في السنة السادسة على وفاته، أحيي بكل رحمة واحترام ذكرى أستاذنا البروفيسور الدكتور نجم الدين أربكان رئيس وزراء الحكومة الـ54.

كانت تلك هي كلمات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فيما يحيي الأتراك هذه الأيام الذكري السادسة لوداع واحدة من الشخصيات الفريدة التي خاضت مسيرة طويلة من النضال في عالم السياسة والاقتصاد هو نجم الدين أربكان الذي يوصف بكونه أحد أعمدة الدولة التركية الحديثة رغم كونه مؤسس تيار الإسلام السياسي في تركيا.

البروفيسور الأكاديمي ورجل الصناعة الماهر والسياسي الشجاع الذي سار عكس التيار حتى نجح في إعادة الاعتبار للإسلام بعد سقوط الخلافة العثمانية وتبعه تلامذته في رسم صورة ناصعة لبلادهم.


البروفيسور ورجل الصناعة

ولد أربكان بمدينة سينوب على ساحل البحر الأسود شمال تركيا في العام 1926؛ أي بعد عامين فقط من سقوط الخلافة العثمانية، وهو من سيقود لاحقًا تيارًا هادرًا يحن إلى ذلك الماضي الذي لم يعشه.

ما إن أنهى دراسته الثانوية حتى التحق بجامعة إسطنبول التقنية ليدرس الهندسة الميكانيكية التي شهدت تفوقه، ليسافر بعدها مباشرة في بعثة تعليمية إلى ألمانيا حصل خلالها على درجة الدكتوراه من جامعة آخن.

عاد إلى بلاده في منتصف الخمسينات ليعمل أستاذًا مساعدًا في تخصص المحركات، وسرعان ما اقتحم عالم الصناعة ليؤسس مع زملائه مصنع المحرك الفضي لتصنيع محركات الديزل، وتدرج في المناصب حتى أصبح مدير عام المصنع .

بعد توليه رئاسة اتحاد غرف الصناعة والتجارة عام 1968 راوده حلم الانتقال من ميدان الصناعة إلى ميدان السياسة، ورغم كونه عضوًا في جماعة إسكندر باشا أحد أفرع الطريقة النقشبدية، وكذلك في حزب العدالة، لكنه أسس في العام التالي حركة مللي جورش أي فكر الأمة، وتحالف مع الحركة النورسية ليترشح لانتخابات البرلمان كمستقل عن مدينة قونية المعروفة بروحها الصوفية؛ ما جعله يحقق فوزًا سهلاً.


المجاهد الديمقراطي

لم يشعر أربكان أن أيًا من الأحزاب السياسية في بلاده تمثل فكرته الإسلامية المنشودة، فشكل مع ثلاثة نواب مستقلين آخرين كتلة برلمانية ضم إليها لاحقًا عددًا من المفكرين والناشطين ليؤسس حزب «الخلاص الوطني» عام 1970، وبدأت النزعة الإسلامية تظهر تدريجيًا على خطابات وشعارات الحزب.

إن أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام وليس أمامنا إلا العمل معًا لنصل تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده أن يكون مشرفًا.
«نجم الدين أربكان» – المؤتمر الأول للحزب

لم تتحمل الدولة بعلمانيتها المتشددة تلك النزعة الدينية فكان حل الحزب سريعًا من قبل محكمة أمن الدولة العليا ومعه مصادرة أمواله وممتلكاته بتهمة انتهاك الدستور العلماني وحظر قادة الحزب سياسيًا لمدة خمس سنوات.

بعد ذلك بعام واحد 1972 دفع أربكان زملاءه لتأسيس حزب جديد هو «السلامة الوطني» وصعد أربكان لرئاسته عقب العفو العام الذي صدر في العام 1973، وصاحب ذلك إطلاق صحيفة ميللي جزيتا وقناة تليفزيونية ليعبرا عن رؤى الحزب في محاولة للحد من تأثير الإعلام المضاد.

خاض السلامة الوطني انتخابات 1974 وحصد 48 مقعدًا بعد الحزبين الكبيرين، حيث حصل حزب العدالة بقيادة سليمان ديميريل على 149 مقعدًا وحزب الشعب الجمهوري على 185 مقعدًا، فكانت المشاركة الأولى لأربكان في السلطة حيث تشكلت حكومة ائتلافية من حزبي الشعب والسلامة حصل فيها الأخير على 7 وزراء من ضمنهم وزير الداخلية، وأصبح أربكان نائبًا لرئيس الوزراء بولنت أجاويد.

كان الائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري وريث أتاتورك تحالفًا برجماتيًا وليس أيديولوجيًا، حيث حاول أربكان من خلاله تطبيع العلاقة بين الدولة التركية الحديثة وهذا التيار الإسلامي، المتصاعد فكان ذلك بمثابة اكتساب الحزب لشرعية رأى أربكان أنه في حاجة إليها.

لم تكمل الحكومة عامًا واحدًا حتى سقطت كما هي عادة الحكومات الائتلافية التركية في ذلك الوقت، إلا أن تلك المدة القصيرة شهدت توهجًا أكبر لنجم أربكان وظهر كسياسي طموح يرى مستقبل بلاده الذي تحقق لاحقًا، لدرجة أنه شاع في الأوساط السياسية والإعلامية في ذلك الوقت اتهامه بالخيال وعدم الواقعية.

بسبب طموحات أربكان وآماله الخيالية، واجهنا المصاعب.
«بولنت أجاويد» – رئيس الحكومة التركية الأسبق

يعد إنزال الجيش التركي جزيرة قبرص وتحرير/ احتلال الجزء الشمالي منها عام 1974 بهدف حماية القبارصة الأتراك بعد الانقلاب العسكري الذي دعمه اليونانيون أبرز قرارات تلك الحكومة ولعب أربكان دورًا رئيسيًا في هذا الأمر، حيث اتخذ القرار بينما كان رئيس الحكومة بولنت أجاويد في الخارج.

وصولاً إلى العام 1980 وقبل عام واحد من انقلاب كنعان إيفرين، شهدت مدينة قونية مظاهرة حاشدة لإحياء يوم القدس العالمي وتعالت الصيحات الإسلامية بصورة غير مسبوقة.

وقد مثلت القضية الفلسطينية أهمية خاصة لدى نجم الدين الذي عارض بشدة العلاقات الحميمة بين تركيا وإسرائيل، حيث قدم في نفس العام مشروع قانون لقطع العلاقات بينهما وطالب الحكومة بإصدار احتجاج رسمي ضد إعلان إسرائيل ضم القدس، كما نجح في سحب الثقة من وزير الخارجية خير الدين أركمان بسبب سياسته المؤيدة لإسرائيل.

فور انقلاب كنعان إيفرين مطلع الثمانينات تم سجن أربكان وتعرض للمحاكمة بتهمة العمل على تبديل قوانين الدولة العلمانية ورفع شعارات وهتافات منافية للدستور كما تم لاحقًا حل حزب السلامة.

سأله رجل حكيم: ماذا سنفعل؟ لقد أغلق الحزب! قال: أخبرني يا صديقي ماذا تفعل عندما يفسد وضوؤك؟ أجاب : أجدد وضوئي مرة أخرى. قال: بالضبط لقد أفسدوا وضوءنا وأغلقوا حزبنا لذلك سنبدأ من جديد ونؤسس حزبًا جديدًا.
«رجائي قوطان» رئيس حزب السعادة الأسبق

تحلى أربكان بثقة وهدوء كبيرين في مقابلة المحن المتتالية، يقول ياسين أوغلو -أحد محاميه- في سنوات سجنه الثلاث ما شغل باله هو ما سيفعله بعد الخروج، لم يكن منشغلاً مثل غيره من المعتقلين متى سنخرج أو هل سنعدم؟، فقد وضع برامج ولوائح لهذا الحزب الجديد وهو في محبسه.


الانقلاب الأبيض: كيف وصل أربكان للسلطة وكيف خرج منها؟

خرج أربكان من السجن بعد عودة الحريات في عهد تورجت أوزال فشرع في تأسيس حزب الرفاه الذي نجح بعد ذلك بسنوات طويلة وتحديدا عام 1995 في تحقيق مفاجأة بتصدر الانتخابات بحصوله علي 158 مقعد يليه حزبي الطريق القويم والوطن الأم.

حاول الرئيس سليمان ديميريل أن يتجنب تسليم الحكومة لأربكان فقام بالضغط على أحزاب اليمين للتحالف، ورغم صعود أصوات من الرفاه تحاول الضغط على أربكان من أجل الاحتجاج إلا أنه تحلى بهدوئه المعتاد قائلاً: «أنا لست منزعجًا، سأشرب القهوة وأشاهد المسرحية، أشاهدهم وهم يفشلون».

وبالفعل لم يستطع هذا الائتلاف الصمود سوى 3 أشهر، واضطر بعدها ديميريل لتسليم الحكومة لأربكان الذي تحالف مع غريمته تانسو تشيلر زعيمة حزب الطريق القويم والتي لطالما تبادلت الاتهامات مع أربكان.

مثلت تلك اللحظة الصعود الأول للإسلاميين لرأس السلطة السياسية في تركيا الحديثة، وخلال حكومته منح أربكان الإصلاح الاقتصادي الأولوية فنقصت معدلات التضخم نسبيًا وحققت بلاده معدلات نمو ملحوظة.

كما أنه انفتح على العالم الإسلامي وكانت له رؤية قوية في هذا الأمر تتلخص في وحدة الدول الإسلامية سياسيًا واقتصاديًا على غرار الاتحاد الأوروبي، بحيث تكون لها عملة موحدة وسوق مشتركة وجيش دفاع مشترك على غرار قوات الناتو وغيرها من سبل التحالف.

فنجح في تأسيس مجموعة الدول الثماني الإسلامية الكبرى D-8 التي ضمت بالإضافة لتركيا، مصر، وإيران، وماليزيا، وبنغلاديش، وإندونيسيا، ونيجيريا وباكستان.

في المقابل استمرت ضغوط الجيش على أربكان طوال الوقت، فبعد تأخر منه اضطر للتوقيع على الاتفاقيات بين تركيا وإسرائيل، إلا أن الأمر لم يتوقف عند ذلك حيث في نهاية فبراير/شباط 1997 جلس أربكان وحيدًا بين جنرالات الجيش لمدة إحدى عشرة ساعة يحاولون إرغامه على التوقيع على عدد من الإجراءات من شأنها الحد من الحريات الدينية ومظاهر التدين بحجة تهديدها لعلمانية الدولة، وتحركت الدبابات في الشوارع ما اعتبر ذلك تهديدًا صريحًا بالانقلاب.

حاول أربكان تجنب الصدام مع مجلس الأمن القومي الممثل لجنرالات الجيش المدافعين عن علمانية الدولة، وربما نجح في تأجيل المواجهة مدة طويلة إلا أنه في يونيو/حزيران 1997 نجح الجيش في تنفيذ انقلابه الناعم أو ما عرف بالانقلاب الأبيض عبر الضغط على حزب الطريق القويم هذه المرة للانسحاب من الحكومة.

يجب أن ننظر إلى علاقته مع العسكر في إطار العسكري والمدني. لم تكن هذه المشاكل مع أربكان فقط بل مع رؤساء الأحزاب الذين كانوا قبله أيضًا، ولأن مقاييس الديموقراطية التركية كانت متدنية في تلك الأيام كانت علاقات العسكر والمدنيين مضطربة.
الرئيس التركي السابق «عبدالله غل»

في أوائل العام 1998 صدر حكم بحل حزب الرفاه، وفي عام 2000 أيدت محكمة التمييز الحكم الأول الصادر من محكمة أمن الدولة فتم حل الحزب الذي ضم في عضويته أربعة ملايين مواطن.

فور القرار الأول تجمع مئات الآلاف أمام منزل أربكان وكان الغضب عارمًا في صفوف مؤيديه وتعالت الهتافات مثل: «أستاذنا قل لنا نقاتل سنقاتل قل لنا نموت سنموت».

غير أن أربكان أو المجاهد كما يطلق عليه محبوه ظهر في مؤتمر صحفي بمدينة بورصة قائلاًً:


ختام المسيرة

أرسل هذه الرسالة لجميع أبناء الشعب التركي، فلنحافظ على السكينة والهدوء أكثر من أي وقت مضى، هذا القرار عبارة عن نقطة بسيطة في مسيرتنا التاريخية.

أسس رفاقه حزبًا جديدًا هو الفضيلة، لم يستمر طويلاً حيث صدر حكم بحله هو الآخر في العام 2001. ترشيح مروة قاوقجي على قوائمه ونجاحها في دخول البرلمان كأول امرأة محجبة ربما أهم ما ميز حزب الفضيلة، حيث أثارت هذه القضية الرأي العام وكان أربكان يشجع ترشيحها بحماسة كبيرة.

أدرك مجموعة من تلامذته على رأسهم عبد الله جول وطيب أردوغان، أنه عليهم تجديد الرؤى والأفكار السياسية ومن ثم أسسوا حزب العدالة والتنمية. أما أربكان فقد أسس مع من تبقى معه حزب السعادة، هذا الخلاف ربما نتناوله بقراءة أعمق لاحقًا.

دائما ما خشى خصوم أربكان عودته للحياة السياسية، حيث تعرض لعدة أحكام قضائية بالسجن خففت إلى إقامة جبرية في منزله نظرًا لكبر سنه وصولاً إلى العام 2008 حينما أصدر عبد الله جول الرئيس التركي السابق عفوًا عنه مكنه من رئاسة حزب السعادة.

ودع أربكان الحياة في الساعة 11:40 ظهر يوم الأحد 27 فبراير/شباط 2011 في إحدى مستشفيات العاصمة أنقرة، وشهدت جنازته التي خرجت من مسجد الفاتح بإسطنبول جموعًا غفيرة من المودعين على رأسهم القيادات السياسية والعسكرية في الدولة ومنهم تلامذته الذين رغم اختلافهم معه واختيارهم طريقًا جديدًا إلا أنهم دومًا ما اعتبروه الأستاذ.