تكلّمنا في الجزء الثالث عن الكوارث الطبيعية، وأثبتنا أن المنطق العاطفي أو «السيكولوجي» عند السيد «س» يغلُب على المنطق العقلي، وتكلّمنا أيضًا عن الحكمة الإلهية، وصعوبة تحديد كل من الخير والشر، فلنتابع.


كيف يفسر الإسلام حجة الشر؟

يبرر البعض الشر بأنه ابتلاء من الله تعالى لعباده؛ لأن الدنيا دار ابتلاء واختبار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب من البشر – والله يعرف بالطبع، هذا يرجع إلى موضوع القدر، لكن لا يسع المقام لمناقشته – وهذا التفسير يقابل التفسير الفلسفي الذي ذكرته، وهو أن كل مخلوق لابد أن يكون ناقصًا.

يقول بعض المسلمين أيضًا بأن الألم والمعاناة والمرض ترفع من منزلة العبد عند ربه وترفع من درجاته في الجنة. وإن كل شيء له غاية «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا» [الفرقان 2]

يحاجج البعض الآخر بأن السائل – مثل السيد س – لا يعرف معنى الرحمة؛ فهو يزعم أن الرحمة تعني التألُّم والتعاطف والبكاء لرؤية موقف ما، وهو ادعى أن رحمة الله كرحمة البشر، فهل الله يتألم مثلنا؟ هل الله يبكي ويتعاطف عندما يشاهد طفلًا يتأوه؟ فالسائل يقارن رحمة البشر الناقصين برحمة الله الكامل، وإنه لمن التهوّر أن ُنعرّف رحمة الإله بهذا المعنى الدنيء.

يرد السيد س: وماذا بقي من تعريف الرحمة لديك؟ إذا كانت رحمة الإله ليس بها بكاءً أو نحيبًا أو تعاطفاً؟ ماذا يبقى من الرحمة؟ كيف تطلق عليه رحيمًا بعدما جردته من كل معاني الرحمة؟

ونحن نقول بأنه يمكن أن نفهم رحمة الإله بمثال بسيط:

فلنفرض أنك قد رأيتَ مُحتاجًا، لم تتألم، ولم تبك، ولم تحزن، بدلًا من ذلك فقد مددت يدك إلى جيبك، وأعطيته مبلغًا كبيرًا من المال، مبلغًا يكفيه سنة أو اثنتين، أعطيته المال في الخفاء بدون أن تُذِلّه أو تمُنّ عليه، فهنا يمكننا أن نُطلق عليك رحيمًا، فهذه رحمة لا تحوي الألم أو التوجّع، ونحن نقول إن رحمة الإله قريبة من هذا المثال.

هناك أيضًا من عرّف رحمة الإله بأن الإله كامل لا يحتاج إلى شيء، والمخلوق ناقص ومحتاج دائمًا، وتتمثل رحمة الإله بأن يرفع الحاجة عن المحتاج.

ومن معاني الرحمة أيضًا، وهو المعني الأشمل، على الأقل في رأيي، أن الرحمة تتمثل في الإيجاد، يمكننا أن نعرف ذلك بسهولة من الآية: «الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرًا» [الفرقان 59]

فبعد أن ذكر الله الخلق، قال «الرحمن»، لم يقل القدير أو البديع أو الخالق، بل قال الرحمن.

أما عن رأيي النابع من المنظور الإسلامي لتفسير الشر الأخلاقي (مثل القتل والشقاء والاغتصاب والألم والحزن وفراق الأحبة والمرض)، فأنا أرى أن كل ما يحدث للإنسان من شرور وآلام هو قادر على تحمّلها، بل مقاومتها والتغلب عليها؛ لقوله تعالي:

«لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» [البقرة جزء من الآية 286]

«لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرًا) [الطلاق جزء من الآية 7]

فبعد أن يأخذ جزاءه نُطلق على هذا الجزاء «بلاءً»، وذلك استنادًا إلى العديد من الآيات، مثل «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» [الروم 41].

«هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» [النمل 90].

«وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» [آل عمران جزء من الآية 117].

«وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير» [الشورى 30].

«ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيدًا» [النساء 79].

«وعليها ما اكتسبت» [البقرة جزء من الآية 286].

«كل نفس بما كسبت رهينة» [المدثر 38].

«بل الإنسان على نفسه بصيرة» [القيامة 14].

«أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) [آل عمران 165]

«وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون» [القصص جزء من الآية 59]. «فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم» [النساء جزء من الآية 62]. (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم» [القصص 47].

«وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون» [الروم 36].

«وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور» [الشورى 48].

نأتي الآن للسؤال التاسع، سيد س:

فلنترك الفلسفة ولنتكلم من منظور إيماني قليلًا، إذا سلّمنا بحقيقة أن هناك يومًا آخر، وأن هناك حسابًا وعقابًا، بماذا سيحاسب الله البشر، إذا كانوا يعيشون في عالم أحداثه ودقائقه خيرًا محضًا، وجل ما يصدر عنهم خيرًا محضًا؟ على أي أساس سيفرّق بينهم؟ على أي أصل سيحاسبهم؟


لحكمة لا يعلمها إلا الله

ذهب بعض المسلمين والمؤمنين على العموم إلى أن الجواب الوحيد عن علة وجود الشر في العالم هو «لحكمة لا يعلمها إلا الله». وأنا أرفض هذا تمامًا؛ فما فائدة العقل بعد ذلك! أعتقد أن هؤلاء مصابون بـ«الكسل الفكري»؛ فهم يتواكلون إلى «حكمة الإله» ولا يكلفون أنفسهم بشيء من التفكير وإعمال العقل.

ذهب آخرون إلى أن هذا السؤال صادر عن مشكلة نفسية بحتة! أي أن من يشمئزون من وجود الشر في العالم هم سريعو التأثر، وضِعاف القلوب، وأنهم يعانون من مشاكل نفسية!

وأنا أرفض هذا تمامًا، فإذا كانت قلوبهم ضعيفة، فلا شك أن قلوبكم قاسية.

فذاك الذي لا يتأثر بمعاناة امرأة مسنة أو بضعف طفل صغير لا ريب أنه هو من يعاني من آلام نفسية.

كذا يتضح لنا ماهية الشر وكنهه؛ فالله لم يخلق الشر، وإنما سمح به للأسباب التي ذكرناها.

والآن نأتي إلى السؤال العاشر والأخير:

سيد س، لو كان الإله شريرًا – ومحال أن يكون كذلك بعد كل ما ذكرناه – فما هو تفسيرك لمعضلة الخير؟ لماذا خلق الله الخير؟ ولماذا الخير أكثر من الشر بكثير؟ لماذا يسكت عن كل هذا الخير الذي يجتاح العالم؟ لماذا يُعرض عن ضحكات الأطفال وسلام الشعوب واستقرار الأرض وخمول البراكين وسعادة المسنين ونجاح المشوّهين وشفاء المتوعّكين؟

بهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية الجزء الرابع والأخير من هذه السلسلة، وأرحب بكل الانتقادات والآراء باحترام.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.