قديمٌ هو استخدام الطير والحيوان للالتفاف حول ما سمي بالمعضلة السُّقراطية، ألا وهي المفارقة بين الحقيقة التي يصل إليها الفيلسوف بعقله، والآراء التي يروج لها نظام معين للحكم لتأسيس سلطته.

ويمكنُ اعتبار استخدام الطير والحيوان كقناع يخفي وجه الفيلسوف السياسي، أو بالأحرى أفكاره، جزءاً لا يتجزأ مما يسميه ليو شتراوس «فن الكتابة بين السطور»، الذي يشيع في عصور اضطهاد الرأي. ألم يوظف ابن المقفع جملة من الحيوانات كالأسد والثور والجمل والثعلب؛ ليشير إلى مختلف عناصر الوجود السياسي في عصره، وذلك في رائعته التي أطلق عليها اسم هذين الثعلبين الشقيقين «كليلة ودمنة»؟ وألم يقم جورج أورويل في العصر الحديث بتوظيف الخنازير والحمير؛ ليقوم بما قام به ابن المقفع من نقد سياسي، في «مزرعة الحيوانات»، وإن لم يلق مصيره لحسن حظه؟


توظيف الرمز في «اللصّ والكلاب»

وعلى هذه الخلفية، نستطيعُ تأمل عنوان قصة نجيب محفوظ «اللص والكلاب»، التي كان الرمز فيها من نصيب العنوان، وإن لم يخلُ العمل ذاته من رموز تشير إلى الوظيفة النقدية لهذا العمل. فقد كتبَ محفوظ هذا العمل بعد ربع قرن من كتابة مقالاته الفلسفية، التي كان من أبرزها مقالتان هما: «اختصار معتقدات وتوالد معتقدات»، و«فكرة الله في الفلسفة».

وكان محفوظ يبشِّرُ آنذاك بأن يحل المذهب الاشتراكي بما يحمله من مبادئ تتعلق بالوجود، ونظرة للتاريخ والإنسان محل المعتقدات الدينية القديمة. ولكن في عصر «اللص والكلاب» كان الزمانُ قد استدار بالنسبة لمحفوظ؛ إذ كان يعيشُ في ظل الحكم الاشتراكي الذي بشّر به في شبابه، وفي الحيِّز الروائي لهذا العمل، ومن خلال الرموز المنثورة فيه، وأبرزها العنوان ذاته، وضع محفوظ يده على المشكلة الرئيسية للمذهب الاشتراكي، التي جسّدها في المأساة الشخصية لسعيد مهران.

فهذا المذهبُ بتركيزه على الجوانب المادية للوجود الإنساني يُعلي من شأن المساواة في الملكية بين الناس؛ ليجعلها القيمة الرئيسية في تراتبية قيمه. ويحتِّم ذلك إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، وتتمثل مشكلة المذهب الاشتراكي عند وضعه موضع التطبيق في أن الإجراءات التوزيعية تصبح عملاً نبيلاً سامياً عندما تقوم بها الدولة أو جهاز الحكم على نطاق موسع، وتوصف بكلمة التأميم، ويبرر نبل وسمو هذا الفعل أي تكلفة مادية أو تضحية بشرية تنتج عن القيام به.

أما عندما يمسك الفقراء أنفسهم بزمام الأمر، وهم من يتوجه إليهم المذهب الاشتراكي بالأساس، ويضعون تلك الإجراءات التوزيعية موضع التنفيذ، فإنها تصبح فعلاً مجرماً ذميماً، يوصف بكلمة السرقة ويسخر جهاز الحكم الاشتراكي كل موارده المادية والمعنوية، كأي جهاز حكم رأسمالي، لحماية الملكية الخاصة ومعاقبة من يقوم بالتعدي عليها.

تلك كانت الحقيقة التي توصل إليها محفوظ بتفلسفه في المجال الأدبي، وهي تضرب بعمق في أساس جهاز الحكم الاشتراكي الناصري، مما أوقع محفوظ في المعضلة السقراطية التي أشرنا لها سلفاً. ولم يكن من سبيل للخروج منها بسلام دون أن يتعرض لضربة من ضربات شمس يوليو الحارقة، على حد تعبيره، إلا باستخدام الرمز؛ فاللص، سعيد مهران، الذي أتي بالفعل الذميم وهو السرقة، سوف تطارده الكلاب، وستدورُ أحداث الرواية حول مطاردة الكلاب كلها للصّ حتى تسوقه إلى حتفه.

ولم يكن هذا اللص المطارد سوى الفقير الذي يتوجه إليه المذهب الاشتراكي، واتخذ مما تقوم به الدولة نموذجاً لسلوكه الشخصي، لكن جهاز الحكم الذي يطبق المذهب الاشتراكي هو من جعل من هذا الفقير لصاً مطارداً، بسبب اعتناقه المذهب الاشتراكي، الذي جعله يسعى وراء أهداف مادية بحتة، كالزوجة والثروة والنفوذ، ومنحه من القوة الأخلاقية ما جعله يأخذ بزمام الأمر ويحاول أخذ حقه بيده.

وفي هذا السياق، استخدم محفوظ رمز الكلب، الذي أتى في عنوان العمل بصيغة الجمع، ليعبر عن طبيعة وغاية جهاز الحكم الاشتراكي الناصري. وبعد أن مرت عقود وعقود، نحتاج إلى استعادة هذا الرمز الأدبي/السياسي ونعرضه للتحليل النقدي؛ لنعلم إذا ما كان هذا الرمز دالاً أو كاشفاً بتوصيفه لجهاز الحكم وقتذاك عن طبيعة المأزق السياسي الذي نعيشه الآن.


بين «كلاب» محفوظ و«كلاب» أفلاطون!

ومن أجل القيام بذلك لابدّ من الاستعانة بهذا الرمز نفسه، أو بالأحرى توظيف أفلاطون لهذا الرمز نفسه في جمهوريته للإشارة إلى الطبقة الحاكمة فيها، أو من أسماهم الحراس، وقد ظهر رمز «الكلب» في «الجمهورية» أول ما ظهر في حديث أفلاطون، على لسان سُقراط بالطبع، عن وظيفة حراسة المدينة، إذ شبهها بما يقوم به الكلب المدرب جيداً من حراسة ورقابة. لكن أفلاطون بدأ يتعمّقُ في شرح رمز الكلب، عند تناوله للسِّمات العقلية لأفراد طبقة الحراس، حيث ينبغي أن يتسموا بالخطورة والشراسة مع أعدائهم، وبالطيبة والرحمة مع أصدقائهم، وما لم تتوافر فيهم هاتان السمتان فسوف يقومون بتدمير أنفسهم.

ولما كانت هاتان السمتان؛ الشراسة والطيبة، متناقضتينِ وهو ما يعني استحالة الجمع بينهما، على الرغم من أهمية هذا الجمع بينهما، فقد كان مخرجُ أفلاطون من هذا التناقض هو العودة إلى رمز الكلب. فالكلبُ يعتبر بنظره مثالاً جيداً لتلك الطبيعة التي تجمَعُ بين هاتين السِّمتين المتناقضتين؛ إذ إن الكلاب المدربة جيداً تتَّسمُ باللطف والطيبة مع الأصدقاء والمعارف، والشراسة والغِلظة مع الأعداء. ومن هنا لا يعد خروجاً على نظام الطبيعة أن يتّسم الحراس بهاتين السمتين المتناقضتين، لكن أفلاطون يُضيف إليهما صفة أخرى، لابد قبلاً أن تتوافر في الحراس، ويؤكد أنها متوفرة هي الأخرى في الكلب، ألا وهي القدرة على التمييز بين الصديق والعدو ابتداء.

إن الكلبَ حتى يعامل الصديق بلطف وطيبة والعدو بشراسة وغلظة، لابد أن تكون لديه المعرفة اللازمة للتفرقة بين الصديق والعدو، وحينئذ يستطيع الكلب أو الحارس ممارسة مهمته، فتستقيم شئون الحياة في المدينة. وإذا اعتبرنا مع كارل شميث أن السياسة ترتبط وجوداً وعدماً مع تنظيم أي تجمّع إنساني حول ثنائية الصديق والعدو، لأدركنا أهمية ذلك الأمر وخطورة أي خلل فيه.

إن مجرد إلقاء نظرة على كلاب نجيب محفوظ ستكشف لنا أموراً مختلفة تماماً، فلقد جعلت تلك الكلاب سعيد مهران لصاً وطاردته إلى أن قتلته في النهاية. تأمل مثلاً رؤوف علوان الصحافي اللامع، وقد تنكر لمبادئه بعد أن صار من زمرة الأغنياء الذين كان يحقد عليهم، ويبرر لسعيد مهران سرقتهم أيام الفقر في سني دراسته الجامعية.

وتأمل رؤوف علوان وهو يحاضر سعيد بعد خروجه من السجن عن العمل، وأنه لا عمل يعد حقيراً على الإطلاق ما دام شريفاً، قبل أن يصرفه بالنظر إلى ساعته ليشير إلى تأخر الوقت. وتأمله مرة أخرى بعد أن أعد فخاً لسعيد الذي حاول سرقته، وهو يلوم سعيد لتوهمه (أي توهم سعيد وهي الحقيقة بالفعل لا الوهم) أنه صار واحداً من أولئك الأغنياء، الذين كان يهاجمهم فيما مضى، وبالتالي أراد سعيد أن يعامله على هذا الأساس (وسعيد في ذلك في منتهى الاتساق مع نفسه ومبادئه الاشتراكية بخلاف رؤوف).

وتأمله مرة أخيرة وهو يهدد سعيد أثناء طرده له بأنه سيسحقه كالحشرة إذا رآه مرة أخرى، هنالك نزع رؤوف علوان بانتهازيته وبنذالته كل غطاء أخلاقي عن سعيد مهران، وحاك له ذاتية اللص كلص يسرقُ عدواناً، وليس ثأراً من سرقة الأغنياء للفقراء، تلك الذاتية التي ستلازم سعيد حتى النهاية. وتأمّل بعد ذلك سعيد مهران في ختام القصة وهو محاصر من كل الجهات وصوت البوليس يعلو مختلطاً بنباح الكلاب، واعداً إياه بأنه سيعامل بإنسانية، وحاثّاً له على التفكير جيداً وتسليم نفسه، فلا فائدة من المقاومة.

وتأمّل سعيد وقد انهالَ الرّصاصُ حوله ليخرق أزيزه أذنيه، بتعبير محفوظ، قبل أن ينصب الرصاص عليه كالمطر ويغرق سعيد في ظلمة وصمت الموت.

لا تشبه كلاب نجيب محفوظ إذن كلب أفلاطون من قريب أو بعيد، بل يمكن القول إنها ليست كلاباً من الأصل. فالحارس عند أفلاطون يحمي المدينة من الأعداء الخارجيين ويحافظ على السلم بين المواطنين في الداخل، والأهم من ذلك أنه ليست لديه إرادة الإيذاء أو القدرة عليه بالنسبة للأصدقاء. إن الكلب عند أفلاطون يحسن للصديق ويسيء للعدو، ولديه القدرة على التمييز بين الصديق والعدو، ويفتقر إلى إرادة الإيذاء بالنسبة للصديق.

وتلك أمور افتقرت لها كل عناصر السلطة، التي طاردت اللصّ سعيد مهران إلى حتفه، وهو ما يجعلنا نجزم بأنه على خلفية رمز الكلب الأفلاطوني، فقد أخطأ أديبنا نجيب محفوظ في استخدام التشبيه بالكلب لوصف جهاز الحكم الاشتراكي الناصري؛ لذا يثور التساؤل من الذي كان يطارد سعيد مهران طوال الأحداث إن لم تكن الكلاب؟ وتستلزم الإجابة على ذلك العودة إلى الجمهورية والبحث عن رمز آخر عله يتناسب مع عناصر السلطة التي وصفها محفوظ خطأ – بقصد أو بغير قصد – بالكلاب .

إن أفلاطون في وصفه الأعداء الخارجيين قام بتشبيههم بالذئاب، الذين – على حد تعبيره – قد ينقضّون على القطيع من الخارج. على أن ذئبية الذئب لا تقتصرُ على العدوّ المهاجم من الخارج، بل يرى أفلاطون أنها قد تصيب الحراس أنفسهم. فهناك إمكانية ألا يتصرف الحراس كالكلاب، ولكنهم يسلكون سلوك الذئاب، فينقلبون على الخراف وينقضون عليها، بدلاً من حراستها والدفاع عنها.

ويستمد نظام التعليم الذي وضعه أفلاطون للحراس، وكذلك حرمانه لهم من الثروة والملكية، معقوليته من استهدافه للحيلولة دون تحول الحراس لكونهم أقوى من المواطنين إلى طغاة همج بدلاً من أصدقاء وحلفاء، أي لمنع تحولهم بلغة الرمز من كلاب إلى ذئاب. ويتم ذلك عن طريق غرس الميل للتحضر والإنسانية في الحراس، سواء في علاقاتهم مع بعضهم البعض أو مع أولئك الذين يقعون تحت حمايتهم.

ويصف أفلاطون تلك الحالة التي يخرجُ فيها الحراس عن دورهم الدفاعي ليتحولوا إلى منتجين وتجار، بأنهم سيصبحون حينها أعداء وطغاة لمواطنيهم بدلاً من أن يكونوا حلفاءهم. وحينئذ «سيكرهون ويُكرهون، ويتآمرون ويُتآمر ضدهم، وسيمضون حياتهم بأكملها في الفزع الأكبر من الأعداء الداخليين لا الخارجيين، وستحلّ حينها ساعة دمارهم ودمار بقية الدولة». وهكذا يكفي أن نتأمل كل المواقف التي واجه فيها لصنا سعيد مهران عناصر السلطة لنتأكد أننا لم نكن بإزاء كلاب وإنما ذئاب.


كثافة الرمز عند محفوظ

وربما لم يكن نجيب محفوظ غير واعٍ بالفارق بين من يصفهم بالكلاب ورمز الكلب لدى أفلاطون، لكنه فضّل ألا يستخدم رمز الذئاب في عمله الأدبي. ربما كان ذلك خوفاً من جانبه، وربما لأن أولئك الذئاب الذين عاش في ظلهم قد فاقوا ذئاب أفلاطون، إذ توافرت لديهم القدرة على التنكر كالكلاب. انظر مثلاً اسم «رؤوف علوان»، بما يشير إليه المعنى الظاهري من الرأفة أو الشفقة والسمو أو العلو، وبما يخفيه في الباطن من مدلول حقيقي تجسده تلك الشخصية. فالرجل يدعى رؤوفاً وتملؤه القسوة، ويلقب بعلوان وهو «واطي»، كما يقال بالعامية للإشارة إلى التدني والتسفل.

وتكشف ثرثرة على إحدى المقاهي، التي تسمع سعيد مهران لروادها، عن إدراك عميق لنجيب محفوظ لطبيعة الخلل في الوجود السياسي، الذي يخلفه انقلاب الكلاب إلى ذئاب، وما يترتب على ذلك من آثار. فقد ورد على لسان هؤلاء:

المأساة الحقيقية هي أن عدونا هو صديقنا في الوقت نفسه.. أبداً المأساة الحقيقية هي أن صديقنا هو عدونا.. بل إننا جبناء، لم لا نعترف بهذا؟ ربما ولكن كيف تتأتى لنا الشجاعة في هذا العصر؟

والآن بعد هذا كله، أليس لنا أن نسأل إذا ما كان تحول الكلاب إلى ذئاب والعجز عن التعامل مع تلك الذئاب، إلا بالاستعانة بالعدو الخارجي، هو عين ما كان يقصده محمد عبده بالحق المر؟ والأنكى من هذا أيها القارئ أنك والكاتب، في خضم كل هذا، لستما سوى حَمَلين من حملان القطيع، الذي يثرثر كما ثرثر رواد المقهى في رواية محفوظ ولا يفعل شيئاً سوى ذلك. ألا يغدو ذلك إذن هو الحق الأمر؟