وإن كنت أؤمن بأن على كل مسلم تحجيم وتهميش أي موقف غربي أوروبي أو أمريكي من باب التحجيم والتهميش المعرفي كما قال شاكرابارتي في كتابه الهام «تهميش أوروبا» فهناك مجموعة من الملاحظات الهامة التي يجب الالتفات إليها من زاوية التحليل الفلسفي والتاريخي حول توقيت القرار ودلالاته بالنسبة لسردية تدمير الحضارة الإسلامية (ولا أقول عربية، وسأفصل إصراري على هذا الوصف باستفاضة فيما يأتي)، وبالتوازي معها سردية انهيار المشروع الليبرالي البرتستانتي في ثوبيه الحداثي وما بعد الحداثي (سأفصل أيضًا سبب وصفي للمشروع المعادي للحضارة الإسلامية بالبروتستانتي و ليس بالغربي – هذا النعت المائع البعيد عن أي تدقيق علمي).

وباعتبار تخصصي في الفلسفة الحديثة، سأبدأ بدلالات هذا القرار في سردية انهيار المشروع البرتستانتي مبرزًا دواعي تهميشه، ثم أنتقل بعد هذا إلى سردية الحضارة الإسلامية بقدر من الإيجاز أفصّله في الجزء الثاني من هذا الطرح.


دلالات قرار القدس في سردية تحول أو ميتامورفوسيس المشروع البرتستانتي

الحداثة مشروع برتستانتي بامتياز. معالم هذا المشروع هو إيجاد تصور جديد لعقلنة المسيحية بعيدًا عن المشروع الكاثوليكي بشكله السلطوي المؤسسي في القرون الوسطى. جوهر المسيحية كما يقول بيتر براون والعديد من مؤرخي المسيحية هو تجسد الكلي الإلهي المقدس في الواقع التاريخي المادي الجزئي ببعديه الزماني و المكاني. نظرًا لاستحالة تحقق هذا التجسد إلا في إطار ميثولوجي أو عقلانية مثالية مجردة تفشل في التعامل مع الواقع المادي، ارتبطت المعرفة بالسلطة بشكل ممنهج في التاريخ المسيحي.

فالسلطة السياسية هي القادرة علي فرض سطوة المؤسسة الدينية الممثلة لتجسد المقدس في العالم المدنس ألا وهي الكنيسة على الواقع التاريخي الأخلاقي و الاجتماعي. تجلّى هذا بشكل قاطع في أوروبا الكاثوليكية في العصور الوسطى وحتي نهاية عصر النهضة وبدايات الحداثة مما أدى إلى تحول الملك إلى ممثل روحي وممثل علماني كما قال كانتروفيتش وشميت وغيرهما، وهو التحول الذي أدى بدوره إلى قتل الحرية العلمية والفكرية إذا اصطدمت مع الإطار العقلاني المثالي الذي تفرضه الكنيسة.

جوهر الحركة الاصلاحية التي قادها لوثر والتي أسست لميلاد الحداثة ليس علميًا وفكريًا فقط، بل هو اجتماعي وسياسي كذلك كما أثبت ماكس فيبر وغيره هي إيجاد بديل يحفط التصور المسيحي عن علاقة المقدس بالمدنس ولكن يغير تجلي هذه البنية في المجال العام. فكان الحل في إنتاج رؤية عقلية جديدة. أسست الرؤية الجديدة على تصور مادي فردي للعقل بالتضاد مع المفهوم المثالي الالهي للعقل، ولكن ظل التصور الميسحي للعلاقة السلطوية بين المقدس والمدنس كما هو.

من أفضل الأمثلة على ذلك كانط وهيجل: افترض الأول تعالي العقل الأخلاقي على العقل التجريبي المادي مؤديًا إلى حالة ازدواجية في مفهوم الطبيعة الإنسانية أدت إلى معضلات لا يمكن حصرها في تأسيس العلوم الإنسانية الحديثة كما أشار فوكو وغيره. أما الثاني، هيجل، وفي محاولة منه لحل أزمة الثنائية في فكر كانط، افترض جدلية ينتصر فيها الكلي العقلي على المادي المدنس بعنف، واستشرف ذلك في الدولة القومية التي تستحق لعقلانيتها لا لقدسيتها أن تتعالي على أفرادها وباقي القوميات التي لم تصل لنفس المستوى من العقلانية. المذهل أنه شبّه هذا التعالي والحق في قهر الآخر بالتجسد الثاني للمسيح. لكن ما دلالات هذا كله لفهم الجذور الوجودية لقضية القدس وأزمات المسلمين المتعاقبة؟

إسلامية القدس

إحدى أهم المشاكل التي واجهت المشروع البرتستانتي في محاولاته الحثيثة لتدمير ما تبقى من البناء الحضاري الإسلامي هي التعددية العقلانية المتمثلة في ما تبقى من قوة وفتوة في النخب الاسلامية العلمية سواء في الهند أو الشرق الأوسط بعد تدميرها في أسبانيا وغرب أوروبا.

أهم ما يميز هذا البناء الحضاري ويجعله قادرًا، ليس فقط على استيعاب، بل المحافظة على التعددية والتنوع كما حدث مع المسيحية واليهودية بشكل لم يحدث في العالم المسيحي ولا أقول الأوروبي، فالإسلام كان ولا يزال جزءًا من أوروبا – هو التعددية المذهبية التي عبّرت عن التعددية العقلية. فكل مذهب كلامي وفقهي يعبر عن نسق عقلي يحاول ربط الأحكام الكلية الإلهية بمتغيرات وتعددية الواقع المادي.

وعلى هذا، كان الحل الوحيد هو إدخال الفكري القومي، سواء العروبي أو التركي أو حتى الهندي، ليس فقط من باب فرق تسد، وإنما لأن الدولة القومية الحديثة التي لا يزال يبشر بها بائعو الهوا من نفايات من يوصفون بهتانًا بالمثقفين في منطقتنا، هي السبيل الوحيد لفرض التصور البرتستانتي على الواقع الاجتماعي والسياسي الاسلامي. من هنا، ولدت إمكانية تقسيم المنطقة لقوميات، والبحث في التاريخ والجغرافيا لمعرفة جذور كل قومية، ولا بأس في اكتشاف قوميات جديدة، ومن ثمّ القومية اليهودية ووعد بلفور.

على هذا، لا يمكن مقاومة إسرائيل من زاوية وجودية من خلال فكرة القومية سواء العربية أو أي قومية أخرى؛ لأن القومية هي أساس وجود هذا الكيان الغاصب. الحل الوحيد في مواجهته هو في استشىراف بديل للدولة القومية الحديثة. لهذا فشلت وبامتياز كل محاولات المقاومة القومية العروبية والإسلامية لأن كلتيهما ينطلقان من رؤية حداثية تقبل بالدولة الحديثة بإطارها البروتستانتي، ولكن تحاول أن تقولبها في أطر مختلقة، إما بدعاوي قومية هشة لا أساس لها في التاريخ مثل القومية العربية، أو عبث الإسلاميين من حسن البنا إلى الآن، حول توافق الاسلام مع أسس الدولة الحديثة.

الصهيونية. على العكس، قبلت بالصورة البروتستانتية بشكل كامل. فالصهيونية ليست يهودية على طريقة موسى بن ميمون أو ابن كمونة أو الكابالا؛ بل هي ميتامورفوسيس بروتستانتي يحظى برعاية الأب الروحي له في الغرب البروتستانتي كما قال جيل إنيدجار ونورمان فنكلشتين وغيرهما من أساتذة الدراسات اليهودية.

ما بعد الحداثة

لكن المشروع الحداثي انهار وانهارت معه آخر تجليات القومية في ألمانيا وإيطاليا النازيتين في الحرب العالمية الثانية؛ فماذا حدث للمشروع البروتستانتي في ما بعد الحداثة؟

ما بعد الحداثة في معاداتها للعقل وكل ما هو كلي أو ميتافيزيقي عبرت أيضًا عن استنساخ بروتستانتي جديد. من يتابع فلاسفة ولاهوتيين من أمثال الصديق جون كابوتو [أستاذ فلسفة الدين بجامعة سيراكيوز – إض] وفهانين وديفيد ميللر وغيرهم، يلاحظ تبدلا في الطبيعة السلطوية للمسيحية. فلقد فشل استبدال البابوات وتراثهم العقلي الطبيعاني برجال دولة يتسلطون باسم القداسة العقلانية للدستور كما قال كارل شميت.

وفشل أيضًا استبدال تعالي دولة الرب المقدس التي يحق لها ذبح الملايين كما فعل كورتيز وكولومبس في أمريكا اللاتينية من أجل تطهير البرابرة وإدخالهم ملكوت الرب بتعالي الدولة القومية الحديثة التي ستمدن البرابرة باستقدام العلوم المادية الحديثة، ولا مانع من تدنيس محافل الآخريين العلمية وسرقة كتبهم كما فعل الهمجي نابليون الذي لا يزال يحتفل المنحطون فكريًا ومنعدمو الكرامة من الفرانكفون العرب والمصريين بحملته على مصر.

السلطوية الجديدة هي السلطوية البربرية للمادية الاستهلاكية. من يتابع تطور البرتستانتية في الخمسين سنة الأخيرة يلاحظ تلاحمها الكامل مع البربرية الاستهلاكية ورأسمالية الشركات العابرة للقرات والمادية، لا في ثوبها العقلي الماركسي القديم، ولكن في صورة طغيان اللذة المادية الشخصية التى لا تحكمها سوى الميول الجسدية.

لنأخذ على سبيل المثال الخطاب الحقوقي مابعد الحداثي. ستجد دائمًا التركيز على الجسد دون غيره كأساس لتعريف الإنسان وحقوقه. في هذا الإطار، يُصنِّف كفاشى وبربري وهمجي وإقصائي كلَّ من يقاوم أي رؤية تواجه هذه المادية الجسدية العبثية. ليس هذا فحسب؛ بل تلوى كثير من الحقائق العلمية وتمارس عشرات الضعوطات على الأكاديميين بشكل سلطوي كنسي ليتحول الجسد برغباته اللانهائية إلى المقدس الجديد؛ ولذا كان فوكو على حق حينما قال أن الهوس بالجنس في مجتمعات غرب أوروبا سواء بالمنع أو الانفتاح هوس برتستانتي أصيل. لكن ما دلالات هذا عن قرار الفاشست الدينيين البروتستنتيين الأمريكيين الأسبوع الماضي؟

منتخِب دونالد ترامب نموذج نموذجي للذات ما بعد الحداثية. يعادي ترامب الحقائق الثابتة بالعين المجردة، مثل أن أحدًا لم يحضر مراسم تنصيبه، ويقول أكبر عدد من الناس حضروا، فلا يعبأ. تظهر آلاف الأدلة الدامغة على أن ترامب متحرش جنسي ولا يري في المرأة سوى جسدها وأعضائها التناسلية، ثم تصوّت له الغالبية العظمى من السيدات البيض المتعلّمات لا الجاهلات أو متوسطات التعليم كما ادعت كذبًا أبواق الصحافة الليبرالية الأمريكية – بل متعلمات متحررات كما أثبتت الإحصائيات بشكل حاسم – لكن الأهم بالنسبة لهن تطلعاتهن المادية البحتة سواء الاستهلاكية أو الدينية. كذلك اليمين المسيحي لم يعبأ بأن ترامب لا يعرف أي شيء عن الإنجيل، ناهيك عن حياته الماجنة، ولكن ما يعنيهم هو كونه سببًا ماديًا لتحقيق تطلعاتهم المادية سواء الدينية أو الاستهلاكية.

إعلان نقل السفارة إالى القدس هو تعبير عن هذه السلطوية المادية-الجسدية الفجة التي لا يمكن أن تحارَب انطلاقًا من نفس القيم ما بعد الحداثية الهمجية. وعلى هذا، تجد كثيرًا من ما بعد الحداثيين يقولون: نحن ننتقد الحكومة الاسرائيلية الفاشية، ولكن القضية ليست الأقصى فهو مجرد رمز… المهم هو الانسان. حسنًا، من هو الإنسان؟ الإنسان المفرغ من أي معنى، المفكّك ماديًا، المعادي لأي قيمة متعالية، القابل والخانع لفشل البروتستانتية وصيرورتها سلطويةً جسديةً منحطة.

هؤلاء هم من أدانوا حق الفلسطينين في الدفاع عن أنفسهم ومقداساتهم بالنيابة عن مسلمين لا يستحقون الحياة. لدرجة أن بعضهم أدان أمريكا و اليمين الإسرائيلي و لكن لم ينس أن يؤكد إعجابه بالحرية الجسدية في الكيان الصهيوني والتزامه بالإيمان بتفوقها على مثيلتها في العالم الإسلامي المتأخر بدون أدني مناقشة أو فهم لمفهوم الحرية الجسدية بشكل عام أو في الاسلام، واختلافها الكامل عن هذا التصور البروتستانتي، ناهيك عن المشاكل المخيفة المتجذرة في هذا النموذج.


دلالات قرار القدس في سردية انحدار البناء الحضاري الإسلامي

بناء على ما أوضحت سالفًا، أنتقل إلى مجموعة من الملاحظات الهامة أفصّلها بشكل فكري في الجزء الثاني من هذا المقال:

أولا: قضية القدس لا يمكن حلّها في إطار القبول بمفهوم الدولة الحديثة وتصورها الفاشي عن القومية. لا يمكن مواجهة مشروع قومي بآخر مثله ليس في مستواه من التأصيل. لا يمكن أيضًا اختزال قضية الأقصى أو الصراع مع الكيان الصهيوني إلى بعد إنساني ما بعد حداثي؛ لأن هذا البعد حتى وإن انتصر ظاهريًا لمفاهيم مجوّفة عن حرية العبادة أو أو… سيظل دائمًا ظلا هشًا للتصور البرتستانتي المابعد حداثي منسحقًا أمامه ومعترِفًا دائمًا بتعاليه وتساميه الأخلاقي والقيمي.

ثانيا: قضية القدس من الناحية الوجودية والإنسانية قضية إسلامية في الصميم. الإسلام هنا لا يقصد به الدين ولا أتباعه ممن يمارسون الشعائر الإسلامية فقط؛ ولكن يقصد به التصور الإسلامي التعددي للعقلانية الذي يتجلي في انقياد السلطة للمعرفة.

ثالثا: السبيل إلى إعادة إنتاج هذا المشروع الإنساني هو العمل العلمي الجاد. الحركات الإسلامية قاطبة سواء في تركيا أو ما يسمى بالعالم العربي جزء من الفشل البروتستانتي في ثوبيه الحداثي وما بعد الحداثي. وينسحب هذا على المؤسسات الدينية مثل الأزهر، التي وصلت إلى درجة من التسطيح والانصياع للسلطة والفشل التربوي، لم يعد ينفع معها الإصلاح، بل يجب التفكيك التام والبناء من الصفر.

رابعا: هدف هذا كله ليس إحياء، بل إعادة اكتشاف الإنسانية الإسلامية بمفهومها التعددي وعقلانياتها المتفردة كبديل إنساني. من هذه الزاوية فقط، يمكن التعامل مع ضياع الأقصى إنسانيًا وعقائديًا. معالم هذا المشروع الإنساني وكيفية إعادة استكشافه في الهزيع الأخير من ليل ما بعد الحداثة سياسيًا واجتماعيًا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.