فيما تجاوز 500 صفحة تستعرض الكاتبة «نادية كامل» حياة مهولة، تبدؤها منذ لحظة ميلاد «ماري روزنتال» صاحبة الحكي والحكاية ووالدة الكاتبة، إبان أزمة الكساد العالمي، والتي أثّرت على حال بيتهم الصغير هنا، بشارع العشماوي بالقرب من جامع الكخيا بالقاهرة.

تتنقل الكاتبة في فضاءات عديدة بين رواح ومجيء طيلة مدة الحكي، تأخذني بشكل شخصي لأنزل للواقع، أبحث عن حارة نعيم ببولاق أبو العلا والنادي الإيطالي بشارع شريف أو «المدابغ» كما كان سابقاً. أتنقل على الصفحات وفي الشوارع، ما بين وسط المدينة وتخومها، من قصر النيل للعباسية لحدائق القبة والدقي وغيرها، الشوارع ما زالت، لكن المعالم أغلبها اختفى.

يأخذنا الحكي بدءًا من الفضاءات المكانية المتباينة لعوالم مصر المحروسة في ثلاثينيات القرن الماضي، ما بين الحارات الضيقة وأهم شوارع القاهرة، والأماكن المهمة والمعالم الجميلة في ذلك الوقت (المدارس والنوادي الاجتماعية للجاليات الأجنبية والبيوت المصرية الأصيلة)، من الشوارع المنفتحة على النور لعتمة السجون المتعددة، من سجن الأجانب لسجن مصر وسجن القناطر، القبضة الأولى والثانية والثالثة… إلخ.

الفتاة نصف الإيطالية نصف المصرية، المتمسكة بمصريتها حتى النخاع، تبدأ رحلتها الحقيقية وهي فتاة في حوالي الخامسة عشرة من عمرها. دعوة على حفل رقص يوم السبت بـ«البيك» أو النادي الإيطالي بشارع شريف. حفل غيّر حياة ماري الصغيرة إلى الأبد، ضيّع حلمها القديم بتعلم الجيولوجيا في إيطاليا، أبدلها حلماً جديداً بتعلم السياسة في مصر.

زخم الفضاء المكاني بقدر زخم التجربة، تفاصيل وبشر بكل مكان، الفتاة الأجنبية التي أصبحت مُدرسة للغة الفرنسية لبعض المصريين، فتاة ذات مظهر غير ملفت، تحمل حقيبة «الخُضار» المعبأة بالمنشورات السياسية، تذهب بحجة إعطاء درس في اللغة الفرنسية، أو تلقي درس في اللغة العربية، كانت مهمتها نقل المنشورات، وبسبب تلك المهمة تجولت طويلاً في أنحاء القاهرة، تنحشر مرة في مصعد طعام يعمل بـ«بالمنافلة»، وتدخل مرات أفخم الفيلات والقصور بجاردن سيتي والزمالك، تُصادق وتتعرف ببشر من جميع الجنسيات والطبقات التي كانت تملأ القاهرة آن ذاك، ولم يعرف والداها عن نشاطها السياسي السري شيئاً لمدة ثلاثة أعوام.

حياة السجون

في الثلاثين من مارس/آذار 1949، ليلة عيد ميلادها الثامن عشر، تم القبض عليها، ورُحِّلت لسجن الأجانب، تلك الشقة العادية التي تتحرك وتتصرف فيها بحرية هي وزميلاتها من السجينات، غير أن الأبواب والنوافذ مُحكمة الغلق. بعدها للمرة الأولى يتم ترحيلها لسجن مصر، بتلقائية شديدة تذكر أن كل شيء كان أجمل وألطف من كل توقعاتها، ما سمعته عن تعذيب المعتقلين أثناء الحرب العالمية في كثير من بلدان العالم، صوّر لها السجن في خيالها فيلم رعب، كانت تنتظر تعذيباً وتنكيلاً، فأسعدها أن وجدت نفسها في عتمة غرفة فارغة على الـ«بورش»، توسدت حذاءها ونامت مرتاحة البال.

لم يكن السجن في أي مرة «سجناً» وحسب، بل كان دوماً مدرسة ما، مع الزميلات المتبدلات من «قبضة» لأخرى، ينظمن كيف يستفدن من الوضع، وقت لتعلم اللغة، وآخر للرياضة، وبالطبع تبادل الخبرات في السياسة وتفاصيل من كل فصيل سياسي ولو داخل التيار الواحد، وأيضاً دروس لتعلم الرسم والتفصيل ورقص الباليه. كانت مدارس لتبادل الخبرات وتنمية المهارات الذاتية لدى كل سجينة، حتى لا يتسلل اليأس والوهن لنفوسهن. لم يتوقف الأمر عندهن وحدهن، ففي إحدى المرات طلب ذلك مأمور السجن بنفسه، تشكيل مدرسة متكاملة، حتى في التمثيل والمسرح، وأوكل دروس التمثيل للممثلة زوزو ماضي زميلة إحدى القبضات.

صعوبات الزواج

تظل الراوية تتنقل بنا في فضاءاتها المكانية، عند عودتها لبيتها وتعرفها بالمناضل «أحمد سعد الدين كامل» بعد ذلك، والذي التقته سابقاً قبل ولوجها مجال العمل السياسي، عندما عملت سكرتيرة صغيرة في مدرسة تعليم لغات. أخذها لعوالم جديدة، فدخلت لبيوت الكثير من المناضلين والكُتّاب والفنانين، بيوت هي مرآة هذه اللحظة الذهبية في حياة مصر.

تتوازى خططهم السياسية إلى جانب العاطفية، فيأخذنا الحكي لبيت أهله بالدقي وكذلك عزبتهم الصغيرة بالفيوم، ومغامراتهم الكبرى من أجل إتمام زيجة تُسعد الأهل جميعاً، فمراسم بالكنيسة بعد نضال كبير ومراسلات مطولة مع «الفاتيكان»، وأخرى بعد أن أشهرت ماري إسلامها بنطق الشهادتين وتغيير اسمها إلى «نايلة كامل»، ذلك السر الذي لم تبح به لأبويها حتى وفاتهما، رغم غالب ظنها أنهم يعرفون.

تنتقل العروس الصغيرة لبيت أهل زوجها حيث سيعيشان معهما بالدقي، شهران بالضبط ويعودان – للفضاءات- الضيقة المعتمة، القبضة الثالثة، حيث كانت هناك اثنتان قبل الزواج، تلك القبضة المليئة بالمفارقات، والتي لم تعرف صاحبة الحكاية لليوم ما كانت تهمتها فيها بالضبط، حتى أنها حُكم عليها بخمس سنوات دونما تحقيق.

تعود لمحاولة ممارسة حياتها الطبيعية بكل قوة وشجاعة، لكن شبح السجن والترحيل أيضاً من مصر لم يتركهم أبداً، محاولات إخراجها من مصر والتي بدأت مع دخولها الأول للسجن ظلت مستمرة سنوات، أما هي فكان جوابها واحداً: «ليس لي بلد آخر أذهب إليه».

حياة استثنائية

تعود لبيت زوجها لتدور في فلك الحياة الجديدة في مصر، يحاول كل منهما (هي وزوجها) إيجاد فرص مختلفة للعمل للحياة الطبيعية، رغم كون حياتهم استثنائية من الدرجة الأولى، يتناول الحكي بتلقائية شديدة قضايا التحرر الوطني وتحرر المرأة، تعقيدات الحياة وصراعات الأجيال وصراعات العقل الواحد أيضاً. أفكار كثيرة تعصف بعقل ماري (الأم الجديدة)، عن تحولات اللحظة وتصورها عن كونها وأسرتها مختلفين عما كان سائد.

جانب مهم جداً مما تحمله هذه التجربة الثرية، هو ما يخص الأب، فعلى الرغم من كون الحكي على لسان الأم «ماري روزنتال» أو نائلة كامل، إلا أن ذلك الحكي يحمل في ثناياه حكاية الزوج (أحمد سعد الدين كامل) ليست منذ البدء كما هي حكاية ماري، ولكن من بعد تعارفهما، ذلك الرجل الحالم بوطن أجمل، صاحب مشروع قصور الثقافة المصرية، الذي حمل ذلك الحلم على كتفيه وطاف به أرجاء مصر ريفها وصعيدها، ولكنه كان حلماً بمعنى الكلمة، فسرعان ما تم إبعاد الرجل وأفكاره التنويرية الاستثنائية إلى الظل إلى غير رجعة، تفاصيل حكاية الزوج تحمل في طياتها تاريخ وطن وتبدلات خيارات من حكموه، والاستخفاف المؤلم بالثقافة والتنوير ومن حملوا لواءها في معظم العصور بمصر.

على صعيد الفضاء الزمني فهو يتناول مصر منذ الثلاثينيات من القرن الماضي وحتى ولوج الألفية الجديدة، قرابة ثمانية عقود من الزمن مليئة بتفاصيل مهمة من تبدلات الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية والفنية أيضاً.

عاشت ماري المولودة في العام 1931 موجات من التغيير منذ مصر في عهد الملكية؛ القاهرة المملوءة بجاليات أجنبية من بلدان كثيرة حول العالم، المجتمع الكوزموبوليتاني، الثقافات المتعددة والمؤثرة في بعضها البعض، ثم مصر أخرى تنحو نحو الوحدة العربية أكثر من أي شيء آخر. ينحسر الوجود الأجنبي بها تدريجياً وتتخذ شكلاً مغايراً، حتى في طريقة الأداء النضالي الوطني والمعارضة للنظام الجديد. سنوات من كفاح وطني متعدد الأبعاد والأشكال، بعدها سنوات من الانفتاح على العالم وسياسات أخرى ونظام مختلف كل الاختلاف. عقود تصارعت فيها أفكار وسياسات وأنماط حيوات تقترب وتبتعد في رؤاها حتى التضاد الكامل لشكل وطبيعة الأشياء والحياة كاملة في هذا البلد.

تحية كاريوكا ومحسنة توفيق

على صعيد شخصيات العمل، فمن المؤكد كم هو عمل ثري بكل من ذكروا فيه، كماً وكيفاً، هذه الشخصية غير العادية، قد صاحبت في رحلتها الطويلة أهم وأنبغ الشخصيات في هذا الوطن، أسماء كبيرة وكثيرة لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، أسماء من بنوا مصر حجراً حجراً في كل مجال خلال القرن الأخير من عمرها، الساسة والمناضلين، من وصل منهم لأكبر المناصب في الدولة، ومن بقي بعيداً في الظل لسبب أو لآخر، المفكرين والكتاب والفنانين، خلال ذلك القرن، الجميع أتى ذكره في الرحلة الاستثنائية، عن قرب كان أو عن بعد، المهم أنه موجود ومؤثر في الأحداث.

يستوقفني اسمان لا يمكن ألا أذكرهما في خضم كل هذا، الأول الفنانة «تحية كاريوكا»، تلك الأم الرؤوم مع الجميع، تفتح بيتها وتحتضن العمل الوطني في عهد الملكية وبعده، تحتوي الجميع وتقدم الدعم داخل السجن وخارجه، تلتف حولها السجينات الصغيرات ومنهن ماري، فتغدق عليهن المحبة الوافرة بكل ما تستطيع في هذا المكان.

اسم آخر هو اسم سجينة سياسية أخرى بسجن القناطر، كانت تجلس على حافة نافذة العنبر وتغني طوال الليل أغنيات أم كلثوم، ويستمع إليها الجميع في صمت جليل، كانت هي أهم ذكرى خرجت بها ماري في سجنها للمرة الثالثة، بعدها عرفت ماري أنه كان صوت الممثلة الجديدة آن ذاك «محسنة توفيق».

ولا يمكن إغفال البعد التشكيلي -إن جاز التعبير- في هذا العمل الشائق، فلوحة الغلاف واللوحات الداخلية للفنانة التشكيلية «هبة خليفة»، وكذلك تصميم الغلاف لـ«هبة خليفة» والفنان «أحمد عاطف مجاهد»، أثروا ذلك الكتاب المهم، حيث جعلوا له بُعداً مرئياً رأي العين، من خلال استخدام صور من أرشيف العائلة، والذي وضع مزيداً من الحميمية والصدق بين القارئ والكتاب، وكذلك الرسوم التي يستقبلنا بها الكتاب في غلافه الداخلي لتلك الشوارع والمعالم التي يدور بها الحكي.

من الصعب جداً الكتابة عن هذا العمل الكبير في حجمه ومضمونه في مساحة معقولة، بقيت كلمات قليلة مضطرة أن أختتم بها، عندما اعتمدتُ كلمة الحكي منذ بدء الكتابة عن العمل، فلأنه الشكل الذي وجدته أقرب ما يكون للغة العمل، وهذا لا يُقلِّل من قيمته الفنية والإبداعية بأي حال من الأحوال، شعرت طيلة قراءتي له وكأني أستمع إلى حلقات وثائقية، كنت أتصور صوت ماري تحكي بعفوية شديدة شكلاً وموضوعاً، عفوية لغتها البسيطة الواصلة للقارئ، وعفوية تناولها للأحداث الجسيمة بمنتهى البساطة، عفوية أيضاً مراجعة نفسها وتصالحها الشديد مع كل شيء، بتلقائية كبيرة أفصحت عما فعلت سابقاً، وكانت تراه حقاً وقتها، وباتت تراه غير ذلك ساعة الحكي. ساعات طويلة من الحكي الشائق استمع أحياناً بالفعل لصوتها في أذني، وأتقمصها أحياناً أخرى، فأقرأ بصوت عال متماهية معها.

في الأخير «المولودة» سيرة استثنائية تحمل تاريخ وطن، سيرة لا تُنسى على كافة مستوياتها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.