صبيحة يوم 7 أكتوبر الجاري خاضت كتائب عزّ الدين القسام عملية عسكرية مُقاوِمة ضد الاحتلال الإسرائيلي، حققت نجاحات كبيرة خلقت تخبّطًا في الداخل الإسرائيلي، إذ إن ما حدث يكشفُ وهن سردية التفوّق العسكري الدفاعي والتقني عبر أسيجة وأنظمة صد هجمات صاروخية وهيكل مُراقبة بشري وتقني ضخم.

مُنذ ذلك اليوم، الذي شهد «رد فعل» المقاومة الفلسطينية على مُحاولات الاستفزاز الإسرائيلي والاعتداء على المُقدسات الدينية في القدس، يعيشُ قطاع غزّة أسفل سماء تُمطر عليهم الموت. تجاوز عدد القتلى – حتى لحظة كتابة المقال- ثمانية آلاف، وطُبّق حصار مُحكم على سُكّان القطاع، وحوصر قطاع غزّة تحت تعريف إبادة جماعية وجرائم حرب يتلفتُ المجتمع الدولي بعيدًا عنها.

رُبما لم يحظ حدثٌ منوط بالقضية الفلسطينية مثل الذي يحصل عليه «طوفان الأقصى» حاليًا، إذ تُتيح الوفرة الإعلامية البديلة، الوقوف على مسافة قريبة من تفصيلات الحدث، نُتابع جرائم حرب الاحتلال ضد أهل قطاع غزة، نُطالع مُفردات جديدة تُبلور الحدث الجاري مثل الإبادة واستهداف مواقع حدودية لفتح ممرات تُشير إلى خطوة برّية. كُل هذه الأحداث تظهر، على مستوى مكشوف، رغم أن تاريخ النضال الفلسطيني ما زالت دماء قتلاه طازجة لم تنشف مع مرور السنوات التي شهدت مذابح مُماثلة حبيسة.

يُطالعنا تاريخ النضال الفلسطيني، مُنذ النكبة، أن مُمارسات الإبادة الجماعية من قتلِ مدنيين وتهجيرهم ليست وليدة الاعتداء الحالي على الفلسطينيين، وما نراه من مجازر وموت أطفال وعُزّل ليس جديدًا، كُل ما في الأمر فقط أننا الآن، ننظرُ إلى الصورة عن قُرب أكثر، وحتى الإنكار الساذج، الفارغ من أي مجهود في قول شيء مُزيف لكنه مضبوط شكليًا، ولو قليلًا، حاضرٌ مُنذ زمن بعيد في تصريحات وسرديات الاحتلال، تحديدًا، مُنذ إعلان قيام الدولة في 1948.

خلال مراحل الاستيطان ما قبل إعلان الدولة، تشكّلت عصابة عسكرية إسرائيلية عُرفت باسم الهاجاناه، لعبت دورًا إجراميًا في تأسيس الدولة، وانتظم في صفوفها عدد كبير، أصبح بعضهم قادة للدولة مثل مناحيم بيغن وشمعون بيريز وموشي ديّان، إضافة إلى أن هذا التشكيل المُسلّح، كان النواة الأولية للجيش الإسرائيلي الرسمي.

حددت الهاجاناه أهدافاً مركزية وإلزامية، منها الدفاع عن حياة اليهود وتدريب الأفراد المُتطوعين، من فتية وفتيان بين 15 و 18 عام، لأجل الدفاع عن المُستوطنات، وطبعًا ضمن آليات الدفاع، تم إنشاء نقاط عسكرية داخل الأراضي الفلسطينية لجمع الذخيرة والسلاح والغذاء، لتُستخدم في الحرب على فلسطين والعرب، إضافة إلى دور أساسي لعبته الهاجاناه لإنشاء أكثر من 50 مُستوطنة.

نهار الثالث والعشرين من مايو 1948، اقتحم لواء الكسندروني ضمن عصابات الهاجاناه قرية الطنطورة بفلسطين، تم إجبار العشرات من السُكّان على حفر خنادق، ثُم قُتلوا وتم دفنهم في مقابر جماعية. كانت الطنطورة قرية جميلة، ثريّة نسبيًا، بها سكة قطار وتطل على ساحل المتوسط.

مع تهجير ما تبقى من أهالي قرية الطنطورة، وطمس معالم المقبرة الجماعية، والتكتيم على حوادث الاغتصاب والقتل العشوائي للعُزّل عقب الاستيلاء على القرية من قِبل جُنود الاحتلال، لم يتمُ الوقوف عند هذه المجزرة، في أي سياق تاريخي أو قضائي، سوى في مطلع الألفينات، حينما رُفعت قضيّة تشهير على المؤرخ والباحث الإسرائيلي تيدي كاتس، الذي مُنع من تقديم أدلة صحّة أطروحته، ومُنع من الكلام، وتم إجباره على تقديم اعتذار لما وُجد في أطروحته من ادعاءات.

كان تيدي يُحضّر لأطروحة حول الجدل الحاصل عن قرية الطنطورة، إذ سمع بعض الأقاويل الأكاديمية عن ادعاءات تُفيد بحدوث مذبحة في الطنطورة خلال اقتحامها، ولأنه لم يجد أي مرجع مُسجّل أو مُدوّن، يتناول الأمر من أكثر من جهة، لم يجد سوى التواصل مع ما تبقى من الجُنود الذين اقتحموا القرية والفلسطينيين النازحين، وعقب إجراء حوارات مُسجّلة صوتيًا مع أكثر من 150 جُندي إسرائيلي وضحايا فلسطينيين، حصل تيدي على اعترافات واضحة من الجُنود، تؤيد حقيقة القتل الجماعي وجود مقبرة جماعية بالقرية دُفن بها 270 شهيدًا.

النُزوح من القرية

في الفيلم التسجيلي الإسرائيلي «الطنطورة» الذي صدر مُنذ سنة واحدة، ينطلقُ المُخرج الإسرائيلي آلون شوارتز من أرضية مُشتركة مع الباحث تيدي هاكتس، يستضيف الجُنود العجزة، يضعُ حكاياتهم واعترافاتهم بالتوازي مع حقائق تاريخية مُثبتة، ويتعامل مع المسألة بحيادية خالية من أي انتماءات، ليترك المادة الفيلمية في الأخير تختار أن تُشكّل منطقها السردي نحو الحقيقة.

القاتلُ البكّاء

اعتمادًا على التسجيلات الشفهية، أصدر تيدي أطروحته في جامعة حيفا وحصلت على تقدير 97\100، لم يتم اعتراض موقفه المُستند إلى ما توفر من المصادر المتاحة، إلا بعد نشر مادة صحفية في جريدة معاريف، عندها سحب الجنود اعترافهم المُسجّل، ورفعت قضية تشهير على الباحث باعتباره، كالعادة، مُعاديًا للسامية. في المحكمة لم يمتلك حق عرض الشرائط، ولم يُتح له حتى أن يتحدث، وسريعًا ثُبتت عليه تُهمة التشهير.

نقلًا عن فيلم الطنطورة، جاءت لتيدي زيارة ليلية عقب خسارته القضية، طُلب منه أن يمضي اعتذارًا عما كتبه في الأطروحة باعتباره لاغيًا، وقائمًا على سوء فهم في حق الجنود واعترافاتهم، تمت هذه الزيارة دون إذن رسمي، ولم يعرف بها مُحامي الدفاع إلا بعد حدوثها. من هُنا ينطلق المواطن الإسرائيلي والمخرج آلن شوارتز، عندما يُشير إليه تيدي بأنه في حالة أراد أن يصنع فيلمًا عن الطنطورة، أو عن أطروحته، فإنه سيكون عُرضة للملاحقة.

اعتمادًا على المونتاج كقطب فنّي أساسي في فيلم تسجيلي يدور في إطار شديد التقليدية من حيث العرض، يتم تخليص الأصوات الحاضرة في الفيلم، وشخوصها، من مساحة الحديث المُطوّل، كُل سؤال يأخُذ جُملة سريعة من أطراف مُختلفة، وبالتالي، يُنزع عن هذه الأصوات فُرصة اختلاق مُحكم، خاصة الجُنود الصهاينة، الذين تفككت حكاياتهم كاشفة عن مُحاولات مُعتادة للتلفيق، لا تختلفُ كثيرًا عن التي نراها الآن.

نرى أحد الجُنود حينما يطلبُ منه المُخرج، أن يتذكر ما حدث خلال يوم اقتحام الطنطورة وقتل المدنيين فيها، دون الإشارة إلى شيء، يسأل المُخرج عما حدث، بشكل عام، لنُطالع رُدودًا متنصّلة بابتسامات واهية، يقول الجندي، وهو مُتجاوز سن التسعين، إن الأمر صعبٌ في حكيه، ويتساءل، واضعًا نفسه في إطار ابتزازٍ عاطفي «لماذا لا أستطيع روي ذلك؟».

رغم اختلاف رُدود الجُنود حول نفس الأسئلة، ثمّة مركزية لآليات التنصّل بشكل جماعي، خاصة حينما كانت الأسئلة عامة، لا تُشير إلى إدانة، لكن مع مُواجهة آخرين باعترافات أصدقائهم المُسجلة، والتي أخذها المُخرج من الباحث تيدي كاتس، فإن آلية الرد تتغير، يقول أحدهم إنه رأى «أشياء» هُنا وهناك، لكنّه لا يستطيع التذكر، أو على قول جُندي آخر «رأيتُ ناسًا تموت، واكتفيتُ بالوقوف جانبًا».

المنطق ذاته حاضر، بين تصريحات جيش الاحتلال الإسرائيلي حول المجازر المُرتكبة حاليًا ضد فلسطينيي قطاع غزة، وبين تصريحات الجيل الأول في عصابات الهاجاناه، الذين اقتحموا الطنطورة وارتكبوا فيها مجزرة جماعية. آلية التنصّل حاضرة دون أي تطوير، فليس هُناك فارق كبير بين الزعم بأن مُستشفى المعمداني التي تم قصفها مساء 14 أكتوبر وقُتل بها المئات، ثم خرجت تصريحات من جيش الاحتلال تُفيد بأن ذلك نتج عن صاروخ من المقاومة سقط بالخطأ.

المشترك بين اعترافات الجُنود في الفيلم، وبين أي تصريح يُمكن الاطلاع عليه من قِبل جيش الاحتلال الآن، هو مركزية إباحة الفرد الفلسطيني، باعتباره مُجرّدًا من إنسانيته، من مُجرّد الحق في أن يكون ضحية، النسيان والتشويش آلية جيدة لعدّة عواجيز، للمفارقة، تذكروا في الفيلم أنهم دخلوا القرية صباحًا، وعند المساء نزلوا للسباحة في الشاطئ، بينما ساعات المجزرة، الجميع لا يستطيع تذكّر ما حدث خلالها.

هل عليّ أن أقول إنني كُنت قاتلًا؟ هذه ليست طبيعتنا

يأتي في مفتتح فيلم الطنطورة رجل كهل من أوائل من دخلوا القرية عقب اجتياحها، إضافة إلى ثلاث سيدات ما زلن على قيد الحياة. عندما يضع الفيلم هذه الحياة الطويلة، الآمنة، لمُستوطنين، بالتوازي مع إبادة أصحاب الأرض، فإنه ينتهي بسؤال جوهري للسيدات والرجل، يتعلق بإمكانية عمل نصب تذكاري لضحايا هذه المجزرة، فتعترض إحدى المُستوطِنات الأولى، مُشترطًا أن على سُكّان القرية أن يتقبلّوا الأمر، وأن هذه الأرض لم تعُد لهم، حينها يُمكن عمل تذكار.

ثمّة جُملة مُتداولة عن رئيسة وزراء إسرائيل السابقة جولدا مائير، لا تغفُر فيها للعرب على إجبارهم الإسرائيليين قتل الأطفال، تُذكرني هذه الجُملة بشرط المُستوطِنة، هُناك تطلّب لفرض حقيقة واحدة، تاريخ واحد، لا يتم تطويعه حتى بقليل من الجُهد في التزييف.

يُطالعنا بحثٌ نُشر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» على آلية تجهيل حقائق مذبحة الطنطورة على يدِ الاحتلال. مع إعلان قيام دولة إسرائيل في 1948، كانت الترتيبات مُسبقة لاستغلال الظرف الراهن، حيث إعادة هيكلة النظام الدولي، والبدء في مُواكبة حليف مُستقبلي له سيادة تظهر في الأفق. على أرض الواقع لم يكُن الفتات الإسرائيلي قادر على تشكيل دولة بعد، لكن مع نيّة الاستيطان والتوسع الداخلي، يُمكن دعوة اليهود المُفرقين في القطاع الأوروبي، وتوفير أماكن لهم عبر تهجير القُرى الفلسطينية.

قام نشاطُ الاستيطان على ضرورة الإجلاء، الذي كانت الطنطورة أحد تمثيلاته الدموية، فلا يُمكن خلق صلة جديدة بالأرض، قهرًا، إلا بقطع علاقتها بالسُكّان الأصليين، إلا أن النشاط العِصابي الذي ما زال يتجلّى في الحِراك العسكري الإسرائيلي حاليًا، يتمثّل في الجُنود وتلوّنات اعترافاتهم في الفيلم، التي تُعيدنا إلى آلية تمرير جرائم عصابة الهاجاناه، مُقتحمة القرية، وفرز الأفضل منها في الوزارة الإسرائيلية الأولى، بينما العصابات الأخرى، التي لم يُستطع تبرير جرائمها مثل مذبحة دير ياسين، تم تجريمها ككبش فداء لأخرى.

مع ذلك النُكران الشخصي والمُتخبط رغم وجود اعترافات لنفس الأشخاص بحدوث المذبحة، تُنتج الكُتب التاريخية عن حرب الاستقلال بنفس التجاهُل، مع طمس أية وثائق بها احتمال إدانة، لذلك لم يعثر الباحث تيدي كاتس على أية وثائق تُمكّنه من التحضير للأطروحة، سوى وثيقتين، إحداهما رسالة من مُقتحمي قرية الطنطورة إلى القيادة العُليا، تُفيد بأنه تم دفن القتلى في مقبرة جماعية و «كُل شيء على ما يُرام»، بينما السيرة المكتوبة دافيد بن غوريون، رئيسُ الوزراء آنذاك، تضعُ حجّة أخرى، وهي أن سُكّان القرية رفضوا شُروط السلام، وهي من اختارت القتال.

نُطالع الآن نفس نشاط الإنكار الذي يسهُل كشفه، وكأن هذه الجُنود بقدم في الحياة وأخرى في الموت، يستطيعون إعادة إنتاج أنفسهم، وعمل نُسخ كثيرة، تعملُ في الجيش وتُصدر القرار وتتحدث بلسان بريء، فهذا العالم مازال طيّبًا كفاية ليشعر بذنب الهولوكست مرة إضافية، ونقيًا كفاية ليُصدّق ما يصدُر من تصريحات إسرائيلية الآن، مثلما يُصدّق أحدهم، اعترف في مطلع الفيلم أنه قتل الكثير، ثم بعد ذلك رفض، بسُخرية، أن يُقال عنه «قتيل».

على امتداد أيام الحرب الحالية، تتساقطُ حوائط الدفاع المرئية، شديدة الوهن، التي خلقتها الميديا الإسرائيلية بكافة أشكالها، بنفس درجة سُقوط مُناورات الجُنود في فيلم الطنطورة، حيثُ تتمكن الحقيقة، وهي في أضيق حيّز مُتاح لها، أن تظهر، وتُمثّل موقفًا يُواجه العالم. لم يُعد هُناك ذكرٌ لأطفال مقطوعي الرأس، والآن يتجددُ الحديث حول تكهّنات بقصف آخر لمُستشفى يضُم 40 ألف نازح ومريض، لأن قعرها يطفح بتدبيرات إرهابية، وغدًا يتم تداول خبر جديد به إدانة، وعلى الجانب الآخر هُناك صُورة أخرى تفرضُ نفسها، لأن الحقيقة منطقها قابل التشكيل، عبر المُقاومة، ورُبما طول مُقاومة الطمس في اللحظة الراهنة، ثم مُقاومة سردية رسمية، تمنعُ حقيقة ما حدث في الطنطورة، بنفس تفحّش ما يحدث من سِباق مؤسسي وراء اللحظة الراهنة ومُحاولة تقييدها.