يستغربون من الشاب الوسيم، حسن الطلعة، أن ينفق موهبته وعمره ومرهف أحاسيسه في شعر المآسي والوقائع والقضايا المغدورة والدماء المهدورة!

وفيمَ يريدون أن يكتب نصف المصري نصف الفلسطيني؟! نزيل رحم مبدعة الطنطورية وثلاثية غرناطة، الذي ما شب عن الطوق إلا وقد صرع طفولته وصباه مجازر الحرب الأهلية في لبنان، ومخازي الارتماء الكامب ديفيدي في الحضن الصهيو-أمريكي، ثم بكى شبابه شهداء الانتفاضتين ضد الكيان الغاصب، واكتفاء سدنة العروش المتعفنة بدور المتفرج في أشرف أحوالهم.

ولم يكد يلتقط بعض أنفاس السعادة المنتزعة من نسيم دخان الميركافا المحترقة في وديان جنوب لبنان 2006، حتى خذله وخذلنا بكَّاءو الحسين ومن وراءهم، وتفانوا باستماتة كربلائية في إنجاد يزيد! وما كاد يطرب لسيمفونية الصمود الغزاوي الفريد، حتى أثخن أسماعه وأسماعنا لحن التواطؤ والإجرام النشاز، والذي لا يكف عن الطنين في كل حين.

ثم الطامة الكبرى بالربيع العربي الذي حمل آماله -وهو الذي كان يستشرف اقترابه بشعره ووجدانه- وآمالنا إلى الآفاق ثم هوى بها وبه وبنا إلى الأعماق؟!

وهل كان لتميم الذي امتزجت جيناته بقضايا أمته، وتشرَّبتْها روحه منذ وجودها من العدم أن ينفق عبقريته الاستثنائية في الوصل واللقاء، والهجر والشقاء، واللثم والعناق، والهجر والفراق؟!

ولكن أبى تميم إلا أن يثبت حضوره المشهود في أوضح مجالات غيابه: فكتب أربعا في الغزل أراه أنهى بها كل نقاش في هذا الباب في زماننا، وأعيا سابقيه وحاضريه ولاحقيه أن يأتوا بمعشار صدقها ونفاذها في القلب والعقل. ببساطة: «جاب م الآخر»!

الشعر هو ابن البلاغة، سليلة خير الكلام الذي قلَّ ودل. طبقوا على أول بيت!

« بنفسي فتىً سهلُ الخلائقِ طيبُ … يمازحُ دهرًا عابسًا لا يُمازِحُ »

في تسع كلمات أوجز تميم وأنجز وصف نفسه، وزمنه! وعبَّر عنا جميعا وعن أيامنا العبوس القمطرير التي تبتلع منا كل روحٍ وعمرٍ ونفَسٍ وشغف.

فلا نستغرب من حبيس زمن النوازل والمهازل، والمآثم والمآتم. أن يُكثِرَ قولَ الشعرِ في الحربِ لا الهوى.

نعم يرى تميم أن الهوى لو قيسَ بالحربِ جارحُ، وأن الحروب رغم ضراوتها وآلامها وأهوالها، إلا أنه في كلِّ حربٍ ثمَّ حقُّ وباطِلُ. وفي الحبِّ لا هذا ولا ذاكَ واضحُ!

لكن تميم لا يخوض إلا حربا ضروسا واضحة الرؤية في حقها وباطلها، موليَّةَ وجهها شطر أمتنا وقدسها.

إلى هنا قد يظن المتعجل أن تميم قُدَّ قلبُهُ من حجر، وأن ولَعَهُ بقضيتِهِ أنساهُ شَطْرَ فِطرَتِه. وأنه يتحجج بالقضايا والنوازل لإخفاء قلبٍ باردٍ كالجليد.

لكن تميم يأبى إلا أن يحسم المسألة بقولٍ فصلٍ! ويغلق باب النقاشِ فيها إلى أجلٍ غيرِ مسمى.

وللدقة، فإن تميم الإنسان هو من سيمسك في خضم الكلمات القادمة بدفةِ التعبير وسط موج المشاعر المتلاطم. فيقول بالأصالة عن نفسه وأنفسنا، وقلبه وقلوبنا :

فإن قالَ لا أهوى … فليسَ بصادقٍ

وإن قالَ أهـوى …. أخْجَلَتْهُ المذابحُ!

لقد أخجلتنا وأخرستْنا المذابح يا تميم. وصرنا مسوخًا بائسة، صبرنا برود، وجزعُنا بلا حدود. كلما حاولت قلوبنا المحترقة بلهيب القنوط أن تنفخ في رماد مشاعرنا بعضًا من الروح، خذلناها وأخزيْناها وألقينا بها من جديد في أتون الاكتئاب. فصرنا في برزخ العدم؛ لا حياةَ ولا ممات.

هل سيأتي علينا يومٌ نهوى فيهِ بلا خجل؟! وننساقُ بلا عُقَدٍ وراءَ أفئدتنا المتعطشة فـنَحِنُّ فيه إلى من لمْ نلْقَهُمْ أبدًا، ونتركهُم يملكونَ علينا الروحَ والجسدا؟