«The Florida Project» هوالفيلم السادس في مسيرة «شون بيكر»يتتبع حكاية الطفلة «موني»وأمها التي تعيش معها في أحد الفنادق الرخيصة في فلوريدا، تصادق «موني»طفلين آخرين أحدهما تدعى «جانسي»والآخر يدعى «سكوتي»، ويقوم الثلاثة بالعديد من الأشياء الطفولية، والتي تتحول في نهاية المطاف إلى عمليات تخريب، مما يهدد صداقتهم سويًّا ويهدد إقامتهم في الفندق من الأساس.فكرة الفيلم مستوحاة من قصص إخبارية لوسائل الإعلام قبل نحو خمس سنوات، حيث هناك مجموعة عائلات فقدت وظائفها واضطرت للعيش في فنادق رخيصة.

نص هذا الفيلم ذكي للغاية، أدركت ذلك منذ افتتاحيته، ثلاثة من الأطفال يذهبون للبصق على سيارة إحدى الوافدات الجدد في منطقتهم، هذا الاستهلال يمنح المشاهد أريحية تامة بخصوص ما سيراه المشاهد، ويمنح خصوصية واضحة للمكان الذي تدور فيه الأحداث من خلال كادراته الواسعة.

وفي جانب آخر لا يحتاج المشاهد أن يعرف الكثير عن ماضي شخصياته ولا يحتاج أن يجد مثلاً مبررًا لصبر «بوبي» (قام بدوره الممثل وليام ديفوي) أو على جنون «هولي» وتصرفاتها العبثية، كل الشخصيات تتكشف مع سير الأحداث وكل شيء ينسل تحت الجلد ويمكن التفاعل معه دون ذروة حقيقية -باستثناء آخر مشهد- وبدون ادعاء أو افتعال لحدث ما.

يستكشف بيكر في هذا الفيلم المادة الخام للطفولة، تلك التي لا تتأثر ولا تفكر في أفعالها، وفي استكشافه هذا لا يصبح فجًا في التعامل مع المادة الخام، ينشر الكثير من التفاصيل، هناك مهرجان من التفاصيل الصغيرة في هذا الفيلم تشكل -بكل التوازن الممكن- واقع تلك المادة الخام. بيكر لا يتدخل في السرد، يترك الكاميرا تكتفي بالمراقبة والتقاط تلك التفاصيل للدرجة التي ستجعل المشاهد نفسه رفيقًا حقيقيًا لأبطاله الصغار، وفي إطار ذلك الالتقاط يرسم الرجل صورة من أجمل ما يمكن للمكان، البلدة والطرقات والعائلة والناس، وبكل بساطة يجعل المشاهد وكأنه يعيش مع أبطاله.

الفيلم في رحلته المحمومة عن الطفولة ينأى بنفسه عن عوالم سبيلبيرج مثلاً، تلك التي تحتوي على أصدقاء فضائيين، أو عمالقة، أو نتاج لكارثة ما، وكذلك يبتعد الفيلم عن العالم الطفولي للأسباني الكبير «فيكتور ايريثه»، ذلك الذي يتعامل مع رحلة الاستكشاف التي تنتهي بالوعي الطفولي الذي يتشكل دومًا خلال مدة أفلامه، الوعي المميز للأبد والذي ينفصل عن الرؤية التقليدية للأطفال. شون بيكر هنا لا يعرض صورة لطفل يعرض أسئلة ويثيره الفضول والاستكشاف، أو لا يفهم كيف يمكن أن يكون هناك شيء عبثي في الحياة، لكنه يعرض حياة الأطفال العادية جدًا، طفل يلهو ويتعلق برفاقه بدون النظر لأي شيء آخر.وعلى صعيد آخر يذهب النص بعيدًا في تناوله للمُهمشين والطبقات المسحوقة، بيكر يتناول من خلال أبطاله انسحاق الطبقات الدنيا من مجتمع مسحوق بذاته، الفيلم بنظرة أوسع هو سلسلة من الطبقات المتحكمة والمحكومة، سواء كانت الطبقات الحاكمة هي صاحب الفندق، أو جهات التحقيقات في نهاية الفيلم. وحين يأتي مشهد النهاية الخيالي/الواقعي، تهرب الطفلة مع رفيقتها كمحاولة لخلق طمأنينة تجاه ما يحدث وإيجاد الملاذ الآمن، محاولة انتقال من مرحلة استضعاف البراءة إلى تسليمها للخيال والقوة النسبية. لحظة انتصار حقيقية للروح تعطينا بصيصًا من الحرية والأمل حين نهرب وننظر إلى أعلى، منتظرين ربما معجزة.إخراجيًا يتوهج بيكر ويُشعرنا أننا أمام مُخرج خبير ومُسيطر على أدواته، مُحنك جدًا في التقاط سحر عادية الحياة ووضعها على الشاشة، فقط نستمتع بالزمن، حيث لا حدث كبير يدور الفيلم حوله، بل استعراض لحياة طفلة وأمها وأصدقائها على هامش الفندق. وبجانب استمتاعنا بالزمن، يُعطينا الرجل إحساسًا بحركة مستمرة داخلية قبل أن تنعكس داخل الإطار على سلاسة معالجته للشخصيات، تلك التي تغلفها قسوة فوق قسوة، وبيكر في معالجته هنا لا يفتح جروحها أو يعري ماضيها، هو فقط يعرض لوحات الحاضر ويستكشفها، يسرقنا الرجل دون جر أو إجبار، ويساعده في ذلك أداء ويليام ديفوي الممتاز جدًا، هو واحد من تلك الأداءات التي لا تسرق الأضواء، لكنه، وبتوازن شديد، يساند بطلتيه المغمورتين بكل تحكم وانسيابية وحساسية.

وفي الختام هناك بروكلين برينس، الطفلة التي تمنح الفيلم بريقًا لا يمكن تجاهله إطلاقًا، براءتها وطفوليتها الشديدة تشع من عينيها، نظرتها الختامية لصديقتها حين ولت بالهرب تقول كل شيء. واحد من أصدق أداءات الأطفال، في واحد من أهم الأفلام التي زارت عوالمهم على الإطلاق.

فيلم عن تلك الفجوة بين أن نملك وألا نملك، عن العالم البسيط في الطفولة والجانب الخصب منها، تشريح موزون ودراسة حقيقية عن القاع في المجتمع بكل ما فيه، دراما حياتية مستخلصة بذكاءٍ عالٍ، فيلم يعرف جيدًا كيف يتسلل بين عوالم الطفولة، وبين الإنسانية وعدمها، بين السحر غير المرئي لروتين الحياة اليومية، فيلم عن الأطفال وليس لهم، يملأ بكل ثقة الفراغات التي لم تستطع هوليوود أن تملأها في أفلامها عنهم، واحد من أهم الأمثلة للجواب على سؤال «هل تستطيع الحياة صناعة السينما دون مؤثرات؟»