يمكن لأي عمل فني مهما بالغ القائمون عليه في إخفاء نواياهم الحقيقية منه، أن يقع في صدام مع الأنظمة الحاكمة طالما أن الرموز بداخله أكثر من الإيماءات والإسقاطات فاقت التوقعات حينها تصدر السلطة نوبة كراهية مفادها «لا للمجاز».

بالرغم من أنها كانت قادرة وربما نجحت في أن تُشبع الشعور الوطني وتلهب الحس العام بشيء من الفخر المفتقد بل وتُجلد بسوط مشبع بالقار أعتى الطامحين إلى العودة من رجال الحرس القديم، إلا أنها كانت سينما كئيبة في محتواها، رخيصة في طرحها، خشنة، وموجهة، تفتقد لأبسط درجات المرونة، صُنعت خصيصاً لتناسب أبناء جيلها وأبطال واقعها المعاش فقط، والحديث هنا عن سينما «23 يوليو» ،أو كما أحب رأفت الميهي تسميتها ذات مرة بسينما «الواقع الناصرى»، هذه السينما التي ناسبت فقط جيل ما بعد الحقبة الملكية؛ حيث سقوط نظام ما كان يُتوقع زواله بتلك السهولة، وأفول طبقات قديمة كانت تتميز بالرقي الاجتماعي، وصعود بدلاً منها طبقات أخرى محدثة سلطة وثراء وذوق وفكر وربما فن أيضاً؛ فوجدنا أفلام ال«Glorification Symbol» بحسب وصف عالم النفس داين يونج، والتي تناولت في مضمونها العرضي التمجيد المطلق للزعيم ورفاقه والمؤسسة التي ينتمون إليها والتي أفرخت مثل هؤلاء الأبطال، بدا الأمر في بدايته عرضياً ولم يحمل كثيراً من القلق بقدر ما حمل كثيراً من الدهشة.

بعض الأفلام ذات الصبغة الكوميدية تعرض بعض الجوانب الحياتية وشديدة الخصوصية في المؤسسة العسكرية حديثة الترقي، من منا لم يضحك للصعوبة التي يجدها العسكري في تنفيذ الأوامر العسكرية التي تُطلب منه في فيلم «إسماعيل ياسين في الجيش»، بل من منا لم يلتهب حسه الوطني الدفين عندما اشترطت الفتاة نادية على رجب أنها لن تتزوج منه إن لم ينضم إلى الأسطول البحري في الجيش المصري في «إسماعيل ياسين في الأسطول» واضعة على المحك تعاستها القدرية بالزواج من رجل مُسن على الزواج من جبان يهاب الحياة العسكرية، وهكذا إلى آخر السلسة المطولة والتي تبدأ دائماً بذكر اسم إسماعيل ياسين في مقدمتها وإلى جانبه أحد أفرع الجيش أو الشرطة والتي يجري الترويج لها، وبالرغم من أن هذه النوعية من الأفلام كانت ضعيفة من حيث المعنى والمضمون ومهترئة من حيث السيناريو والحوار بل والموسيقى التصويرية أيضاً؛ ويرجع ذلك ربما لأنه جرى تنفيذها على عجل لاستثارة المشاعر الوطنية إزاء الحقبة الوليدة إلا أنها كانت قوية من حيث المغزى واستقطبت وعن جدارة جموعاً عديدة في عصر بات يسمى عصر الجماهير الغفيرة.

هذا ما أعددناه لكم

لم تعط الثورة الوليدة الفرصة لجماهيرها الغفيرة لالتقاط الأنفاس أو استيعاب ما هم قادمون عليه، فمنذ اللحظة الأولى حددت أهدافها وتطلعاتها كافأت مؤيديها ونالت من أعدائها، وكان أعداء الثورة هم الأحزاب بكل توجهاتها ومكوناتها، والاستعمار بكل أشكاله وأنواعه، والإقطاع بشتى جوانبه، ورجال البلاط القديم نخبة كانوا أو منتفعين، وبضربة منجل واحدة ودون اللجوء لأدنى درجات الدقة وتحري الحقائق إيذاء ما سيصبح لاحقاً سنداً رسمياً في الوثائق التاريخية للأجيال القادمة على فساد حقبة بعينها، مزق صلاح سالم الذي كان يتولى في تلك الفترة وزارة الإرشاد القومي «الإعلام»، خيوط عنكبوت الواقع فبعد أن انتهت سينما عبد الناصر من ترسيخ مفهوم «الجيش أولاً» في الأذهان، كان عليها أن تضع تفسيراً حكيماً لبعض النكسات التاريخية كحرب فلسطين، والتي شارك أغلب ضباط مجلس قيادة الثورة في الخطوط الأمامية بها، حتى إن جمال عبد الناصر نفسه حُصر فيها وكاد يؤسر لولا الصدفة التي قادت مجموعة تتبع للجيش العراقي وفكت الحصار، الذي سيعرف لاحقاً بـ«حصار الفالوجة».

فما كان لنا غير أن نرى أفلاماً مثل «أرض الأبطال وأرض السلام» و«الله معنا» و«الإيمان»، التي تطرقت جميعها إلى قضية الأسلحة الفاسدة، وتآمر مجموعة بعينها وعلى رأسها الملك نفسه لشراء معدات عسكرية عفى عليها الزمن ومطالبتهم باستخدامها ميدانياً برغم ما تحمله من خطورة على مستخدميها فقط لكي تزداد أرصدتهم البنكية حتى ولو كان على دماء وأشلاء جنود وظباط الجيش.

القضاء على الاستعمار كان أحد أهم المبادئ التي نادت بها ثورة 23 يوليو، وبرغم أن المعنى يبدو ضيقاً في عرضه إلا أنه كان فضفاضاً في ذاته؛ فمحاربة الاستعمار والتخلص منه في نظرية يوليو لن تقتصر على الشأن «الميتروبولوتانى» أو الداخلي، ولكن عليها أن تمتد إلى المحيط الجغرافي الممتد لمناصرة البلدان المقهورة والشعوب التي تعاني من الاستعباد والرجعية. ومن الأفلام التي أُنتجت خصيصاً لبلورة تلك الأيديولوجية كرؤية أخلاقية على شاشة السينما، فيلم «جميلة» الذي يتناول كفاح الشعب الجزائري ضد المحتل الفرنسي، وحجم الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدمه قاهرة ناصر للفدائيين الجزائريين، وفيلم «ثورة اليمن» الذي يروي قصة الشاب «منصور بن صمود» بعد عودته من القاهرة وحصوله على شهادة الجامعة؛ فيجد أسرته اليمنية في انتظاره وقد سلبها نظام «الإمام» بيتها، ولرغبته في الثورة فقط ينضم منصور إلى تكتل الأحرار، الذي قام بالثورة ضد الإمام بقيادة عبدالله السلاسل بدعم من القيادة المصرية آنذاك.

القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، كانا من الركائز الأساسية لوثيقة يوليو فلم تغفل سينما عبدالناصر ذلك، وقد جرى الإعداد لبلورة ذلك المبدأ على الشاشة بأعمال دغدت المشاعر وأثارت الإحسان العام على معايشي تلك الحقبة ففي «رد قلبي» نجد ما يعانيه الفلاح المصري وأبناؤه من دونية وتقزم على يد أحد الإقطاعين المتعجرفين، والذي يرفض زواج ابنته ذات الجذر الممتد والفرع المديد من أحد أبنائه نظراً للتفاوت الطبقى في ما بينهما، وبالرغم من أن الرفض يبدو مقبولاً ومنطقياً بعض الشيء، فإن ثورة يوليو وبعصاها السحرية جعلت ما هو غير منطقي ويستحيل التصديق إلى مقبول ويرضى القبول فيتزوج علي من إنجي.

بينما تطرق فيلم «القاهرة 30» والذي أنتج سنة 1966، إلى محفوظ عبدالدايم الشاب القروي الفقير الذي يضطر إلى بيع مبادئه وكرامته واللعب على وتيرة الفساد الأخلاقي والسياسي، الذي كان ثيمة ذلك العصر؛ لأجل الثراء السريع والترقي الاجتماعي بالتجاوز، فلا يجد غير الزواج من فتاة منحلة على علاقة برجل آخر ذي منصب كبير، فقط لأجل أن يمتلك قوت يومه ويحافظ على أمانه الاجتماعي، في رسالة صريحة أن فساد الأخلاق الاجتماعي وانتشار الرشوة والمحسوبية كان إحدى ركائز تلك الحقبة.

بينما يسلط هنري بركات في «في بيتنا رجل» الضوء على القمع والتنكيل بحق الثوار المصريين تحت إشراف البوليس المصري، الذي يتلقى تعليماته من الملك مباشرة وعلى الرغم من أن الفيلم مأخوذ من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، فإن معروض الفيلم يتناقض مع مضمون الرواية فقد تم اجتثاث أجزاء كبيرة منها وقولبتها بما يتوافق سياسياً مع الهدف الذي ظهرت على الشاشة لأجله.

العدالة الاجتماعية كانت أحد المطالب، التي ركز عليها قادة يوليو، بل وربما سعوا إلى تحقيقها، ولذلك كانت سينما عبد الناصر جاهزة للإشارة بأصابع الاتهام إلى النظام البائد بأنه هو السبب الوحيد في حالة العجز والوهن التي أصابت مفهوم العدالة الاجتماعية، فنجد سلطان في «جعلوني مجرماً» طفلاً نتج عن زواج غير شرعي، توفي أباه وأمه؛ فاستولى عمه على ميراثه وطرده، فتلتقطه عصابة للنشل ولكن يُقبض عليه ويودع الأحداث، يحاول أن يجد عملاً بعد خروجه ولكن الجميع يرفضه لأنه موصوم بحقيقة كونه مجرد سابق؛ فيضطر إلى أن يعود للسرقة من جديد حتى يصل لقتل عمه الذى كان سبباً في ما آل إليه.

وعلى الرغم أن فيلم «الزوجة الثانية» يظهر من مضمونه أنه يناقش حياة الريف والفلاح المصري ودور العمدة في القرية، إلى أنه يدخل ضمن رزنامة ما يسمى «سينما الواقع الناصري»، فقد ناقش الفيلم غياب العدالة الاجتماعية من خلال تجبر عمدة القرية، وفرضه الإتاوات والضرائب على أهالي القرية، حتى وصل الأمر إلى إجبار أحدهم على تطليق زوجته لأجل أن يتزوج منها هو، وتساهل الجهات الإشرافية والرقابية مع ذلك العمدة بل ومساعدتها له من خلال إظهار صورة مأمور بوليس مرتش وفاسد الذمة.

المساواة في الحقوق والحريات ودور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية، لم تكن سينما يوليو عنها بمغفل، فظهرت الأفلام التي أفردت للمرأة دوراً محورياً فى الحياة العامة كـ«مراتي مدير عام» والباب المفتوح وللرجال فقط، وجميعها كانت تحوي في باطنها رسائل سياسية ذات مغزى اجتماعي، وهو التلاعب على مفهوم النوع الاجتماعي لجذب الشريحة النسائية في أمعاء يوليو ومن ثم هضمها مرحلياً.

وبحسب «كتاب السينما والسلطة» للكاتب محمد صلاح الدين، الصادر عن مكتبة مدبولي، فإن هذه الأقلام ويقصد أفلام السينما الناصرية كانت تفقد بداخلها أدنى درجات الذوق الفني، والجودة الإخراجية، إلا أنها حملت رسائل سياسية شديدة المغزى وكانت سهلة الاستقبال، لأن القائمين عليها من كتاب سيناريو ومخرجين وطاقماً عملاً؛ أدركوا نوعية الفئة الموجة لها تلك الأعمال، كما أنها حظت بدعم ورعاية النظام نفسه فكانت جودة الإنتاج جيدة وسهولة العرض والترويج متاحة أمامها.

الخروج عن المألوف

عندما يخرج العمل الأدبي المكتوب من طاولة التوثيق إلى دائرة الفن المتلفز، حينها سيُقرر مصيره إما بالنفي للأبد أو قبول الاستحسان العام؛ اتباعاً لقاعدة أن السلطة لا تقرأ ولكنها لا تمل المشاهدة.

أنهى «ثروت أباظة» روايته الأكثر جدلاً على الإطلاق «شيء من الخوف» سنة 1959، وأصبحت جاهزة للنشر والتداول سنة 1960، ومنذ تلك اللحظة حققت الرواية نسبة مبيعات قال عنها ثروت أباظة نفسة في كتابه «ذكريات لا مذكرات» إنها فاقت حدود التوقعات، وكانت الأعلى طلباً وتداولاً في مختلف البلاد العربية بخاصة سوريا والسعودي والأردن، وقد كانوا جميعاً في خضم خصومة سياسية مع عبد الناصر على أثر قضايا مختلفة، ويرجع ذلك ربما إلى ما في الرواية من إسقاطات ورموز، وهو ما عزاه البعض لحكم جمال عبد الناصر. ظل الحال على المنوال نفسه، أدوار النشر المتعددة تنهال بعروض أكثر سخاء للحصول على حقوق طبع الرواية، بينما السلطة الناصرية غارقة في أزماتها الداخلية والخارجية، إلى أن قرر حسين كمال تحويل الرواية إلى عمل سينمائى، وبطلب من أباظة نفسه أسند مهمة إعداد السيناريو إلى عبد الرحمن الأبنودي، وكانت هذه هي نقطة الجدال الذي ما زال مشتعلاً حتى الآن، ماذا كان يقصد ثروت أباظة «في شيء من الخوف»؟ هل كان يرمز تحديداً إلى جمال عبد الناصر أم إلى الحقبة الملكية؟ أو كما قال «نجيب محفوظ» حينما تدخل بوزن اسمه وسمعته الأدبية كوسيط أمام السلطة لحل النزاع وقال: «إنها ترمز إلى أي حكم ديكتاتوري في أي زمان ومكان».

بخاصة أن الرواية وما بها من أحداث تختلف عن النمط الذي تم عرضها به في السينما، ففي الرواية يبدو عتريس طرفاً ثالثاً لقصة حب تجمع بين فؤادة وطلعت ابن فايز بك صديق الأستاذ حافظ والد فؤادة، وأمه السيدة تفيدة المرأة المثقفة طيبة المعشر التي اعتنت بعقل فؤادة وأمدتها بالكتب من مهدها؛ وهو ما سيكون له أثر إيجابي في حياتها، حيث وقوفها أمام تجبر عتريس رافضة الخضوع والاستسلام، بينما منذ اللحظات الأولى في أحداث الرواية وحتى نهايتها تظهر شخصية عتريس على أنها شخصية تشربت مواطن الذلل والقسوة منذ نعومة أظافرها، فنجده يضرب البائع ويوقف المارين بالطريق ويسطو عليهم تحت التهديد بوزن اسم جده الذي تشرب منه القسوة والتجبر.

الإسقاطات والرموز

يحمل فيلم «شيء من الخوف» الذي يمكن تصنيفه أنه يتبع تيار السينما الديستوبية عن جدارة، حيث القيمة الرمزية والفلسفية معاً بداخله تماماً، كأعمال نجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة، التي تحول أغلبها إلى أعمال سينمائية حيث لا تخلو دوماً من إسقاط ممنهج ورمز معين، فالعنوان نفسه هو إسقاط في حد ذاته «شيء» وهي أداة للتقليل والتبسيط وعدم إعطاء الأمر أكثر مما يستحق، «من» وهي حرف جر ولكنها استخدمت طردياً هنا للتنويه، «الخوف» أي أنه خوف ولكن يمكن التخلص منه؛ لأنه مجرد شعور بسيط في النفس ويمكن انتزاعه إذ لم نعطه أكثر مما يستحق. وفي إحدى القرى المنسية من قرى مصر التي تسير على غير هدى من مشيئتها، يظهر عتريس ذلك الطفل البريء، الذي كان يُطير الحمائم فقط ليستمتع برؤيتها تعود آلية ثانية، ويحلم حينما يكبر أن يغادر تلك القرية رفقة حبيبته فؤادة؛ ليتثنى لهما العيش بسلام في دسكرة يبنيانها سويا بفضل عاداتهم الحميدة، قبل أن يتدخل جده «حسنين العكر» ليفسده أخلاقياً ويحوله إلى النقيض؛ فيعلمه كيف يذبح الحمام ليأكله محشواً بدلاً من تركه يطير بلا فائدة تعود على الجسد، وكيف يمتطي حصاناً ويجيد التصويب من فوقه على مسافة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، قبل أن يموت جده برصاصة طائشة في إحدى غزواته فيتثني لعتريس رؤية الحقيقة على مسافة من العين، أن هذا العالم لا يعترف إلا بالأقوياء وأن الوحوش المفترسة هي الأطول عمراً في الغابات.

وبحسب كتاب «الفيلم السياسي في مصر» لمحمود قاسم، فإن صبري عزت وهو الذي أعد الرواية سينمائياً أراد أن يفرد مساحة للظروف والبيئة المحيطة المساهمة في نشأة الشخص المتجبر أوالديكتاتور.

ويستدرك محمود قاسم في كتابه أن الفيلم حمل بداخله الرموز والإسقاطات، اللازمة لمنعه، فمثلاً نشأة عتريس وتحوله إلى النقيض بموت جده أمامه يمكن ردها إلى حرب فلسطين وموت البطل «أحمد عبدالعزيز» أمام عين جمال عبدالناصر وهو يردف بكلماته الأخيرة «الحرب في مصر وليست في فلسطين»، أما الدهاشنة وهم أهل البلد الأصليين فربما الإشارة هنا إلى النظام الملكي والمقربين منه من أحزاب ونخبة وإقطاعين، الذين وجدوا أنفسهم مسلوبي الإرادة والمُلك بعد أكثر من ثلاثمائة عام من سيطرتهم المطلقة، ويمكن أن يكون المقصود بهم هي المعارضة الباطنية والتي أصبحت دون مسميات بعد قانون إلغاء الأحزاب وإعلان دولة الحزب الواحد «الاتحاد الاشتراكي»، أما فؤادة وهي محور الأحداث في الفيلم والرواية، قد يرمز بها إلى مصر، التي تملكها ظباط الحركة بقوة السلاح حتى وإن كان الزواج باطلاً أي غير دستوري.

ويضيف محمود قاسم في كتابه أن الرواية في حد ذاتها تندرج تحت لواء الروايات السياسية وأن الفيلم في ظاهره لم يختلف عن الرواية كثيراً من حيث العرض والطرح.

وبحسب ما قاله ثروت أباظة نفسه في كتابه، ذكريات لا مذكرات أنه تم استدعاؤه في مكان ما يتبع لجهة سيادية وقد وقع على ورق أنه لا يقصد بتلك الرواية التعرض للسلطة السياسية القائمة في مصر في ذلك الوقت، وإنما أراد إسقاط الأحداث على الاحتلال والاستعمار بعد تحويلها لفيلم سينمائي، حتى أعلن مخرج الفيلم صراحة أنه لا علاقة للفيلم وأحداثه بأي إسقاط سياسي.

وبحسب كتاب «الآن أتحدث» لخالد محيي الدين، الذي كان أحد الضباط البارزين في حركة 23 يوليو: فإن فيلم «شيء من الخوف» تم التعامل معه للتحقيق في أمره من لجنة عينها جمال عبد الناصر نفسه كانت تحت إشراف كل من سامي شرف السكرتير الأول لمكتب عبد الناصر وحسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت.

ويستطرد محيي الدين قائلاً: إن السينما في ذلك الوقت بخاصة الأفلام التي تتناول الواقع المصري بعد هزيمة الخامس من يونيو (حزيزان) كان يجري التعامل معها بحساسية ودقة مبالغ فيها.

الرقص على سلم السلطة

بمجرد بدء تصوير الفيلم تبادر إلى أذهان السلطة الحاكمة آنذاك أن الفيلم يحمل إساءة شخصية إلى الرئيس جمال عبد الناصر ورموز قادة يوليو، يتطرق ثروت أباظة إلى اسم الشخص الذي أوصل للسلطة الحاكمة آنذاك مثل تلك الادعاءات، وتسبب في وقف عرض الفيلم أكثر من ستة أشهر فيقول في كتابه «ذكريات لا مذكرات»: «قبل أن يتم السيناريو تبرع صديق بمكتب الدكتور ثروث عكاشة وزير الثقافة في ذلك الحين، بكتابة تقرير للوزير أن الرواية مقصود بها رئيس الجمهورية، وأنها هجوم عنيف عليه وعلى الحكم جميعاً». قبل أن يضيف «ويشاء الله أن يكون نجيب محفوظ هو مستشار الوزير للشئون الفنية، فكان طبيعياً أن يرسل الوزير ملخص الرواية والتقرير إليه، وكتب رأيه بمنتهى الأمانة والصدق مع النفس مؤكداً أنها رواية وطنية».

الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ، تحدث أيضاً عن تلك الواقعة، خلال كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» للناقد الكبير رجاء النقاش، قائلاً: «بالنسبة لرواية شيء من الخوف فإن عبد المنعم الصاوي الذي كان وكيلاً لوزارة الثقافة في ذلك الوقت هو الذي لفت أنظار السلطة إليها، وأكد أن ثروت أباظة يقصد الرئيس عبد الناصر، بشخصية عتريس في الرواية، وأن زواجه من فؤاده التي تجسد (مصر) باطل، وعندما شاهد عبد الناصر الفيلم سمح بعرضه فوراً، وقال جملة مشهورة لا أنسها، لو إحنا الحرامية، وأنا عتريس يبقى مانستاهلش نقعد في الحكم».

السينما المصرية داخل الرقابة

نجح جمال عبدالناصر في بناء شعبيته وتوسيع دائرة النفوذ لديه من خلال استغلال حكيم وممنهج لعنصري السينما والتوثيق، يبدو ذلك جلياً من خلال كم الأفلام الذي أنتج في تلك الحقبة، وقد ركز تحديداً على ترسيخ مفهوم الجيش أولاً، ثم الانقضاض على ما يراه هو خصوماً سياسيين يستحقون التنكيل، ربما تحذو الإدارة المصرية الحالية حذو عبد الناصر، ولكن بشيء من الاختلاف في استخدام الأداة التي تفي بذلك الغرض؛ ففي الوقت الذي رأى فيه عبد الناصر أن السينما هي القوة الناعمة التي يجب استخدامها لترسيخ مفهوم الزعامة المستدامة، ترى الإدارة المصرية الحالية أن الدراما هي الحل الأمثل لذلك، ولأن لكل زعيم أعداء فقد شيدت الإدارة الحالية فكرتها السياسية منذ البداية ودون سابق إنذار، على أنها المنقذ الأول للشعب المصري، وأنها لا يمكن تغييرها؛ لأن ذلك سيسبب الفوضى والخراب وانحلال صيغة الدولة، بل وتقسيم الوطن وضياعه.

أداة الترهيب تلك يمكن أن نراها في أغلب الأعمال الدرامية التي ظهرت بعد 2013، والتي تناولت في أغلبها إما سيرة أحد ضباط الجيش أوالشرطة، بداية من كلبش نهاية بالاختيار بأجزائه الثلاثة مروراً بأبو عمر المصري والقاهرة كابول والجماعة، والتي كانت تركز على جانب اللعب بوتر الرومانسية الوطنية في نفوس الجماهير الغفيرة.

السينما في عصرنا الحالي تبدو كشبيهتها في عهد عبد الناصر، محكومة بمراسيم الإشراف والرقابة الخانقة والتدقيق الشديد فيما تتناوله.

بحسب دراسة أجراها معهد الأهرام للدراسات حول حرية الفكر والإبداع في مصر بتاريخ 15فبراير/شباط الماضي؛ فإن حرية العمل الإبداعي في مجالات كالأدب والسينما تراجعت إلى أدنى مستوى لها منذ العهد الملكي، وقد تطرقت الدراسة إلى الأسباب التي أدت إلى تراجع القيمة الإبداعية في مصر؛ مرجحة ذلك إلى التشديد الأمني والرقابي الصارم على المحتوى الأدبي أو الفني الذي يتم عرضه، إضافة إلى جو الإرهاب الثقافي الذي يعيشه صاحب العمل الإبداعي في مصر.