إذا ما أضعْنا شامَها وعراقَها … فتلكَ من البيتِ الحرامِ مداخلُهْ!


عذرا فلسطين، سنؤجل الإبحار مع تميم في دنياكِ. فقد اكتشفنا أن عدونا الذي يبتلع وجودَكِ وكيانِك أرقُّ قتلًا وأرقى وحشيةً من الكثيرين من أبناء جِلْدتنا الذين أصبحوا مضرب الأمثال في الساديَّة والإهلاك.

وأولئك هم السرطان الخبيث الفعليّ الذين فتحوا أبوابَ مناعتِكِ على مصراعيْها أمام الشراذم الشتيتة التي انقضَّت عليكِ -وما تزال- حبيبتنا.

وهكذا جاء أوانٌ عليكِ يا أم القضايا ألا تكوني أهم قضايانا وأكثرها إيلاما، ولو لبُرهَة.

فـ مَعِينُ الدمعِ لن يبقى معينا ـــــ فمن أيِّ المصائب تدمعينا!

وهذه جرعة تميمية جديدة من الآلام والأشجان والآهات والحسرات. وهذا قدَرُ من كرَّس وجدانه لقضايا هذه الأمة البائسة، التي لا تنقضي ملاحمُها ولا تنجلي مآتمُها.

فأنَّي له بسرورٍ ينقلْهُ لنا في إبداعاته ؟َ! اللهم إلا بعض اللوِيْحِظاتِ الفَجريَّة التي تبزُغُ هنا أو هناك، فلا يلْبثُ الليلُ القميء أن يفترسَها ويفترسَ قلوبِنا معها.

شامُنا وعراقُنا، حيثُ الفرارُ إلى القتلة القدامى وبلاد القلوب الجليدية أخفُّ مضاضةً على النفس من قهر ذوي القربى وبطشِهم

حيث أمةٌ فيها عمادُ الحربِ والعسْكَرُ المَجْرُ … لكنه لقصفٍ أخ ٍ تجرأ على قولِ لا

حيثُ العشراتُ من أطفالنا يُحْشَرون صباح مساء إلى المشافي، على بردِ البلاطِ بلا سريرٍ، وإلا تحتَ أنقاضِ المباني. وقاتلُهُم إما من يتقرب بهذا إلى مفهومٍ خاصٍ به عن الربِّ ورضاه أوحاهُ إليه أبالسة الجن والإنس، أو من يريد أن يقنعنا أن تحرير القدس غايتُهُ، وقصفُ شعبهِ الثائر بالبراميل المتفجرة هو الوسيلة الحتمية المنطقية!

ولكن

كفُّوا لسانَ المراثي إنها تَرَفُ ــــــ عن سائرِ الموتِ هذا الموتُ يختَلِفُ

يا من تقولونَ يا ويلي ويا لهَفي ــــــ والله لم يأتِ بعدُ الويلُ واللهَفُ!

صدقت يا تميم، وليتَك لم تَصْدُق!

هذانِ البيتانِ المُرعبان قصَفَتْنا بهما مدفعية الإبداع التميميّ الطويلِ المدى منذ عِقدٍ من الزمان، إبّان اندلاع مأساة العراق في فلُّوجَتِهِ وأبو غريبِه وسواهما، فهل كان يجول ببالنا المسكين في أدهى كوابيسِنا أنَّ الأقدارَ ما تزال تُخبِّئ لنا من الموتِ ما يجعلنا نعتقد أن ما فات منهُ كان «بروفة»، والآن نشاهد العرض الدموي الرئيسي.

وحتى هذا لا يمكن الجزمُ به، فقد نكون الآن في «بروفة» أخرى لعرضٍ دموي رئيسي لم يأتِ أوان عرضِهِ بعد!

وهكذا حُكِمَ على أبناءِ شامِنا وعراقِنا أن يتعانقَ الموتُ فيهم والحياةُ كما … تعانَقَتْ في الحروفِ اللامُ والألِفُ

ولكن أي كلمات سنجدُها لتعبر عن مأساة العصر في شامنا وعراقنا؟! أي لغاتِ الأرض تحملُ من التعابير ما يوفي المأساةُ حقها؟!

لقد ضلَّ الكلامُ، وضلَّ المُهْتَدونَ بهِ ــــــــ إن الصِّفاتِ خِياناتٌ لما تَصِفُ

شعب سوريا قلبُ الشام ومادةُ العروبةِ الخام، أضحى جُلُّهُ بين سفاحٍ ومسفوح، وسجَّانٍ ومسجون، وطاردٍ ومطرود، ولاجئٍ في بلادِه أو خارجها، وتتقاسَمُ دِماءَهُ مصالحُ الأقربين والأبعدين!

هل وردَ في أشدِّ خواطرِنا تشاؤما أن تُبتلَى أمتُّنا بفاجعتَيْن في قلبيْها تزيحان فاجعة فلسطين – ولو مؤقتا – إلى المركز الثالث على مقياس آلامها ذي التدريج اللانهائي؟!

وهكذا أضحى عنوانُ أمتنا هو الموتُ الذي لنا ينسُجُ الأكفانَ في كلِّ ليْلةٍ، ولا تكُفُّ مغازِلُهْ!

على نشرةِ الأخبارِ في كلِّ ليلةٍ ـــــــ نرى موتَنا تعلو وتهوي معاوِلُهْ

والعراق، لا يكفُّ عن النزيف. وما زالَت رحى قتلاهُ دائرة. وملخص مشاهده اليومية كما قال تميم:

وقتلى على شطِّ العراقِ كأنَّهُم ـــــ نقوشُ بساطٍ دقَّقَ الرسمَ غازِلُهْ

يُصلَّى عليهِ ثمَّ يوطَأُ بعدها ــــــ ويحرفُ عنهُ عينُهُ مُتناوِلُهْ

أما نحن؛ من ابتُلينا بأن نراقِبَ لحمُ أمتنا وهو يُنتزَعُ إربا إربا، ونشاهدُ أشلاءُ كرامتِها تُلْقَى على قارعةِ التاريخ، ونقاسي ضياع آمالنِا فيها هباءً منثورًا؛ فقد أجفَلَنا ودوَّخَنا تتابعُ المآسي والمخازي في شامِنا وعراقِنا ومصرِنا ويمنِنا وغربِنا وشمالِنا وجنوبنا.

وأعادت صروحُنا النفسية تأسيس انفعالاتِها لتعتادَ كل هذه المذابح والملاحم فلا تنهار، فخسِرنا حتى دموعاً نُذَكِّر بها أنفسنا أننا ما نزالُ في حُكمِ البشر.

إذا عجَزَ الإنسانُ حتى عن البُكى … فقد باتَ محسوداً على الموتِ نائلُهْ

لكن لا مفرَّ من أن نُصارع القنوط الطاغي ببصيص من الأمل ولو اصطناعا، وندعو الله أن يعجّل بعودة أمتنا إلى دنيا الإنسان، وأن يُحيينا إلى يوم نثأرُ فيه ممن خانوا أمانَة حُكمِنا ووحدتِنا وثوراتِنا.

وقُلْ لمفرِّقِ البحرَيْنِ مهما … حَجَرْتَ عليهِما فسيرجِعانِ

وإن راهَنْتَ أنَّ الثأرَ يُنسى … فإنَّكَ سوفَ تخسَرُ في الرِّهانِ

أما عراقُنا وشامُنا و بالطبع قُدسُنا، فنعوذُ بالله من غلَبةِ الظالمينَ علينا فيهما، وقهْرُ رجولتِنا بالعجزِ عن القيامِ بما يليقُ تجاهَها، وأضعفُ الإيمانِ دعاءٌ واستجداء


يا سيدي يا رسولَ اللهِ يا سَنَدي … هذا العراقُ وهذي الشامُ قد فُقِدا

لنا ملوكٌ بلا دينٍ إذا عبروا … في جنَّةٍ أصْبَحَتْ من شُؤمِهِمْ جَرَدا

رماحُهُمْ في ذوي الأرحامِ ناشبَةٌ … وللأعادي ابتسامٌ يُظهِرُ الدَّرَدا