التنظيم الطليعي خلقه عبد الناصر عام 1963، وظل يحكم مصر حتى عام 1971. ورغم مرور كل تلك السنوات ما زالت الآراء تختلف حوله، حتى نجد ثنائية متطرفة: ناقد، يرى أن دور التنظيم تمركز حول كتابة التقارير، وأعضاؤه كانوا «30 ألف تقريرجي» مهمتهم الأساسية «كتابة التقارير وجمع المعلومات، تقارير تُكتب عن أي شخص، ومعلومات تُجمع عن أي شيء مهما كانت قيمته». وعلى الضفة الأخرى تقف الكتابات الناصرية، تدافع عن التنظيم الطليعي، وتنفي عنه كل منقصة. وبين هاتين الثنائيتين، تاهت الحقيقة الموضوعية.

يستكمل هذا المقال الحديث عن التنظيم الطليعي (رابط المقال الأول).

ترى كتابات ناصرية أن عبد الناصر أخذ فكرة التنظيم الطليعي السري عن يوغسلافيا، فقد كان هناك الاتحاد الاشتراكي اليوغسلافي، وهو تنظيم واسع، وبداخل هذا التنظيم رابطة الشيوعيين اليوغسلاف. [1]

وتيقن عبد الناصر أن هرولة قرابة 5 ملايين للانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي في 20 يومًا فقط [2]، يعني انضمام ملايين من الانتهازيين والوصوليين، فأراد أن يكون هناك تنظيم عام مكشوف هو الاتحاد الاشتراكي، وتنظيم خاص سري يدين له بالولاء شخصيًا، وهذا التنظيم هو الذي يدير ويحرك الاتحاد الاشتراكي.

ولماذا السرية؟

برر عبد الناصر ستائر السرية التي ألقيت على التنظيم الطليعي بأنها لسببين، الأول: منع العناصر الرجعية من مهاجمة أعضاء التنظيم وتشويه سمعتهم. والثاني: منع الانتهازيين من الانضمام للتنظيم ومنع المنضمين من استغلال عضويتهم فيه. [3]

هذا التبرير غير مُقنع، فإذا كان السبب الأول يعني عدم مهاجمة ناقدي عبد الناصر لأعضاء التنظيم أو التجمع حولهم وإفسادهم، فإن الشرط الثاني لم يتحقق، فقد توسع التنظيم بشكل كبير، حتى ضم عناصر انتهازية لا تؤمن بالاشتراكية ولا بزعامة عبد الناصر، وإنما تميل حيث تميل المصلحة الذاتية.

ورغم أن عبد الناصر قد برّر سرية التنظيم بألا يستغلها عضو التنظيم، فإن ذلك لم يتحقق، بل كان هناك محافظات ومواقع كان مسئولو طليعة الاشتراكيين فيها، هم أنفسهم أمناء الاتحاد الاشتراكي، وبلغ من سطوتهم أن حازوا الصلاحية لإصدار أوامر لمديري الأمن للقبض على أي مواطن مشكوك في ولائه للزعيم الأوحد. [4]

والسرية التي فرضها عبد الناصر على التنظيم السلطوي لم تكن سرية على الأجهزة الأمنية، وإنما كان التنظيم سريًا على الجماهير الشعبية.

ومثلما كانت العضوية في تنظيمات عبد الناصر السياسية «تذكرة المرور» لتولي المناصب السياسية والقيادية، صارت عضوية التنظيم الطليعي جواز المرور لتولي المناصب الهامة في الوزارات والمحافظات [5]، وبشهادة سامي شرف فإنه «كان يُفضِّل اختيار المحافظ من التنظيم». [6] ويقول أحد قادة التنظيم إن أمانة التنظيم الطليعي حرصت على ترشيح كوادرها للمواقع التنفيذية والسياسية والجماهيرية، واختيار المحافظين والوزراء وقيادات الحكم المحلي. [7]

12 واجبًا وحقان اثنان

حددت لائحة التنظيم واجبات العضو في 12 واجبًا، في مقابل حقين اثنين فقط. من واجبات العضو «أن يحافظ على الاستقلال الوطني، وأن يتصدى بكل قواه للعملاء والخونة المرتبطين بدول أجنبية أو العاملين بتوجيهات منها». وهذه المهام لا تقوم بها سوى أجهزة الأمن والمخابرات لا المواطنين! وكيف يستطيع العضو التعرف على العملاء والخونة المرتبطين بدول أجنبية إلا بتحويل المجتمع إلى مجتمع بوليسي، يشك كل أخ في تصرفات أخيه وأقواله؟

ومن واجبات عضو التنظيم «كشف عملاء الرجعية وأعداء الاشتراكية وعناصر الفساد والانتهازيين في مجال عمله وسكنه» [8]، والرجعي في قاموس عبد الناصر السياسي يعني من يعارضه ولا يؤمن بزعامته، وهكذا يصير كل مواطن معارضًا لعبد الناصر أو لقرار يصدره عبد الناصر معرضًا للاعتقال ومصادرة ممتلكاته إذا وشي به مخبر في التنظيم الطليعي.

لذلك لم يكن غريبًا أن تكون كتابة التقارير السرية عن اتجاهات الرأي العام من أهم واجبات أعضاء التنظيم الطليعي. [9]

وتُرفع هذه التقارير إلى كل من: شعراوي جمعة، أمين التنظيم الطليعي ووزير الداخلية في الوقت ذاته، وسامي شرف، سكرتير عبد الناصر للمعلومات، ليقوم الاثنان برفعها إلى عبد الناصر. وإذا تعلّق الأمر بالموضوعات الأمنية والاقتصادية، لا يكتفي عبد الناصر بقراءة التقارير، وإنما يطلب الاجتماع مع مقدميها، وأحيانًا كان يوافق على ما يُرفع إليه بالتأشير على التقارير: يُعتقل أو يُفصل أو يُوضع تحت الحراسة (أي تُصادر أمواله). ثم ترجع التقارير مرة أخرى إلى شعراوي جمعة وزير الداخلية فيقوم بالتنفيذ فورًا.

من خلال هذه التقارير، وصلت «عيون النظام» إلى كل مكان، في الداخل والخارج، ومارست الجاسوسية على مواطنيها، جرى كل ذلك بطلب من القيادة إلى أعضاء التنظيم بضرورة «تقديم تقرير عن الحالة والتبليغ عن الأخبار»، فإذا لم يُبلِّغ العضو صار موضع شبهة، بأنه «عَلِم ولم يُبلِّغ».

وتحت هذه الخشية، صار العضو يكتب أي شيء وعن أي شيء ولو كان تافهًا. فعدم الكتابة قد تُفسر بكونها نوعًا من المشاركة الضمنية لأعداء عبد الناصر، حتى ولو كان الفعل الصادر مجرد كلمة نقد بسيطة أو نكتة سياسية، خصوصًا وأن أعضاء التنظيم لم يكونوا يعلمون بعضهم البعض، فمنْ لم يكتب صار خائفًا من أن يكتب من كان حاضرًا من أعضاء التنظيم، فيُؤخذ بذنب أنه «عَلِم ولم يُبلِّغ».

وعُدَّت كتابة التقارير دليلًا على الولاء لعبد الناصر والنشاط في الدفاع عن نظامه من خلال الكتابة عن أي شيء، كبر أو صغر. وقائمة أسماء التقارير التي نشرها الدكتور «حمادة حسني» في كتابه عن «التنظيم الطليعي» تبين أنها تناولت كل ما له أهمية أو ليس له أهمية. فقد صارت مهنة كتابة التقارير مفتاح المرور لكل منْ يرغب في طرق أبواب السلطة وتملق النظام للوصول إلى المناصب، ولو داس على كل القيم الإنسانية.

أمّا عن حقوق الأعضاء، فكانت حقين فقط، أولهما «أن يُبدِي رأيه داخل مجاله التنظيمي في مختلف المسائل المتعلقة بسياسة التنظيم وتنظيماته». وثانيهما «أن يتقدم عضو التنظيم بالتقارير في مختلف المسائل إلى مستواه، وإلى الهيئات الأعلى، بما فيها اللجنة المركزية خلال مستويات التنظيم» [10]، وهو مبدأ يثير الدهشة أن تكون كتابة التقارير من حقوق العضو ومن واجباته أيضًا.

ويبدو أن الشرفاء ممّنْ انضموا إلى التنظيم الطليعي قد انخدعوا بالمهمة التي حدّدتها لائحة طليعة الاشتراكيين بممارسة «التحليل الموضوعي للواقع الوطني المصري والعربي… والالتحام بالجماهير والتعرف على مشاكلها وإيجاد الحلول الصحيحة لها… وتدعيم حركة تقدم الجماهير إلى أهدافها…». [11]

ومن خلال مطالعة أسماء بعض من انضموا إلى التنظيم، لا نميل أبدًا إلى وصم كل أعضائه بأنهم كانوا من «كتبة التقارير»، فالشيخ عبد الحليم محمود (1910-1978) والأستاذ طارق البشري (1933-2021) كانا من أعضاء التنظيم على سبيل المثال، وهما يمتازان بالأدب الجم والأخلاق الرفيعة، والفريق محمد فوزي (1915-2000) كان عضوًا في التنظيم الطليعي، فضد منْ يكتب تقارير وهو الرجل الأول في القوات المسلحة؟!

لقد انضمت إلى طليعة الاشتراكيين بعض من نخبة مصر، وهم لا يعلمون بكل خبايا التنظيم، ولا بأعمال الانتهازيين ممّنْ تسرّبوا إليه كالجراد، فقد أرادوا عن نية سليمة المساهمة في إصلاح النظام من الداخل، لكن الفتق كان أكبر على الرتق.

المجتمع البوليسي

كان من الأمور الغريبة أن يُمسِك أستاذ الجامعة قلمه ليكتب، لا في البحث العلمي، وإنما ضد زملائه. وأن يُمسِك قاضٍ بقلمه ليكتب، لا بحثًا فقيهًا في القضاء، وإنما ضد زملائه. [12]

 من الشهادات المحزنة ما يرويه الدكتور «رشدي سعيد» في كتابه «رحلة عمر»، إذ يذكر أن التنظيم الطليعي جنّد ضده أفراد من مكتبه أو من أفراد مجلس الشعب. وقد حرص هؤلاء على حضور الاجتماعات التي يعقدها مع أساتذة الجامعة:

من باب الفضول أو من باب نقل ما يدور فيها من أفكار… وقد سبّبت ملاحقات هذه الأجهزة لي أكبر الإزعاج، وألجأتني ولأول مرة في حياتي إلى استخدام حبّات مهدئة، فقد أصبحت منذ ذلك التاريخ تحت المراقبة المستمرة، وموضوعًا للتقارير الكثيرة. [13]

وإلى جانب التقارير كانت هناك وسيلة أخرى لتدمير المجتمع، تسجيل المكالمات التليفونية، ويُشرِف عليها كل من سامي شرف وشعراوي جمعة، وتُحفَظ تقارير التنصت وتقارير المراقبة في مكتب تابع لسامي شرف. يجري كل ذلك دون الرجوع إلى أية جهة قضائية، مما فتح الباب لاستغلال تلك السلطة في أمور شخصية، أو تختص بعلاقات نسائية، والسيطرة على بعض الممثلات والراقصات.

الإخوان والشيوعيون

رفض الإخوان المسلمون الدخول في التنظيم الطليعي السري، فالعلاقات مقطوعة بين الجماعة وعبد الناصر منذ حادث المنشية. يذكر سيد قطب أنه علم حينما كان بالسجن أن بعض الإخوان رفضوا عرضًا من زكريا محيي الدين بدخول الاتحاد الاشتراكي، وكان العرض بحجة الوقوف في وجه التيار الشيوعي الذي توغل داخل الاتحاد الاشتراكي وبدأ في بث أفكار تمس العقيدة الإسلامية. [14]

وبينما رفض الإخوان دخول التنظيم الطليعي، وافق الشيوعيون على الانتظام فيه، بل أنهم اتخذوا قرارًا لم يسبق له مثيل في تاريخ الحركات الشيوعية في العالم أجمع؛ فقد وافقوا طواعيةً على حل الحزب الشيوعي المصري والحركة الديموقراطية للتحرر الوطني «حدتو» والاندماج في السلطة.

وفي ظل التقارب بين عبد الناصر والاتحاد السوفييتي، ودور الأخير في بناء السد العالي، جرى الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين بعد سنوات طويلة من الاعتقال بدأت في 1959. [15]

نال الشيوعيون بعض رضا عبد الناصر، ولم ينالوا كل الرضا، فقد ظلّت قيادة التنظيم في يد أهل الثقة، وظلّ الشيوعيون يمثلون الطرف الضعيف في تحالفهم مع السلطة، وقد اعترف بذلك حمروش [16]، حتى اقتصرت مهمتهم على كتابة التقارير. [17]

حصاد الهشيم

يتفاخر مؤيدو التنظيم الطليعي بدوره في كشف تنظيم سيد قطب عام 1965 من خلال معلومات وردت ضمن محاضر إحدى مجموعات التنظيم بالدقهلية، فكان من نتيجتها سقوط تنظيم 1965، ولم يكن في الواقع إلا تنظيمًا هشًا عددًا وعدةً، لا يزيد عن أربعمائة عضو.

ويتباهى مؤيدو التنظيم الطليعي بدوره في تتبع التحركات المعارضة لعبد الناصر سواء في مصر أو البلاد العربية والأجنبية. [18]

وفيما انشغل النظام الناصري بمدّ شبكة جاسوسية في طول البلاد وعرضها، كان عاجزًا عن قراءة ما تفعله إسرائيل، حتى كانت كارثة 1967، والتي لم نفق من آثارها حتى اليوم.

ورغم هول كارثة 1967، فإن التنظيم الطليعي استمر في مهمته الملوثة بكتابة التقارير، بل ووجد في الهزيمة مجالًا للكتابة، عمّنْ فرح بالهزيمة ومنْ حزن.

استمر التنظيم، حتى وضع السادات يده عليه في 15 مايو/أيار 1971، فقبض على رؤوسه بسهولة تامة، وألقى بهم في غياهب الزنازين والمعتقلات، فيما أسرع الوصوليون من أعضاء التنظيم إلى تغيير جلدهم كالحرباء، ليقفوا في صف نظام السادات الصاعد، بل وشارك بعضهم في محاكمة التنظيم الذي كانوا يومًا أعضاء فيه.

وليس صحيحًا أن التنظيم ما زال يحكم مصر، فقد انقطعت الصلة التنظيمية بين أعضائه منذ عهد السادات، فانتهى دوره من الحياة السياسية، وبقيت سيرته السيئة.

المراجع
  1. شكر، م س ذ. أحمد حمروش، ثورة 23 يوليو، مجلد 1، الهيئة العامة للكتاب، 1992، ص 611.
  2. حمروش، البحث عن الديموقراطية، ص 171، وكان عدد المنضمين 4 ملايين و885 ألف 923 شخصًا.
  3. شكر، م س ذ. جمال سليم، التنظيمات السرية لثورة 23 يوليو في عهد جمال عبد الناصر، مكتبة مدبولي، ب ت، ص 62.
  4. جمال سليم، التنظيمات السرية…، ص 82.
  5. ربط النظام بين عضوية الاتحاد الاشتراكي، أي الولاء لعبد الناصر، وتولي المناصب القيادية والتنفيذية في جهاز الدولة. فعضوية الاتحاد الاشتراكي شرط أساسي للترشح لعضوية مجلس الأمة والمجالس المحلية ونجالس إدارة النقابات المهنية والعمالية ومجالس إدارة الشركات والعمد والمشايخ والجمعيات التعاونية والنوادي الرياضية. (حمروش، البحث عن الديموقراطية، ص 182) مما يعني حرمان المواطنين من حقوق المواطنة بشرط الولاء للزعيم الأوحد.
  6. سامي شرف، عبد الناصر وكيف حكم مصر، ص 198، ويضيف “لم يكن جميع الوزراء ولا كل المحافظين أعضاء في التنظيم، ولكن عضوية التنظيم كانت توضع في الاعتبار عند الاختيار، لكنها لم تكن الأساس”.
  7. عادل الأشوح، حقيقة التنظيم الطليعي وانقلاب السادات على ثورة يوليو، المركز العربي الدولي للإعلام، القاهرة-لندن، ط 1، 2016، ص 56.
  8. لائحة طليعة الاشتراكيين، مذكورة في الأشوح، ص 177.
  9. يقول سامي شرف في شهادته عن هذه النقطة: “كل عمل سياسي ينتهي إلى كتابة رأي أو إبداء رأي”، وهو ما يعني اعترافا ضمنيًا بكتابة التنظيم لتقارير، لكن سامي يستدرك: “لكن إذا كنت تعني كتابة تقرير أخ عن أخيه، أو ابن عن أبيه، والعكس، فهذا لم يكن من واجبات التنظيم، وبالعكس هذه مسألة أخلاقية، ولم تحدث”. انظر: جمال سليم، التنظيمات السرية…، ص 66، 67.
  10. لائحة طليعة الاشتراكيين، مذكورة في الأشوح، ص 177.
  11. لائحة طليعة الاشتراكيين، ص 175.
  12. انظر الفصل الرابع في كتاب حمادة حسني، عبد الناصر والتنظيم الطليعي، ففيه تفاصيل محزنة عما انحدر إليه بعض القضاة.
  13. رشدي سعيد، رحلة عمر، ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات، الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2012، ص 151.
  14. لماذا أعدموني، ص 83: 86.
  15. حمروش، ص 614.
  16. حمروش، ص 614-615، ويذكر أنه شارك أحمد فؤاد في تشكيل فرع من التنظيم الطليعي يضم الشيوعيين، حتى بلغ عددهم أكثر من 250 عضوًا خلال فترة وجيزة.
  17. حمادة حسني، عبد الناصر والتنظيم الطليعي السري 1963-1971، مكتبة بيروت، ط 1، 2008، ص 64.
  18. الأشوح، ص 58، 59.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.