لطالما كان الفيلم مجازًا فضفاضًا؛ مايكل هو أمريكا
فرانسيس فورد كوبولا

بدأ الأمر كله باحتفال عائلي، يمكن دراسة العائلة بشكل واضح من خلال حفل، تجمع لأفراد العائلة نراقبه كدخلاء، نرى رأس العائلة والأبناء ومدى القرب بين كل فرد، من يصل أولاً من يصل أخيرًا؟ من يجلس بجانب من؟ كيف يتم التقاط الصور؟ أصبحت جملة «أين مايكل، لن نلتقط الصورة بدون مايكل» أحد أيقونات الثقافة الشعبية، يقولها الدون فيتو كورليوني أثناء التقاط صورة عائلية في زفاف ابنته في تتابع البداية من فيلم «الأب الروحي – The Godfather» عام 1972، نعرف منها أن مايكل يملك قيمة خاصة بالنسبة لأبيه حتى على الرغم من تركه عمل العائلة الضخم والتحاقه بالجيش لكي يظهر كبطل بدلاً من جزء من واحدة من أكبر المؤسسات الإجرامية في البلاد.

في الحلقة الأولى من مسلسل «خلافة – Succession» نرى العائلة مجتمعة في حفل عيد ميلاد الأب لوجان روي رجل الأعمال الذي يملك عدة مؤسسات ضخمة منها شبكة قنوات إخبارية، مثل الأب الروحي ينتظر الأبناء أن تنتقل السلطة إليهم، نرى المسلسل في البداية من وجهة نظر شخصية كيندال، نتوقع أنه هو المفضل لأبيه وهو الوريث المؤكد لتلك التركة العملاقة، كيندال وعلى عكس مايكل لا يحاول أن يحفر طريقًا جديدًا لنفسه فيقع في شرك أبيه في النهاية بل يعلم من البداية أنه هو المختار وأن تلك هي حياته، يبحث عنها ويعمل من أجلها حتى يتضح له أن ذلك غير صحيح وأن أسطورة الابن المفضل التي توقعناها بعد عقود من مشاهدة الأب الروحي ليست حقيقية في ذلك العالم المعاصر.

الصوت والصورة

مسلسل Succession لصانعه «جيسي أرمسترونج» هو أحد أنجح الأعمال التلفزيونية في السنوات الأخيرة، بسبب الدراما الشيقة التي يقدمها وبسبب دمجه السلس بين الكوميديا والتراجيديا حتى يصعب التفريق بينهما، يتم مقارنته بالعديد من المنتجات الثقافية قديمًا وحديثًا على الرغم من تفرده الواضح، فيقال إنه مستوحى من الملك لير لشكسبير بسبب لعبة مفاضلة الأب بين أبنائه وسباقهم ليكسبوا وده وأمواله، ويتم مقارنته كذلك بالأب الروحي بسبب تيمة انتقال السلطة والابن المفضل والدراسة العميقة لطبيعة الرأسمالية الأمريكية واختلاط ما هو عائلي بما هو عملي.

يتم توصيف Succession «بالشكسبيري» نظرًا لاعتماده الكبير على الحوار ربما حتى أكثر من الصورة، فالشخصيات في حالة حوار دائم، ويمكن بسهولة اختيار اقتباسات مضحكة وذكية على ألسنة تلك الشخصيات، فالعمل يستخدم اللغة لكي يكشف عن دواخل شخصياته ولكي يخفيها كذلك، فالجميع مشترك في تلاعبات لفظية لا تنتهي، لا يقول أحد أبدًا ما يعنيه ولا يعني أحد ما يقوله.

عشاء عائلي في the godfather
عشاء عائلي في succession

يمكن رؤية استخدام مشابه للغة في الأب الروحي، فمعظم المقولات الخالدة التي أصبحت علامات في الثقافة الشعبية العالمية تملك معاني غير حرفية، «سأعرض عليه عرضًا لا يمكن رفضه»، «ينام مع الأسماك»، «اترك المسدس خذ الكانولي»؛ كل تلك الاقتباسات لا تعني ما تعنيه لغويًا ويساهم ذلك الغموض والتلاعب في إرساء التيمات الأساسية للقصة، لكن مع ذلك فإن الأب الروحي عمل سينمائي بصري بالدرجة الأولى تلعب فيه الصورة المحرك الرئيسي للسرد، فيه تتخفى الشخصيات وراء الظلال الداكنة ويتواجد الجميع في أجواء باروكية درامية تصنع من كل إطار صورة محكمة التصميم ودقيقة الإضاءة وتوزيع الألوان.

يترك فرانسيس فورد كوبولا ومصوره الملهم جوردون ويليس لشخصياته مهربًا في الظلام ويؤطر تطورهم بمقدار الإضاءة التي تقع على وجوههم لكنه لا يعلن عن نفسه أبدًا فلا نشعر في أي لحظة أننا نشاهد فيلمًا على الرغم من الطبيعة الفنية في تناول الصورة.

يقدم لنا Succession خيارات بصرية مختلفة ونسخة معاصرة من عالم الأسرة المالكة للأعمال الكبرى، فنحن هنا أمام عمل شرعي على الرغم من كم الانحرافات الأخلاقية الواقعة داخله، لكنه في النور تمامًا، لذلك نادرًا ما تجد الشخصيات ظلاً تحتمي خلفه، فليس هناك ثنائيات بين واجهة التجارة والحقيقة الكامنة خلفها، المنازل والشركات ذات واجهات زجاجية وكل ما يحدث يحدث على الملأ بل ويرى في التلفاز، وعلى عكس أسلوب الأب الروحي الواقعي الرومانسي في تصوير شخصياته بكاميرات ثابتة فإن الكاميرا في Succession تعمل كشخصية ظاهرة في العمل مما يذكرنا بأننا نشاهد شيئًا مصنوعًا لكي نشاهده لكنه على قدر كبير من الواقعية والتلقائية، تقترب الكاميرا فجأة وتبتعد فجأة وتتجول بين أفراد العائلة بحرية فتصبح وكأنها مشاهد خفي يمثلنا ويتعدى على خصوصية هؤلاء القابعين خلف الشاشة.

العائلة والعمل

ذلك التضاد بين العمل الشرعي وغير الشرعي هو ما يجعل Succession نسخة مناسبة لعصرنا من الأب الروحي، إذا كان مايكل كورليوني على حسب قول كوبولا مجازًا لأمريكا في الأربعينيات وحتى التسعينيات فإن عائلة روي يمكن أن تلخص أمريكا الآن، كلاً من فيتو كورليوني (مارلون براندو/روبرت دينيرو) ولوجان روي (بريان كوكس) مهاجران صنعا حياة جديدة وأسماء لأنفسهما في أرض الفرص والأحلام، كلاً منهما ولد في فقر وصعوبات لم يتعرض لها أطفاله، لا يخصص المسلسل مساحة لحياة لوجان لكنه يشير إليها في عدة مناسبات فهو ليس أمريكي الأصل بل أسكتلندي ويرجح أنه هاجر في سن صغيرة نظرًا للفقر واندلاع الحرب، أما فيتو فنحن نرى حياته من بدايتها في الجزء الثاني من الأب الروحي، طفولته وهجرته إلى أمريكا ورحلته في صناعة الثروة والأحلام، كلا الرجلين مهد الطريق لأولاده ماديًا لكنهما لم يفكرا في أن ذلك سيكون سبب تعاسة وتشوهات نفسية يصعب علاجها.

يقع Succession في عالم ما بعد الرأسمالية التي أرساها الأب الروحي، لا يخفى علينا الآن هشاشة العلاقات الأسرية، إذا كان عمل الأسرة هو مجاز لتوغل الرأسمالية في أمريكا والعالم في الأب الروحي فإن Succession يقع في عالم بلا مجاز، هنا الأشياء كما تبدو عليه، لا يوجد ما يتم إخفاؤه الآن، العلاقات الأسرية تعتمد فقط على المصالح الخاصة التي تصب في خدمة مصالح عامة، لا يوجد دفء أو إضاءة جمالية تؤطر المشاعر الأسرية الدافئة، لا نرى حبًا حقيقيًا من لوجان تجاه أبنائه مثلما رأينا حب فيتو لأبنائه، لا يظهر لوجان أي مشاعر تجاههم إلا إذا اضطر إلى فعل ذلك لتحقيق غاية ما تخدم مؤسسته الضخمة.

في مقاله عن الجزء الثاني من الأب الروحي (1) يتأمل جون هيس كيف تتعارض القيم البرجوازية، من قوة وجمال ودفء العائلة مع المصالح الرأسمالية وكيف يجتمع الاثنان معًا، حسب كلام هيس يصور الأب الروحي التضاد بين القيم البرجوازية التي تعد بها الرأسمالية مثل الروابط العائلية، الترقي الطبقي، السعي نحو الأمان، الرفقة الذكورية، الدين والفردانية، وكيف يدمرها ويفسدها العمل التجاري (business)، يمكن بسهولة تطبيق الأفكار ذاتها على Succession. لكنه يأخذ ذلك إلى أقصى حدوده، في حين أن فيتو أحب أولاده حتى وإن فرق بينهم وامتلك النية الحقيقية في تسليمهم مهام عمله وثرواته فإن لوجان روي يكره كون أولاده لم يعذبوا مثله، يحتقر تربيتهم في الثروة والراحة ويريد تعذيبهم بسبب سلوكهم الاستحقاقي، يموت فيتو كورليوني تاركًا إرث العائلة لابنه مايكل في إشارة للتقدم وترك المساحة للشباب لتولي زمام الأمور، يتعامل مايكل مع السلطة والقوة المتشعبة لعائلته بشكل أكثر عصرية لكنه أكثر عنفًا وتطرفًا ويهدم كل ما آمن به والده.

من المؤكد أن لوجان روي سوف يموت في يوم من الأيام، لكن ذلك اليوم لم يأتِ بعد، فهو متمسك بمكتسباته بكل ما أوتي من قوة، يظل مسيطرًا حتى في أكثر لحظاته ضعفًا، يمثل لوجان روي وجه أمريكا العجوز الذي لا يموت حتى بعد موته، بقيمه البيضاء الرجعية وإصراره على قداسة ما يفعله، أولاده ليسوا أفضل منه حالاً لكنهم على الأقل يملكون فكرة عما أصبح عليه المجتمع الذي يتعاطون معه.

يقدم Succession صورة قاتمة لمجتمع لا يتقدم بل يوهم نفسه بالتقدم، ويطرح الأشياء كما هي دون تجميل أو أمل يمكن التمسك به، يقع كل ذلك في إطار السرديات الكبرى فيما يخص الأب الروحي و Succession، لكن ماذا عن الحكايات الشخصية الأكثر حميمية؟

الصعود والانهيار

لطالما عرف الأب الروحي بكونه فيلمًا عن العائلة وروابط الدم، يقدم Succession نسخته من ذلك، بينما يبدأ مايكل ضعيفًا ويصعد إلى ذروة قوته على مدار الثلاثية حتى ينهار كل ما عمل من أجله في النهاية فإن كيندال يبدأ قويًا واثقًا لكنه لا يملك رحلة خطية للصعود والهبوط بل يقع دائمًا في دوامة مستمرة من الصعود والهبوط ويصعب توقع ما سوف يحدث له في أي لحظة قادمة، نراه في البداية وريثًا مثله مثل مايكل، ابن مفضل ومختار، يبدأ العمل بإخبارنا ذلك فنتأهب لمشاهدة دراما من هذا النوع على غرار الأب الروحي أو الدرامات الملكية التي تتناول توريث الحكم، ننتظر أن يكون كيندال هو بطلنا الذي سوف نتابع قصة صعوده للسلطة وربما انهياره لكن العمل يقلب كل تلك التوقعات حينما يغير لوجان روي رأيه فجأة، في Succession لا يوجد شيء أكيد سواء في قرارات الشخصيات أو في طبيعة نوع العمل وطريقة سيره.

آل باتشينو في دور مايكل كورليوني في the godfather
آل باتشينو في دور مايكل كورليوني في the godfather

كل من مايكل وكيندال يعاني وحدة عميقة، وحدة امتلاك القوة، لكن مايكل امتلكها بالفعل فخسر كل شيء وفقد القدرة على تلقي الحب أو إعطائه، كما أنه في تهديد دائم من خيانات إخوانه فلا يوجد مساحة للثقة أو الشعور بالأمان والدفء المرتبط بالأسرة على الرغم من المظهر المترابط لتلك الأسرة، ينطبق الوصف ذاته على كيندال، الذي لم يمتلك القدرة بل هو في سعي مستمر لامتلاكها، يواجه نفس التهديد بالخيانة والصراعات الداخلية بينه وبين إخوته إلا أنه يبحث عن محبتهم وقربهم حتى عندما ينقلب عليهم وينقلبون عليه مرارًا، يمكن اقتباس مقال هيس ثانية في وصفه لهشاشة العلاقات خاصة بين الرجال حتى لو كانوا أعضاء أسرة واحدة أو إخوة، يقول هيس إن المشاهد الحميمية التي تجمع مايكل مع إخوته على الرغم من صدقه فيها إلا أنه ينقلب عليهم في لحظة، ذلك لأن المنافسة الرأسمالية تحد من إمكانية أي قرب بين رجل وآخر.

جيرمي سترونج في دور كيندال روي في succession

تتراجع مخططات القتل الخفية التي تميز عالم عصابات الأب الروحي ويتم استبدالها بقتل اجتماعي على الهواء مباشرة، نتذكر جميعنا كيف خان فريدو مايكل وكيف خطط مايكل للانتقام، تتم الخيانات علمًا في Succession ويكون الانتقام بفضح الأسرار على التلفزيون أو بالتوحد مع الأب ضد الإخوة، يصارع كل من كيندال ومايكل العالم من أجل البقاء لكن الصراع الأكثر قسوة يكمن في انعدام القدرة على تكوين علاقات حقيقية بينهما وبين من حولهما، يبحث كل منهما على تأمين السلطة وتأمين الشعور بالحب كذلك لكن لا يجنيان غير الوحدة.

أورث فيتو كورليوني ابنه القوة بينما أورث لوجان روي أولاده الضعف خاصة كيندال الذي تتضخم لديه كل الصفات المصاحبة للعيش في أسرة تملك كل تلك الثروة والسلطة، يتجلى ذلك المزج بين الهشاشة والقوة المفرطة في الأداءات التمثيلية لكل من آل باتشينو في دور مايكل وجيرمي سترونج في دور كيندال، يظهر الاثنان مساحة لا نهائية من التقلبات والمشاعر، لكن في حالة آل باتشينو فإن تطور تلك الانفعالات يسير بشكل تصاعدي مثل مسار القصة، تظهر عيناه قلقًا وإقبالاً وأملاً في البداية ثم تأخذ حدة نظراتها في التزايد عندما يتورط في عمل العائلة، نادرًا ما تتحرك عضلات وجهه لكن عندما ينفعل يطلق العنان لكل شيء، لوجهه وعينيه وجسده، وعندما تستنفد طاقته فإن عينيه تصبحان فارغتين تمامًا وكأنه مسلوب الروح بخسارته كل ما عمل من أجله، يعتبر الكثيرون أداء آل باتشينو لمايكل كورليوني واحدًا من أعظم الأداءات التمثيلية في السينما عبر تاريخها، فنحن نرى كيف يتغير رجل أمامنا في كل خطوة دون الكثير من الكشف الحوار فقط عبر تبدل نظرته ولغة جسده وكيف يظهر في حياته العامة ويتخفى في حياته الخاصة.

إذا كان من الممكن وضع مقابل في جودة الأداءات التمثيلية لكن في وسيط الدراما التلفزيونية أو المسلسلات فيمكن أن يكون أداء جيرمي سترونج لشخصية كيندال واحدًا من الأفضل في السنوات الأخيرة، ما يجعل أداء سترونج متفردًا هو التحولات المتعددة التي لا تسير في خط مستقيم، تتبدل شخصية كيندال في الحلقة الواحدة أكثر من مرة، يبدأ الموسم وينهيه كأنه شخص آخر، تتراوح شخصيته بين الثقة المفرطة شبه الإلهية وكأن لا شيء يوقفه إلى انطفاء كامل يتحول فيه إلى طفل لا يملك أي أهلية على حياته أو ذاته، يلعب سترونج تلك التغيرات بسلاسة مؤلمة تضعنا معه في دوامة المشاعر تلك، تتحدى كتابة شخصية كيندال مسار الصعود والهبوط المتوقع وهذا ما يجعل التعاطف معه أو عدمه مهمة صعبة، مثل آل باتشينو تتركز قوة أداء سترونج في عينيه التي يغشاها ذلك الانطفاء على مدار الحلقات حتى عندما تنتابه نوبات الأدرينالين الزائد والرغبة في تغيير العالم، يتحرك بهيستيرية ويتكلم سريعًا لكن لا شيء يغير تلك النظرة الطفولية الخاوية التي تعلو وجهه، لذلك عندما يتعرض لسطوة أبيه التي لا فكاك منها يستطيع بكل طبيعية أن يعود طفلاً يتعرض للعقاب مجددًا.

يتذكر مايكل أباه بحب، يتساءل عما عاناه لكي يحافظ على عائلته في ظل البحث عن القوة المادية والسلطة التي لا يكتفى منها، لكن كيندال يواجه صراعًا مباشرًا مع والده، ينتصر فيه حينًا ويهزم أحيانًا أكثر، لكن ما يهزمه ليس خسارته في خلافة ذلك الكيان الضخم بل حاجته إلى ذلك الكيان ليس ماديًا أو كوسيلة لكسب السلطة بل كطفل لم ينعم بالحب أبدًا، يحطم Succession بهدوء وذكاء أسطورة الابن المفضل، ففي ظل التنافس على السلطة لا يوجد مساحة للحب.

المراجع
  1. Godfather II A deal coppola couldn’t refuse