يمكن التأريخ لبداية هذا النوع الروائي الذي يجمع بين تشريح المجتمع وفضح مظاهر الفساد خاصة لدى رجال الأعمال مع قدرٍ من الغموض والتشويق برواية «علاء الأسواني» الأولى «عمارة يعقوبيان»، الصادرة عام 2002 والتي لا يُنكر أحد أنها ألقت حجرًا راكدًا في ماء الرواية المصرية المعاصرة، ونقلها من بين مكاتب المثقفين وحجرات الدراسة ومؤتمرات الرواية إلى أن تصبح حديث الناس في المقاهي والمنتديات والمتداولة بين الشباب في كل مكان، بل وهو ما نقلها بعد ذلك لتحتل مكان الكتب الدينية في قوائم الأكثر مبيعًا فيما بعد.

وبرغم النجاح الكبير الذي لاقته «عمارة يعقوبيان» تجاريًا وجماهيريًا إلا أنها لم تسلم من انتقادات شديدة وجهت لها، واعتبر نجاحها ما هو إلا صدى لما جاء فيها من تعريض بشخصيات عامة معروفة في المجتمع المصري آنذاك، بل وأطلق النقاد عليها مصطلح «أدب النميمة» و«التلسين»، ورأوا أن الأدب الجاد والحقيقي يجب أن يكون بعيدًا عن مثل هذه الأمور. ولكن يبقى أننا في النهاية أمام عمل أدبي يعتمد أساسًا على خيال كاتبه وتفاعل قارئه مع ما يقرؤه كذلك، وطبيعي أن الأدب يتجاوز المواقف والأحداث الراهنة التي يمكن أن يتناولها الكاتب في وقت معين.

بعد ذلك بنحو خمس سنوات أصدر الروائي الشاب «أحمد مراد» روايته الأولى «فيرتيجو» والتي احتوت على تلك الخلطة التي جمعت بين فضح رجال الأعمال وعالم السياسة من جهة وبين كونها ـ كما كتب مراد على غلافها «رواية سينمائية» في إشارة واضحة إلى هدفه وغايته الأولى في الكتابة وهي تحويل الرواية إلى عمل سينمائي، وهو ما انعكس على الرواية نفسها حيث اعتمدت على المشاهد البصرية والأحداث المتلاحقة بالإضافة إلى أجواء الإثارة والتشويق مع بعض «التلسين» والتعريض بعدد من الشخصيات العامة في المجتمع حتى تتم الوصفة.


تراب الماس: خلطة جديدة بمكونات قديمة!

استفاد «مراد» من الانتقادات التي وجهت له عن روايته الأولى، محتفظًا بعناصر «الخلطة» جيدًا، فكتب روايته الثانية «تراب الماس» التي تحتوي أيضًا على «الجريمة» مع قدر من الغموض والتشويق، مضيفًا إلى ذلك إضافة جديدة ربما تروق النقاد وهي تناول تاريخ مصر الحديث ولو بشكل عابر.

على عادة روايات الإثارة والتشويق تنجح «تراب الماس» تمامًا في الإمساك بالقارئ وشده إلى عالمها، لا سيما مع وجود بعض «البهارات» المتمثلة في فضائح الجنس والشذوذ، وقدر كبير من الاعتماد على الحوار بالعامية والذي يكشف الشخصيات بسرعة، ويضعهم في قوالب ثابتة لا تتغيّر. ينجح «مراد» في رسم ذلك كله، ولكن تبقى الرواية في النهاية مجموعة من الأحداث المتلاحقة والمفاجآت التي يأتي الكثير منها ملفقًا معتمدًا على المصادفات وهي أسهل حيل كتابة الروايات البوليسية، دون أن يغوص في طبيعة تلك الشخصيات التي تم اختيارها بعناية لتقوم بأدوارها ثم ترحل بهدوءٍ أو صخب دون أن يتعرّف القارئ على حقيقتها وطبيعتها.

ولعل هذا ملمح بارز في كل الروايات التي تعتمد الإثارة والتشويق، حيث إنه مع التركيز على الأحداث المشوقة والاهتمام بوصف الجرائم وطرق تنفيذها، لا يمكن أن يهتم الكاتب بأبطال العمل دوافعهم وتركيبتهم النفسية، وخلفياتهم الاجتماعية، كل ما في الأمر أنهم يقومون بالأفعال التي يجب أن يقوموا بها كما يريد لهم المؤلف، أو المخرج فيما بعد.

ورغم أن أحداث الرواية تبدأ منذ ثورة يوليو 1952 وما تلاها من أحداث حتى عصرنا الحالي، إلا أن أحمد مراد يمر على هذه الأحداث بشكل سريع ومختزل بشكلٍ كبير، حتى يصل إلى العصر الحالي حيث ذروة الأحداث وأساسها والتغيرات التي حدثت في مصر في العشرين عامًا الأخيرة.

تدور الرواية حول «طه الزهّار» مندوب المبيعات الذي يكتشف جريمة قتل والده، ثم يفاجأ بأن والده نفسه كان قاتلاً ويكتب في مذكراته طريقة قتله لعدد من الشخصيات، يتتبع «طه» خطوات والده، ويتعرّف على «تراب الماس» ذلك المسحوق الغريب الذي يتسبب في موت من يتناوله، وتتوالى الأحداث لتكشف له عن شبكة فساد كبيرة وتعاون البلطجية مع رجال الشرطة ورجال الأعمال فيها.

يبدو سيناريو الرواية مألوفًا، تم استخدامه والتعامل معه في عدد من الحكايات والأفلام السينمائية ويذكرنا مثلاً بـ«اللعب مع الكبار» وغيرها حيث يتورط الشاب في عدد من الجرائم لتحقيق العدالة بطريقته حتى تنكشف له خيوط اللعبة في النهاية، رغم ذلك يبقى القارئ مدفوعًا بالحكاية الجديدة لمعرفة ما ستنتهي إليه، ولكنه ربما لن يعود إليها مرة أخرى.


الحوار وتحوله من غاية إلى وسيلة

لم يعد السكوت حلاً، انتظار من ينظّف أمام بيتي أصبح أسطورة.. قالوا: لا يحك ظهرك أفضل من ظفرك، شخصياتٌ عفنة وأرواحٌ ميّتة.. أرى ذر التراب في أفواههم خلاصًا من نفايات .. تراب يدي اليمنى .. شريعتي المصحوبة برسالة تحذيرية وحلم يقلقل الظلام في النفوس.. يتيح فرصةً للتوبة وتخفيف الذنب أمام العادل الحكيم .. فرصة واحدة فقط لأصحاب ضمائر تعفنت وضرب الخضار جذورها.. لم يعد اليهود هم الوباء وحدهم .. أن تُعلن عداوتك صراحةً نوع من أنواع الشرف أمام من نسي حقه واستخف أهله .. يتواضع ذنب «ليتو» كثيرًا أمام من يخربون مجتمعهم بأيد باردة وينخرون كالسوس في العظام .. العدو الكامن في الداخل ينام بيننا في سلام .. ينعم بالحماية والشرعية بعدما تزاوج فأنجب آلهةً صغارًا وأصنامًا وضعت لتبعد، نفس الوجوه التي أرادت أن تخلصنا يومًا من الملك .. صارت هي ألف ملك!

لا شك أن الحوار يمثل عنصرًا هامًا من عناصر البناء في الرواية، ولكن الإطالة منه واستخدامه بشكلٍ مبالغ فيه يفقد العمل الروائي متعته الخاصة، إذ ينافس مكانة «السرد» وهو أساس الرواية، وربما يحوّل الرواية إلى «مسرحية» إذا اعتمدت فقط على حوار بين الشخصيات فحسب، ولذا فعلى الكاتب أن يوازن دومًا بين استخدامه للحوار وبين كونه ساردًا بالأساس يتولى زمام الحكاية ويتناول الشخصيات بالعرض والتحليل.

ربما يكون هذا أحد عيوب الرواية الأساسية؛ اعتمادها على الحوار بشكل كبير، ذلك الحوار الذي جاء بالعامية ولا يخلو من «قفشات» قد لا يفهمها ويتفاعل معها غير القارئ المصري، بالإضافة إلى تسرب قدرٍ من الجمل والعبارات العامية إلى السرد في كثيرٍ من الأحيان، مما يفقد القارئ تواصله واستمتاعه بالعمل، وإن كان سيواصل القراءة مدفوعاً بتسارع الأحداث وما فيها من غموض وتشويق.

يبقى في النهاية أن رواية «تراب الماس» تجربة مختلفة في السرد والكتابة لها ما لها، وعليها ما عليها، حتى وإن كانت قد اختارت طريقًا مختلفًا وبناءً مغايرًا لما هو مألوف، فهذا من شأن الإبداع دومًا، ولكن على الكاتب أن يراعي جيدًا استخدام أدواته والاهتمام ببناء شخصياته حتى لا يفلت الأمر من زمامه ويصاب القارئ، الذي تعرّف على «الخلطة» في رواية وأكثر، بشيءٍ من التخمة تجعله يُعرض عن هذا النوع وهذه الطريقة التي لا يبدو أنها تتغيّر كثيرًا.

ولأن الرواية كُتبت في 2010 وجرى بعدها في حياة مصر والمصريين ماءٌ كثير، فقامت الثورة وتغيّر الناس والرؤساء، كان واجبًا على الكاتب أن يغيّر كثيرًا من تفاصيل الرواية، وهو ما أشار إليه «أحمد مراد» في حوارٍ له قبيل البدء في تصوير فيلم «تراب الماس» الذي تنتظره صالات العرض السينمائي بعد أيام، حيث أشار إلى أن الفترة من 2010 إلى 2018 جعلته يغير كثيرًا في السيناريو، وجعلته يتخلى عن بعض الشخصيات الثانوية في الرواية مع الإبقاء على الفكرة الأساسية للرواية، وننتظر أن يكون بناء الشخصيات في الفيلم أكثر واقعيةً وتماسكًا، وأن تأتي الأحداث مقنعة بشكل أكبر، وفي انتظار ما ستأتي به الأيام.