الحياة بالنسبة لمن حاربوا وخاطروا بكل شيء لها نكهة خاصة، يستحيل على من يتمتعون بالحماية أن يشعروا بها.
جون ستيوارت ميل

تؤكد الباحثة والخبيرة الأكاديمية في الطبخ، كاثي كوفمان، أهمية البدء من المطبخ لفهم تركيبة الإنسان وتاريخه بقولها: حتى نفهم أنفسنا ينبغي بالطبع أن نبدأ من الطعام الذي يشكل قوام وجودنا.

ولهذا يعتقد كثير من الفلاسفة أن الطعام من أحد الاختلافات الجذرية التي تفرق الإنسان عن الحيوان، فمجرد تجميع مكونات غير متجانسة أصلًا تجعلك تفهم التركيبة البشرية للإنسان، الذي يعتبر نفسه مجموعة غير متجانسة من المشاعر والأحاسيس التي تنتج في النهاية طبقًا فاخرًا يقدم ويظهر للجميع، طبقًا يظهر للجميع في أبهى صوره بدون رؤية العناء في صنعه، وهكذا الإنسان كثيرًا ما يمر بالكثير من التقلبات، ولكننا في النهاية نحاول ونعطي حياتنا مذاقًا.

يذكر صانع مسلسل «the bear» «كريستوفر ستورير» أنه كان يعاني في أجزاء كبيرة من حياته من القلق والتوتر، وحتى الاكتئاب، وعلى الرغم من إجهاد نفسه في العمل بشدة كانت هذه التوابع تعود إليه، فكان عليه أن يواجه ويجازف بما هو مريح مؤقتًا حتى يستطيع الراحة للأبد.

كارمي: المجازفة والتكفير عن الذنب 

أعظم مخاطرة في الحياة هي عدم المخاطرة. فمن لا يخاطر؛ لا يفعل شيئًا، لا يملك شيئًا، ليس شيئًا، وسيصبح لا شيء.
نورمان فينسنت

كارمي هو طباخ ماهر يعمل في أفضل مطعم في أمريكا كلها، حاصل على جوائز عدة، يعمل في مطعم فاخر لأشخاص فارهين يهتمون بالشكل الجمالي للأكل قبل أكله.

كارمي يحقق نجاحًا ويصبح أصغر رئيس للطهاة في الولايات المتحدة كلها. نجاح منقطع النظير، ولكن الحياة تعطينا إشارات حتى نفكر في اختياراتنا، تجعلنا ننظر إلى الخلف حتى لو عدنا خطوة إلى الوراء، لكن تلك الخطة ستجعلنا نكتشف أنفسنا، وهذا ما فعله كارمي، فبعد حادثة انتحار أخيه يشعر كارمي أنه المذنب، أنه كان عليه ألا يرحل، فيرحل من كل هذا، يبدو كرجل صوفي زهد في متاع الدنيا، وذهب ليعتكف في قمة جبل عالٍ.

ولكن في حالة كارمي ذهب إلى حي العصابات في شيكاغو، حيث المخدرات والقتل وعصابات السود والشطائر التقليدية التي يعدها كل يوم الساعة 2 ظهرًا. يدور كارمي في فلك، يسبح مع التيار، يحاول أن يطبق نظامًا، ولكنه يفشل، يترك نفسه للتيار ويجازف، يجازف بكل شيء؛ أمواله، حياته، مستقبله المهني، لأنه كان يشعر أنه السبب في وفاة أخيه، وأنه دائمًا المذنب، فلو ظل ما كان أخوه أقدم على الانتحار.

تظهر هذه المشاعر المضطربة على كارمي بوضوح، يبدو دائمًا شاردًا، يبدو كدب قطبي يبحث عن مأوى بعدما خاطر لجلب الطعام من مكان بعيد. يحاول كارمي أن يعيد كل شيء، يعيد النظام الصارم الذي تعود عليه في المطاعم الفاخرة، يحاول أن يعيد المطعم لصورته الطبيعية مثلما كان كسابق عهده، يحاول كارمي قدر الإمكان ويجازف بأقل الأشياء حتى لو كانت مجازفته بمطعف فاخر لأجل قطعة لحم خنزير، المهم أن كارمي لا يتوقف عن المحاولة، يرفض بيع المطعم، يجازف بكل شيء من أجل عائلته، ومن أجل أخيه المتوفى، يرفض بيع المطعم الذي تراكمه الديون، وبالكاد يستطيع أن يدفع أجور من يعلمون ويجازفون هم أيضًا، لأنه قبل كل هؤلاء يبحث عن نفسه، يحاول أن يلملم نفسه ويجمع شتاتها حتى ولو كان بطبق جديد يضيفه، أو طبق اسباجتي يزيله، المهم أنه يشعر ولو بجزء صغير من الرضا عن نفسه.

وسط كل هذا يحاول الجميع أن يقنع كارمي أن عليه ألا يبدأ من الحضيض، وأن هذا المكان هو القاع، ولكن كل ما يبحث عنه كارمي هو ذاته فقط، حتى وسط كومة من مطعم غير متسق مع أي قواعد للنظافة العامة، وتنهال عليه الديون من كل جانب.

ريتشي: أن تقنع الجميع أنك تجازف من أجلهم 

أكبر خطر هو عدم المخاطرة بأي شيء، في هذا العالم الذي يتغير سريعًا إذا أردت ضمان الفشل المحقق فعليك فقط عدم المخاطرة.
مارك زوكربيرج

الإنسان الذي لا يجازف يظل في خطر ، يقبع في منطقة آمنة مملة يعتقد أنها أفضل حل، يحب الأمان ويعشقه، يعتقد أنه الطريق الأمثل للوصول لبر الأمان، لا يعبث بالنظام والتقاليد المعروفة، عكس كارمي يقتنع ريتشي الأخ غير الشقيق له أنه يجازف من أجلهم، أن حياته على المحك، ولكنه يجازف حتى لا تتكاثر عليه فواتير الطلاق والديون والأموال، يقنع الجميع أن هذا المكان من المفترض أن يكون ملكه، وأولهم  كارمي، طوال الأحداث يحاول أن يثبت لكارمي أنه يجازف من أجله، يدخل في مشاحنات معه من أجل عبث كارمي بالنظام ، يبدو دائمًا واثقًا من غرق السفينة، وأن كارمي ليس من المفترض أن يكون ربانها.

يرى دائمًا أن كارمي فتى مدلل أتى من المطاعم الفاخرة، بينما كان هو وأخوه مايكل يكافحان هنا، يظهر دائمًا ريتشي على أنه حانق وغاضب حتى من نفسه، وفي كل تصرفاته يتعاطى المخدرات، يشرب الكحول بشدة لدرجة أن رخصة قيادته سُحبت، كل شيء في حياة ريتشي يسير في اتجاه خاطئ، اتجاه معاكس، ولكنه يظن أنه على صواب يسير ويكمل في نفس الاتجاه، يلقي اللوم على الجميع وأنهم حمقى ولا يفهمون أي شيء، ولكن الحقيقة تبدو عكس ذلك.

يدور ريتشي حول نفسه، يحاول ويحاول، لا يقتنع بمدى بؤس حياته ولا سيرها في اتجاه سيئ سيجعله يخسر نفسه وكل شيء حوله، وفي ذلك عائلته التي يقنعها أنه يجازف، يبيع الكوكايين، ويظن أنه يفعل هذا من أجل المطعم، ولكنه يضحي من أجل نفسه فقط، يظن أنه يفكر خارج الصندوق لكي يبقى المطعم والحياة والعمل قائمًا، يقنع الجميع أن هذا من أجلهم، ولكن كل ما يفعله ريتشي من أجل نفسه فقط. 

سيدني تينا: كلنا مجازفون

يتطلب الوقوف في قوتنا أن نكون ضعفاء، وأن نستمع إلى أصواتنا، ونخاطر خارج راحة ما نعرفه.
ديبي فورد

يتطلب النجاح مخاطرة، مخاطرة في الخروج عن المألوف واتخاذ خطوات لم تُؤخذ من قبل، الخروج خارج منطقة أمان نعتقد أنها تريحنا، وعلى هذا الأساس تتحرك بقية شخصيات المسلسل، وكما قال أحمد زكي فى فيلم ضد الحكومة: كلنا فاسدون، يمكن أن نغير الوضع هنا ليكون: كلنا مجازفون، ولا أستثني أحدًا. 

تينا تجازف بأنها تخرج من المنطقة الآمنة لها، تغير في طريقة عملها، تتعامل مع نظام جديد وشخص جديد، تأخذ أوامر من شخص في نصف عمرها، لكنها تطيع الأوامر، تحاول أن تواكب ما تمر به، تتعامل تارة بقوة وعنف ووقاحة بعض الأوقات، وتارة تخضع وتكون جزءًا من النظام، تكون جزءًا من المجموعة من دون معوقات للنظام، حتى وإن بدا نظامًا غير جيد.

سيدني مجازفتها أقل قليلًا، ليس لديها شيء أصلًا لتخسره، أنهت دراستها في مدرسة الطبخ، تعمل في مطعم يحبه والدها، تتفاعل مع النظام التقليدي القديم الذي يبدو كرجال عصابات يضعون نظامًا لحي إيطالي قديم، وكأنها تجازف بمحاولة الصدام معهم ومحاولة أن تصنع شيئًا، وهذا ما يخبرها به كارمي نفسه، أنه يعلم أن نواياها جيدة، ولكنه يحاول أن يعطيها وعودًا بالمحاولة، ستنجح أم لا ، لا يدري، كل ما يفعله كارمي أنه يعول على سيدني، حتى حينما ترك لها الأمور ووصلت إلى ذروتها في الفشل في الحلقة الأفضل في المسلسل، الحلقة السابعة، رحلت سيدني والوضع غارق في الفوضى، صحيح أنها عادت مرة أخرى، ولكنها عادت لمجرد الاستمرار في المجازفة.

ماركوس هو الآخر يجازف بالبقاء في المطعم، يجازف بمحاولة صنع قطعة دونت دقيقة، وعلى كل المقاييس التي يراها في الكتب، لا يعبأ بما يحدث حوله قليلًا من اضطرابات، لا يعبأ إلا بالطعم الجيد للقطعة المثالية التي يريد أن يصنعها.

الجميع يجازف في «the bear»، بداية من الصانع الذي قرر أن يترك القصة الجذابة ويعول على قصة عودة بطل إلى موطنه لمحاولة جمع شتات نفسه، إلى الشبكة التي قررت إنتاج ذلك العمل بطاقم عمل غير معروف، مرورًا بكل خيار جعل من ذلك العمل مجازفة كبيرة، ولكن نجاحها أدى إلى تذوق طعم جيد جدًّا للنجاح.