مع اعتقال عدد من نواب حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) قبل أيام، ورغم عدم وضوح كل التفاصيل والمسارات المستقبلية، إلا أنه يمكن الجزم بأن المسألة الكردية في تركيا قد دخلت منعطفًا تاريخيًا مهمًا وفتحت صفحة جديدة في كتابها.


مظلومية وإصلاحات

لا يختلف اثنان في المنطقة حول المظلومية التاريخية التي تعرض لها الأكراد بعد الحرب العالمية الأولى، ليس فقط على صعيد حرمانهم من وطن قومي لهم أُسوة بباقي شعوب المنطقة من عرب وأتراك وفرس –بعد وعود قطعت لهم وبنود تضمنتها معاهدة سيفر- لكن أيضًا على صعيد إنكار وجودهم وحقوقهم في أهم الدول التي توزعوا عليها وهي سوريا والعراق وإيران وتركيا.

وفي الأخيرة، أدّت «عُقدة النشأة» للدولة الوليدة كما يقول المؤرخون إلى اعتبار التنوع العرقي والمذهبي في الدولة العثمانية أحد أهم أسباب سقوطها، وبالتالي ذهب الجيل المؤسس للجمهورية التركية إلى اعتبار كل مواطن ضمن الحدود الجغرافية للدولة تركيًا، بغض النظر عن عرقه أو لغته الأم.

أُضيف لاحقًا إلى ذلك بعض محاولات «الهندسة الديمغرافية» بتخفيف نسبة تمركز الأكراد في مناطق الجنوب الشرقي للبلاد، وتبعه أيضًا تمييز سلبي على مستوى التنمية والمشاريع الاقتصادية، بعضه مقصود وبعضه الآخر عفوي وجزء ثالث تسببت به الحالة الأمنية الصعبة التي سادت المنطقة منذ 1984 حين أعلن حزب العمال الكردستاني حربه الانفصالية ضد الدولة التركية.

وممن لا يختلفون على هذه المظلومية التاريخية حزب العدالة والتنمية، الذي أسس عام 2001 واستلم السلطة عام 2002 بقيادة أردوغان، فكان أول قرار اتخذه رفع حالة الطوارئ عن مناطق الأغلبية الكردية في الجنوب الشرقي.

وعلى مدى سنوات طويلة، قدمت حكومات الحزب المتتالية حزمًا متدرجة ومتكاملة من الإصلاحات الديمقراطية والمشاريع الإنمائية. سُمح أخيرًا في تركيا بالتقاضي والتأليف والنشر والتعليم بلغات غير التركية (المستهدف الأول الكردي)، وإعادة تسمية البلدات والقرى بأسمائها القديمة، ورفع سقف عقوبات جرائم التمييز والكراهية والعنصرية، بل وأنشأت الدولة قناة حكومية ناطقة باللغة الكردية (TRT-6)، وصولًا لبدء عملية سياسية لإنهاء المشكلة الكردية في تركيا على قاعدة إلقاء حزب العمال الكردستاني سلاحه في مقابل حقوق مواطنة كاملة للأكراد في تركيا.


تصعيد عسكري وتراجع سياسي

بيد أن تطورات الأزمة السورية وتقدم المشروع السياسي لفصائلها الكردية في الشمال ألقى بظلاله على المشهد الكردي داخل تركيا من خلال رفع سقف المطالب «الكردية»، وانتقال الحركة السياسية الكردية من أفق الحل المحلي إلى التدويل والحلول الإقليمية.

توقفت العملية السياسية في آذار/مارس 2015، ثم استأنف الكردستاني عملياته العسكرية في تموز/يوليو 2015 بعد مرحلة من تكديس السلاح وحفر الخنادق ونصب المتاريس جنوب شرقي البلاد، وفي ظل دعوات للإدارات الذاتية و«حرب التحرير الشعبية».

رأى حزب الشعوب الديمقراطي، الذي ينظر له على أنه الذراع السياسية للكردستاني، إلى الإدارة الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في الشمال السوري (مع نموذج إقليم شمال العراق السابق عليها) على أنها فرصة تاريخية لتحقيق الحلم الكردي بدولة تجمع شتات الأكراد.

عاد الحزب عن مشروع «حزب لكل تركيا» إلى سياسات الهوية الكردية الضيقة والتي اصطدم الكثير منها مع الدستور التركي، أو بالأحرى حرص الحزب من خلالها على انتهاك الدستور، خروجًا من إطار العمل السياسي الرسمي ورغبة في العودة لسنوات الحظر وسردية المظلومية طمعًا في إعادة شعبيته التي افتقدها بين أبناء المكون الكردي في تركيا سيما الشباب منهم.

لقد دعم بعض نواب الحزاب الدعوات لإقامة إدارات ذاتية في مناطق الأغلبية الكردية (أعلنت ذلك فعلا عدة بلديات)، وشارك بعضهم في جنازات انتحاريين فجروا أنفسهم في مناطق مدنية وميادين وسط المدن التركية الكبيرة، وهتف بعضهم الآخر لعبد الله أوجلان (رأس المنظمة المصنفة على قوائم الإرهاب) تحت قبة البرلمان، فضلًا عن تصريحات عديدة من الصعب تصنيفها وقبولها ضمن الإطار القانوني أو السياسي.


صفحة جديدة

http://gty.im/495264456

في أيار/مايو الماضي، أقر مجلس الشعب الكبير التركي (البرلمان) تعديلًا دستوريًا أتاح إمكانية «التحقيق» مع 148 نائبًا في قضايا كانت قد رفعت ضدهم حتى ذلك الوقت (لا يعمل التعديل بشكل دائم أو مستقبلي) بعد رفع الحصانة البرلمانية عنهم، وكان مفهومًا حينها أن الأمر يتعلق فعليًا وبأولوية واضحة بنواب حزب الشعوب الديمقراطي بتهم تتعلق بدعم الإرهاب ودعم حزب العمال الكردستاني «الإرهابي» رغم أنه شمل رسميًا الأحزاب الأربعة الممثلة في البرلمان -بما فيها الحزب الحاكم- ونائبًا واحدًا مستقلًا.

حزم الحزب أمره منذ البداية، وأعلن عن رفضه المثول أمام الادعاء العام للإدلاء بالإفادات، وأن على الأجهزة الأمنية «اقتيادهم قسرًا» للتحقيق وهو الأمر الذي «لن يكون سهلًا» على حد تعبير رئيس الحزب صلاح الدين دميرطاش.

وفعلًا التزم النواب بالقرار (باستثناء واحد) بينما ذهب نواب الأحزاب الأخرى طواعية لإعطاء إفاداتهم وفي مقدمتهم رئيس حزب الشعب الجمهوري -وزعيم المعارضة- كمال كيليتشدار أوغلو وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي.

أوقفت الشرطة عشرة من نواب الحزب للتحقيق معهم، في مقدمتهم رئيسا الحزب التشاركيين دميرطاش ويوكساك داغ، بينما ما زال اثنان من نوابه «هاربين» خارج البلاد، ورد الحزب بتعليق عمله في البرلمان ولجانه الفرعية.

وفي حين وقف حزب الحركة القومية إلى جانب الحكومة في الإجراء الذي رآه قانونيًا وعاديًا، وقف حزب الشعب الجمهوري إلى جانب الشعوب الديمقراطي معتبرًا ما حصل خصومة سياسية، رغم أنه أقر بخطأ النواب بعدم انصياعهم لقرارات القضاء.

تصر الحكومة على أن الإجراءات قضائية ومحقة رغم أنها كانت تفضل «أن يتم التحقيق معهم دون اعتقال» كما قال رئيس الوزراء يلدرم، بينما يلمح تجميد الأنشطة التشريعية إلى تصعيد محتمل من قبل حزب الشعوب الديمقراطي سيما إذا ما حصل على دعم مقبول من الخارج (والداخل)؛ مما يفتح الباب مشرعًا على أسئلة المستقبل.


آفاق المستقبل

لطالما تراوحت المسألة الكردية في تركيا بين المقاربات العسكرية والسياسية، لكنها حملت مع العدالة والتنمية آمالًا كبيرة نحو حل نهائي وعادل؛ نظرًا لمنظومة الأفكار التي يحملها الأخير والإصلاحات التي قام بها، فضلًا عن تجاوب الحركة السياسية الكردية اليسارية معه على مدى سنوات.

ولأن فصل الحقوقي عن السياسي ليس ممكنًا تمامًا في دولة مثل تركيا، فلا شك أن للأمر انعكاساته العميقة والمؤثرة على مجمل المشهد التركي وخصوصيته الكردية في الداخل والخارج.

ولعل أولى المؤشرات هي ردود الفعل الغربية والأوروبية على وجه التحديد، التي بدأت باعتراضات وتحفظات ووصلت للتهديد بتجميد العلاقات مع تركيا خلال كتابة هذه السطور. ورغم أن انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة وارتياح تركيا النسبي له (بسبب مواقف كلينتون المعلنة من دعم أكراد سوريا ومواقفه المعلنة من رفض الضغط على الحلفاء)، إلا أنه لا يمكن بتاتًا الاستهانة بضغوط الاتحاد الأوروبي، شريك تركيا الأكبر اقتصاديًا ووجهتها لعشرات متصلة من السنين.

الانعكاس الثاني يكمن في عودة البلاد لحالة الاستقطاب السياسي الحادة التي كانت قد خرجت منها تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/يوليو الفائت، وهي على أعتاب تعديل دستوري هام يتعلق بنظام البلاد السياسي (سعيًا نحو الرئاسي؛ الأمر الذي يحتاج إلى مستوى مقبول من الهدوء في غياب التوافق الحزبي التام.

بيد أن النتيجة الأهم تتعلق بمستقبل «الحركة السياسية الكردية» وإستراتيجيتها في تركيا، ما بين العمل السياسي -الدستوري العلني- والعمل السري كما حصل في فترات تاريخية سابقة، وهو تطور ينطوي على مخاطر كبيرة ترتبط بوجهة الشباب الكردي في مناطق الجنوب الشرقي وآمال المكون الكردي في الشعب التركي، فضلًا عن تقويضه لأي فرصة قريبة للعودة للحل السياسي السلمي للقضية.

صحيح أن الأمر محصور حاليًا بالتحقيق مع النواب، لكن مواقفهم وسياساتهم وتصريحاتهم السابقة والتهم المسندة إليهم قد توصل الأمر لمرحلة المحاكمات والإدانة وهو ما يعني سقوط عضوية بعضهم على الأقل في البرلمان.

كما أن تفسير الكتلة البرلمانية للحزب بشكل دائم عن البرلمان قد يفتح الباب على «إخراجهم منه» وفق نظام البرلمان الداخلي، وهو ما يفتح الباب على إمكانية تنظيم انتخابات بينية (في حالة العدد المحدود) أو انتخابات مبكرة (إذا ما زاد العدد)، وهو أمر يصب في خانة عدم الاستقرار والاستقطاب التي تناولناها أعلاه إضافة إلى مستقبل الحزب والحركة الكردية كما سيأتي.

يمثل حزب الشعوب الديمقراطي أحد تيارات أربعة تبلورت وترسخت في تركيا في السنوات الأخيرة، حيث ما زال يحظى بتصويت قوي على أساس الهوية من أكراد جنوب شرقي البلاد تحديدًا، ولذلك فلا يجب أن تخسر أنقرة تمثيله في البرلمان.

لا شك أن المسار السياسي الحالي للحزب وتصعيد الكردستاني العسكري لا يشيان بقرب أي مسار سياسي سلمي، بل يعليان من شأن المقاربة العسكرية-الأمنية، ولا شك أن البحث عن بدائل والعمل مع شركاء جدد في الحالة الكردية أصبح واجب الوقت بالنسبة للحكومة التركية، لكن كل ذلك سيتطلب وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا في حين ما زال الحزب رقمًا صعبًا في المشهد الكردي في تركيا، ليس من السهولة بمكان تخطيه.

بمعنى؛ كون الشعوب الديمقراطي جزءًا من المشكلة لا ينفي إمكانية تحويله إلى جزء من الحل بعد كسر شوكة التصعيد الحالي للكردستاني، وبالتالي فالمصلحة، بعيدة المدى لتركيا وطيفها الكردي، تكمن في إبقاء الشعوب الديمقراطي داخل الحلبة السياسية رغمًا عنه إن جاز التعبير.

وإلا فإن البديل هو استمرار الحل العسكري بلا هوادة ولا نهاية ولا أفق، وتفويت فرصة بدت تاريخية ومواتية مع العدالة والتنمية لإنهاء هذا الملف الذي استنزف تركيا، ولم يخدم الأكراد على مدى أربعين سنة، وكانت فاتورته باهظة جدًا؛ بشريًا (30 ألف قتيل)، واقتصاديًا (500 مليار دولار)، وسياسيًا (عبر التدخل الخارجي)، ويُبقي أنقرة منشغلة بملفاتها الداخلية فيما هي في أمسّ الحاجة للتركيز في محيطها اللاهب في كل من سوريا والعراق على وقع المتغيرات الإقليمية والدولية.