شريط الصوت هو أول ما يتبادر إلينا من فيلم «الحديث عن الأشجار». قبل أن ترتسم على الشاشة أول خيوط الضوء، وحيث القاعة ﻻ تزال تغط في ظلام دامس، نسمع رسالة صوتية نتبين أنها الشركة السودانية لتوزيع الكهرباء، وعلى أضواء الشموع نرى – بالكاد – وجه المخرج السوداني سليمان محمد إبراهيم يشتكي من انقطاع الكهرباء لليوم الخامس على التوالي. هكذا يبدأ الفيلم بهذا المجاز البصري المتكرر الذي يربط بلاغيًّا بين الظلام وبين القمع والديكتاتورية.

الفيلم التسجيلي السوداني «الحديث عن الأشجار» من إخراج صهيب قسم الباري، هو بكل تأكيد أحد أفضل الأعمال السينمائية لهذا العالم. حصل الفيلم على جائزة Glashütte للأفلام التسجيلية بمهرجان برلين، وجائزة أفضل فيلم وثائقي من مهرجان أثينا السينمائي الدولي، وجائزة النجمة الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي من مهرجان الجونة السينمائي، بالإضافة إلى عدد من الجوائز والعروض الأخرى بعدد من المهرجانات العالمية. 

بينما كان قسم الباري يصعد إلى المسرح بقصر برلينالي في فبراير الماضي ليتسلم جائزة مهرجان برلين، أحد أعرق وأهم المهرجانات السينمائية في العالم، كانت السودان في خضم حركات احتجاجية واسعة، عمت البلاد قبلها بشهور قليلة. لم تكن الجائزة احتفاءً بعمل فني رفيع المستوى، ولكنها أيضًا كانت تقديرًا لنضال شعبي استطاع أن يكسر قيوده بعد سنوات طويلة من قمع الحريات والإبداع باسم الدين. أما المفارقة السعيدة غير المرتبة مسبقًا، أن يتناول الفيلم هذا الموضوع بالتحديد دون غيره.

يدور الفيلم حول أربعة مخرجين سودانيين، هم: سليمان محمد إبراهيم، وإبراهيم شداد، ومنار الحلو، والطيب مهدي، قاموا بتأسيس جماعة الفيلم السوداني عام 1989 والتي تمارس نشاطًا ثقافيًّا سينمائيًّا ويشرف مؤسسوها على تنظيم العروض السينمائية المتواضعة بمقر الجمعية وعدد من القرى. تبدأ الأحداث في عام 2015، إذ يسعى المخرجون الأربعة لتنظيم عرض سينمائي واسع بمدينة أم درمان، من خلال إعادة تأهيل إحدى دور العرض المغلقة منذ ثلاثة عقود، ولكنهم يصطدمون بالروتين البيروقراطي، وتحول الموافقات الأمنية بينهم وبين مسعاهم.

سينما في مهب رياح الديكتاتورية

لم يكن قسم الباري قد تجاوز عامه العاشر حين قام الرئيس السوداني السابق عمر البشير بانقلابه العسكري في عام 1989، ذلك الانقلاب الذي اصطبغ بصبغة دينية منحته قبولًا شعبيًّا واسعًا وذريعة لخنق كل نشاط ثقافي وفني بدعوى الحرمانية الدينية.

عرفت السودان فن السينما في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ أنشئت أول وحدة لإنتاج الأفلام في السودان في عام 1949، وهي مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائي الذي اقتصر إنتاجه على الأفلام الدعائية وجريدة نصف شهرية، وكان هذا الإنتاج خاضعًا لسلطات الاستعمار البريطاني. وعندما استقل السودان عام 1956، كان عدد دور العرض 30 دارًا، وبعد ثورة 25 مايو/أيار عام 1970، تم تأميم الاستيراد والتوزيع وإنشاء مؤسسة الدولة للسينما تتبع وزارة الإعلام والثقافة، ولكن التأميم لم يشمل دور العرض التي وصل عددها إلى 55 دارًا. [1]

على مدى الفترة من الخمسينيات وحتى انقلاب عام 1988، كان التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية، إذ اقتصر إنتاج مؤسسة الدولة للسينما على الأفلام التسجيلية والقصيرة بمتوسط 10 أفلام في السنة. ولكن أكثر هذه الأفلام تمحورت حول النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته، فكانت أفلامًا دعائية أكثر منها سينمائية وفنية. وبعد الانقلاب العسكري تم التضييق على المجال العام، وبشكل خاص على حرية الإبداع وصناعة السينما بوازع ديني.

كانت جماعة الفيلم السوداني تنظم عروضًا في القرى، وفي أول عرض حضرته قامت عاصفة رملية. شاهدتهم وهم يهبون لتثبيت شاشة العرض بقوائم كراسيهم، وراقبت كيف مكث الجمهور جالسًا مستمرًّا في مشاهدة الفيلم، بالرغم من اهتزاز الشاشة. بدت لي الشاشة وهي ترفرف كشراع في زورق يقاوم. حينها أدركت بأني أريد أن أصنع هذا الفيلم.

هكذا تحدث قسم الباري عن الإلهام الذي دفعه لصنع فيلمه التسجيلي الطويل الأول، بعدما كتب وأخرج مجموعة من الأفلام الروائية والتسجيلية القصيرة، وفاز فيلمه (أفلام السودان المنسية) (2017) بجائزة العام للفنون والثقافة ضمن جوائز الصحافة الأجنبية لعام 2018.

صداقة في حب السينما

بعد سنوات من دراسة السينما في روسيا، وألمانيا، ومصر، عاد الأصدقاء الأربعة إلى السودان بنهاية السبعينيات من القرن الماضي، محملين بآمال عريضة لتحقيق أفلام تدفع بالسينما السودانية إلى دائرة الضوء، لكن الانقلاب لم يمهلهم وأتى على أحلامهم، فلم يبقَ منها سوى جماعة الفيلم السوداني.

بعد مجموعة من العروض الضيقة على شاشة صغيرة، قرر المخرجون الأربعة أن ينتقلوا بعروضهم إلى دار عرض حقيقية، حيث الشاشة الكبيرة والقاعة التي تتسع لجمهور أكبر. يتتبع الفيلم أبطاله في سعيهم للاتفاق مع أصحاب دور العرض المهجورة، وبعد محاولات غير ناجحة تأتي المفارقة الكبيرة بالفيلم في موافقة صاحب إحدى دور العرض التي تدعى (سينما الثورة).

في ندوة لمناقشة الفيلم مع صناعه بعد عرضه في مهرجان الجونة، يقول قسم الباري إن الفيلم التسجيلي هو من يقود صانعه لا العكس، فالصانع يعرف هدفه، ويسترشد به أثناء تصوير الفيلم، لكن ﻻ يمكنه بأي حال التنبؤ بما سيؤول إليه الأمر في الأخير.

تعتمد الأفلام التسجيلية بشكل أساسي على تسجيل أكبر كم من المادة المصورة، ثم تأتي مرحلة ما بعد الإنتاج التي يعكف فيها المخرج على نحت فيلمه واستنطاقه من هذا الكم الكبير، وهنا تظهر أهمية القدرة على التمييز والانتقاء. في الندوة نفسها يشير قسم الباري إلى أن تصوير الفيلم استمر لأكثر من عامين، لتأتي بعد ذلك مرحلة المونتاج التي كان عليه أن يختار فيها كيف سينتقي من عامين ما يحكي به قصة الأعوام الثلاثين الماضية من عمر السودان.

يبدو الفيلم في الظاهر عن أربعة مخرجين وعلاقتهم بالسينما، لكنه على مستوى أعمق يحكي قصة أربعة أصدقاء عاصروا حقبة مظلمة من تاريخ السودان، وهنا تأتي أهمية الدلالة الفنية لتصوير أغلب مشاهد الفيلم ليلًا بإضاءة طبيعية قدر الإمكان، وهو ما أضفى طابعًا قاتمًا على الصورة مثَّل مجازًا بصريًّا كما سبق وأشرنا. 

تعلو الفيلم مسحة رومانسية مغلفة بالنوستالجيا، إذ يركز في جانب كبير منه على علاقة الصداقة بين المخرجين الأربعة الذين تشاركوا في حبهم للسينما، وفي حلمهم بعالم أرحب ينالون فيه حرية السعي خلف أحلامهم. نرى ذلك في ذكريات الأبطال المتناثرة ما بين مشاهد أفلامهم الأولى التي أعيد ترميمها وعرضها بمهرجان برلين هذا العام، وبين مقتنياتهم الثمينة من شرائط الأفلام، وآلات التصوير القديمة، والصور التي توثق مرحلة الدراسة في الخارج، ونرى ذلك أيضًا في أكثر مشاهد الفيلم عذوبة إذ يقومون بقراءات خطاباتهم القديمة التي اعتادوا تبادلها في المنفى، وفي حديثهم عن أحلامهم المبتورة. يستعيدون كل ذلك دون أن تفارقهم الابتسامة، ودون أن تغيب عنهم الفكاهة والسخرية من كل ما هو قائم، ورغم كل ما مر بهم على مدى العقود الثلاثة ﻻ يزالون يسعون خلف واقع أفضل.

يقول قسم الباري: «هذا الجيل من السينمائيين الذي نعرض له في الفيلم، هو الذي وقع عليه كل القهر والمنع من صنع الأفلام رغم بداياته القوية» . وفي ندوة الفيلم بمهرجان الجونة يوجه أحد الحاضرين السؤال إلى المخرجين الأربعة عن تبعات المشاركة في مثل هذا الفيلم، سيما وأنه تم تصويره أثناء حكم البشير وقبضته الأمنية، لتأتي الإجابة من إبراهيم شداد الذي أشار للمخرج قائلًا: «حينها سنقول إننا ﻻ نعرفه» . هكذا واجه المخرجون الأربعة عقودًا طويلة من القهر والقمع، بالضحك ومواصلة السعي، وهذه هي القصة التي اختار قسم الباري أن يحكيها فيلمه.

نريد أن نتحدث عن الأشجار

ربما كانت المصادفة وحدها هي التي حكمت أن تتجاور سينما الثورة التي وقع عليها اختيار الأبطال، مع مركز للشباب يمارسون فيه رياضة كرة القدم، غير أن قسم الباري يستغل هذه المصادفة أفضل استغلال لتؤكد صورة الشباب الدائمة في الخلفية سؤال الفيلم عن مستقبل السودان قبل شهور من اندلاع الاحتجاجات الواسعة التي أطاحت بالديكتاتور.

بعد الاتفاق مع صاحب سينما الثورة على إقامة عرض جماعة الفيلم السوداني، وبعد البدء في التواصل مع وزارة الثقافة للحصول على الموافقة بإقامة العرض، يتواصل الأبطال الأربعة مع سكان المنطقة التي تقع فيها السينما، ويجرون استبيانًا يسألون فيه الشباب عن الفيلم الذي يودون مشاهدته، وعن خبرتهم الخاصة مع السينما، لنكتشف معهم أن هذا الفن الساحر لم يفقد بريقه في السودان رغم سنوات التحريم الطويلة.

في أحد المشاهد يرتقي الأصدقاء سطح مقر جماعة الفيلم السوداني، ويقوم المخرج إبراهيم شداد بعد مآذن المساجد المحيطة ليكتشف أنها ستة مساجد، ثم يقول في سخرية: (6 مكبرات صوت في هذه المساحة الصغيرة! هل هذا أصم ﻻ يسمع ذاك؟ على أيامنا لم تكن للمساجد مكبرات صوت). يكتسب تعليق شداد على مكبرات الصوت بالمساجد دلالة أكبر لدى حديث الأبطال عن احتياجات السينما لمعدات الصوت اللائقة، وفي مشهد آخر أثناء إقامة عرض خاص تمهيدي بسينما الثورة، يعتلي شداد المسرح لتوجيه كلمة للجمهور البسيط الموجود بالقاعة، ﻻ يلبث أن تقطعها أصوات الأذان الصاخبة، فيقوم شداد في رد فعل عفوي بتحريك شفتيه بلا صوت، فيعج الحاضرون بالضحك.

يقول قسم الباري: من وجهة نظري النهوض بالسينما السودانية لا يتطلب فقط صنع أفلام، فمثلًا ليست هناك حركة نقدية، ولا دور عرض أساسًا. النظام السابق سلمنا دولة منهارة تحتاج إلى نهضة في شتى المجالات ومنها السينما لأنها ليست بمنأى عن محيطها السياسي والاجتماعي. ويضيف: أمنيتي اليوم هو أن نستطيع تقديم الفيلم في نفس ذات دار العرض التي كان الأربعة يحاولون إعادة تأهيلها وتشغليها، سيكون هذا أكبر انتصار لهم وللسينما السودانية.

يستلهم الفيلم اسمه من عبارة للكاتب المسرحي والشاعر الألماني برتلوت بريخت يقول فيها: (أي زمن هذا الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار أن يصير جريمة؛ لأنه يعني الصمت عن جرائم أخرى). تأتي هذه العبارة في الفيلم على لسان المخرج منار الحلو، بينما في عدد من المشاهد يراقب الأبطال التغطية الإعلامية للانتخابات الرئاسية بالسودان عام 2015، والتي فاز فيها البشير بنسبة 94.5% من إجمالي أصوات الناخبين. ﻻ حاجة هنا إلى التعليق أو الخطابية المباشرة، إذ تكفي لغة السينما للتعبير بشكل فني عن واقع يرسف سكانه ومواطنوه في أغلال حكم عسكري ديني.

قبيل العرض الأول لفيلم «الحديث عن الأشجار» بمهرجان الجونة السينمائي، ذهبت إحدى الصديقات إلى شباك التذاكر تطلب تذكرة للفيلم، لكنها أخطأت اسمه لتقول: We need to talk about trees. ضحكنا كثيرًا على المفارقة اللفظية قبل أن ندرك أننا جميعًا في وطننا العربي نحتاج إلى الحديث عن الأشجار؛ ﻷنه سيعني حينها غياب أي جرائم أخرى تجعل من الحديث عن الأشجار جريمة.

المراجع
  1.  جان الكسان، السينما في الوطن العربي، عالم المعرفة، العدد 51، مارس 1982، ص 287.