوا أواخر الثمانينيات، تاركين وراءهم حكومة شيوعية في كابل لم تستطع التصدي للفصائل الأفغانية التي واصلت تقدمها حتى دخلت كابل عام 1992، وتم تشكيل ما عُرف بـ«حكومة المجاهدين»، وفقاً لاتفاق بيشاور الذي قضى بإسناد الرئاسة إلى صبغة الله مجددي، قائد الجبهة الوطنية لشهرين ثم برهان الدين رباني، رئيس الجمعية الإسلامية لأربعة أشهر فقط، لكن الأخير خالف الاتفاق واستمر في المنصب، وتولى أحمد شاه مسعود، وزارة الدفاع ولاحقاً أصبح نائباً للرئيس.

وخلال السنوات الأربع التالية انخرط قادة الأحزاب الأفغانية في حرب أهلية مدمرة تبدلت فيها التحالفات مراراً وتحطمت فيها الصورة المثالية التي ارتسمت في أذهان الكثيرين خلال الغزو السوفييتي، وظهرت حركة طالبان عام 1994 واشتبكت فيها مع الجميع تقريباً وحاولت السيطرة على كابل عام 1995 لكن قوات مسعود دحرتهم، وبدأ الفرقاء يتجاوزون خلافاتهم للتصدي للحركة الناشئة التي ما لبثت أن هزمتهم جميعاً واستولت على العاصمة في 1996 بعد فشل المفاوضات مع حكومة رباني.

وأصبح مسعود القائد العسكري لتحالف الشمال وسيطر على المناطق الشمالية وكان وادي بنجشير هو معقله الرئيسي الذي تحول من أيقونة للجهاد إلى رمز لتحدي قوة طالبان.

وتم اغتيال أحمد شاه مسعود بعملية انتحارية نُسبت إلى تنظيم «القاعدة» حليف طالبان، قبل يومين فقط من هجمات 11 سبتمبر/أيلول2001. وغزت الولايات المتحدة أفغانستان في الشهر التالي وأسقطت حكم طالبان بدعم من التحالف الشمالي.

وقررت الحكومة التي تشكلت في ظل الوجود الأمريكي منح اسم أحمد شاه مسعود لقب «بطل الأمة الأفغانية»، وسيطر أتباعه على الوزارات والمناصب السيادية فأصبح شقيقه أحمد ضياء نائباً للرئيس، وتولى محمد قسيم فهيم وزارة الدفاع، وعبد الله عبد الله وزارة الخارجية، وأمر الله صالح رئاسة المخابرات، وتدرج هؤلاء وغيرهم من أبناء الوادي في المناصب القيادية العليا.

مسعود الابن

منذ سقوط كابل في قبضة طالبان في منتصف أغسطس آب الماضي بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي صعد نجم أحمد مسعود نجل أسد بنجشير الذي يحمل اسم والده، وعادت الأضواء إلى الوادي باعتباره معقل الطاجيك الأخير لمناوءة حكم طالبان وتم شحن كميات كبيرة من السلاح والمعدات الحربية إلى الوادي لقتال الحركة.

وأعلن مسعود الابن تحديه لحكم طالبان في تكرار لقصة والده مع الحركة إلى أن تم اغتياله عندما كان ابنه في الثانية عشرة من عمره.

وبرز الابن على رأس تحالف يدعمه أمر الله صالح، النائب الأول للرئيس الفار أشرف غني، والذي أعلن أنه الرئيس الشرعي المؤقت بحكم منصبه بعد شغور منصب الرئاسة وقال: «لن أنحني أبداً تحت أي ظرف لإرهابيّي طالبان ..أبداً لن أخون روح وميراث بطلي أحمد شاه مسعود القائد الأسطورة والمرشد»، وانتشرت على مواقع الإنترنت صورة لصالح ومسعود الصغير، في بنجشير، وتم إحياء «تحالف الشمال» من جديد.

لكن الواقع كان مختلفاً فقد مل أهل الوادي من الحرب وأراد الكثير منهم أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، لا سيما وأن الابن بخلاف أبيه لم يُختبر في ساحات الوغى بل قضى سنوات عمره في الدراسة متنقلاً بين طاجيكستان وإيران ثم بريطانيا لاحقاً حيث درس في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية ثم حصل على الماجستير في دراسات الحرب بكلية «كينغز كوليدج».

حل عقدة بنجشير

حاول مسعود حشد الجهود لمقاومة طالبان ووجه نداءات إلى الولايات المتحدة لدعمه، وكتب مقالاً في «واشنطن بوست» الأمريكية محذراً من أن سلاحه رغم كثرته لا يكفي لصد طالبان «ما لم يمد لنا أصدقاؤنا في الغرب يد المساعدة دون أي تأخير».

وحاصرت طالبان الوادي وأحاطت به قواتها إحاطة السوار بالمعصم وقطعت عنه الإنترنت بعدما أدركت أن حكمها لن يستقر في ظل غياب سيطرتها عن هذا المكان.

حاول الطرفان التوصل إلى اتفاق يحقن الدماء وتدخل الوسطاء لتسوية النزاع لكن المفاوضات لم تصل إلى أية نتيجة، فلجأت طالبان للقوة وعادت قواتها لتهاجم المنطقة انتهازاً لفرصة الهدوء النسبي الذي يسود البلاد وقبل أن يفيق خصومها من صدمة سيطرتها على أفغانستان ويبدؤون في تجميع صفوفهم من جديد وتحشيد جهودهم بالتنسيق مع مسعود لخوض حرب متعددة الجبهات ترهق الحركة وتمنعها من أن تهنأ بانتصاراتها وتتفرغ لإدارة الدولة وتحدياتها، وقررت حسم الأمور قبل قدوم فصل الشتاء حيث تتوقف الحياة ويتعذر القتال بسبب الثلوج، كما أن هناك سبباً آخر مهم وهو رغبة طالبان في إعلان حكومتها وهي خطوة تم تأجيلها إلى حين إنهاء الوضع فى بنجشير إذ كان من المتوقع أن تسفر المفاوضات عن إعطاء حصة في الحكومة للطاجيك ضمن تسوية يتفق عليها الطرفان.

واستطاعت الحركة غزو الوادي وخاضت معارك طاحنة خسرت فيها كثيراً من مقاتليها حتى تمكنت من السيطرة عليه واستولت على المعدات العسكرية والطائرات التي حشدها مسعود لحربها، وأعلن المتحدث باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد، أن الحرب انتهت رسمياً في البلاد بعد السيطرة على الولاية، وتعهد بأن جميع السكان سيتمتعون بكل الحقوق التي يحظى بها بقية الشعب وأن جميع المسؤولين الذين عينتهم الحركة مثل حاكم الولاية، ونائبه، وأعوانهم من أبناء المنطقة الطاجيكية.