مع بداية الثمانينيات، ومع موجة التحول إلى الديمقراطية التي ضربت العالم عمومًا، ودول أوروبا الشرقية على وجه الخصوص، برزت عدة جماعات ضغط تتبنى أفكارًا وأهدافًا تختلف عن الأفكار التي تسود التقسيم التقليدي للجماعات والأحزاب السياسية بين اليمين واليسار، فهذه الأفكار لم تتناول بالأساس الملكية الخاصة أو دور الدولة في السوق أو حتى نظام الحكم، بل تركزت حول قضايا جديدة نسبيًا مثل حقوق ووضعية «المهمشين» مثل المرأة والأقليات، إضافة إلى قضية الأرض والقضايا البيئية فيما عرف ضمنًا بالسياسات الخضراء.

تنطلق السياسات الخضراء من نقطة اختلاف رئيسية مع الأيديولوجيات التقليدية، حيث تعتبر أن الارض والأجناس المتنوعة من الحياة هي المحور والأساس، بينما ينصب اهتمام الأيديولوجيات التقليدية على «الإنسان»، وهو ما أسماه منظرو الخضر «عجرفة المذهب الإنساني»، حيث يهتم الفكر الأخضر بدعم السياسات المحافظة على البيئة، نبذ العنف، ودعم العدالة الاجتماعية.

بالتأكيد تقع فكرة حماية البيئة في قلب برامج الأحزاب الخضراء، حيث تسعى هذه الأحزاب إلى تحجيم استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية لما لها من آثار سلبية على البيئة، كما تسعى إلى تغليظ الضرائب المفروضة على الصناعات الملوثة للبيئة والمنتجة للكربون، ودعم عملية البحث العلمي للتقليل من هذه الآثار وتبني سياسات الطاقة النظيفة والمتجددة.

إلى جانب اهتمام هذه الأحزاب بالبيئة وسياسات الطاقة، فإن لدعم الأقليات مكانًا ليس بالهيّن في خطابها السياسي، كما تبنّت العديد من هذه الأحزاب أفكار الجماعات النسوية ووضعتها على برامجها وسعت لدعمها، ثم يأتي خطاب العدالة الاجتماعية ليبرز ويبرّر وضع هذه الأحزاب على قائمة اليسار.

تتميز الأحزاب الخضراء ببنية تنظيمية مختلفة عن تلك المعتادة في الأحزاب السياسية؛ فغالبية الأحزاب الخضراء ليس لها رئيس حزب بالمعنى التقليدي، يغني عن ذلك المتحدث الرسمي للحزب. أما عملية صنع القرار فتقع بالأساس في أيدي الهيئة العليا للحزب الأخضر.

إذا ما حاولنا رصد موقع الأحزاب الخضراء على التصنيف الأيديولوجي التقليدي (يمين، يمين وسط، يسار وسط، يسار)، سنجدها تقع في خانة يسار الوسط؛ إلا أن هناك العديد من الأحزاب اليمينية التي تتبنى بعض سياسات الأحزاب الخضراء، إما من باب الاقتناع بهذه الأفكار، أو من باب محاولة جذب المزيد من المؤيدين للحزب بسياسات تبدو عصرية ومثالية.


البدايات الحزبية

تعد جماعة «كوبتروس» الهولندية هي أولى الجماعات التي تتبنى «الأفكار الخضراء»، تمكنت الجماعة من الحصول على 5 مقاعد من إجمالي 45 مقعدًا بالمجلس المحلي الخاص بمدينة أمستردام، إلى جانب مقعدين في المجالس المحلية لمدن هوج، لويردن، الكمار وليدن بانتخابات عام 1970، لكن هذه الجماعة كانت أقرب إلى «جماعة ضغط» منها إلى «حزب سياسي».

أما على الصعيد الحزبي، فيعتبر حزب تسمانيا المتحد بأستراليا هو أول الأحزاب الخضراء بالمعنى الدقيق لكلمة حزب. تأسس الحزب في 23 مارس 1972، وحصل على 3.9% من إجمالي أصوات الناخبين بأستراليا في أول انتخابات يخوضها.


أهم الأحزاب الخضراء

1. حزب الخضر الألماني/التحالف 90

نتج هذا الحزب أيضًا عن تحالف حزب الخضر مع مجموعة ضغط مهتمة بشئون البيئة تسمي نفسها التحالف 90 عام 1993. ساهم حزب الخضر في الحكومة الائتلافية مع الديمقراطيين الاجتماعية من 1998 إلى 2002، وواجهتهم مشكلة الحرب في كوسفو والتي أدت إلى استقالة عدد من أعضاء الحزب احتجاجًا على مشاركة القوات الألمانية في الحرب، لكنهم تمكنوا من تحقيق نجاح تمثل في تبني الحكومة لخطة لتقليل الاعتماد على الطاقة النووية. شاركوا أيضًا في الحكومة الائتلافية من 2002 إلى 2005. حاز الحزب على 63 مقعدًا في البرلمان الألماني (البوندستاج) في 2013، كما حاز على 11 مقعدًا في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2014.

2. حزب الخضر النمساوي

تأسس الحزب عام 1982، ويعد أنجح أحزاب الخضر في أوروبا وأسبقهم للوصول لمقاعد السلطة، حيث نال في أول انتخابات يخوضها 4.82% من إجمالي الأصوات، ثم ارتفعت تلك النسبة إلى ما يقارب 10% في الانتخابات التي تليها. كما أن مرشح الحزب لرئاسة النمسا فان دير بيلين كسب الانتخابات الرئاسية أمام مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف نوربرت هوفر، إلا أن المحكمة العليا أصدرت قرارها بإعادة الانتخابات. يتميز خطاب هذا الحزب بالتركيز على دعم الأقليات، هذا إلى جانب اهتمامات الخطاب التقليدي للأحزاب الخضراء.

3. حزب البيئة/الخضر الفرنسي

بعد الانتخابات المحلية الفرنسية في 2008، قرر كل من جماعة البيئة الفرنسية، وحزب الخضر الفرنسي، أن يندمجا معًا رغبة في تحقيق مزيد من الثقل السياسي للأفكار البيئية الخضراء، وقد تحقق هذا الاندماج بالفعل عام 2010. حصل الحزب على 18 مقعدًا من إجمالي 577 مقعدًا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بفرنسا عام 2012.

4. حزب الخضر السويدي

تأسس الحزب عام 1981، جاء ذلك عقب إثارة موضوع استخدام الطاقة النووي للأغراض السلمية، حيث حاول الخضر تقليص هذا الاستخدام وجعله في الحد الأدنى؛ لما له من تأثير وأضرار سلبية على البيئة. يعد مفهوم «التضامن» هو العنصر الأساسي في خطاب الحزب سواء كان ذلك مع البيئة والنظام الطبيعي أو مع الشعوب. حاز الحزب على 6.9% من إجمالي الأصوات في الانتخابات التشريعية العامة عام 2014 باجمالي 25 مقعدًا، كما حل ثانيًا على الصعيد الوطني في انتخابات البرلمان الأوروبي بإجمالي 4 مقاعد.


مستقبل الأحزاب الخضراء

ربما يكون لدى الأحزاب الخضراء فرصة كبيرة في النمو والتقدم وحصد المزيد من المقاعد في الفترة القادمة مع التزايد المطرد في أعداد المتعلمين والمثقفين وانتشار الأفكار الحداثية؛ كما أن الأفكار الخضراء المتعلقة بالعدالة الاجتماعية تبدو جاذبة أكثر لمعتنقي الفكر اليساري عن اليسار التقليدي الذي لم يستطع بعد التطوير من أفكاره لتتلاءم مع ما يواجهه العالم من تحديات.

فالفكر الأخضر لا يؤمن بالملكية العامة لوسائل الإنتاج في حين يدعو لتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك عن طريق مزيد من التشريعات التي تحد من الثراء الفاحش وتدعم الأوضاع المعيشية للأقل دخلًا. نضيف إلى ذلك أن ما يواجهه العالم اليوم من تحديات بيئية ومناخية على رأسها قضية التغير المناخي والأخطار التي تهدد كوكب الأرض من جراء الاستخدام المسرف والمهلك للموارد، تجعل الفكر الأخضر جاذبًا.

إلا أنه وفي الفترة الحالية ومع الصعود الجارف لليمين المتطرف في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وذلك في ضوء التحديات الآنية التي تواجه الأوروبيين، فيكفي الأحزاب الخضراء أن تحافظ على نسبتها ومقاعدها في المجالس التشريعية والمحلية، أما تحقيق انتصار كبير على غرار فوز المرشح الأخضر بالرئاسة النمساوية فإنه بالتأكيد سيكون أمرًا خارقًا.