الجنون المُطلق هو الوصف الوحيد الذي يمكن أن نصف به أفلام المخرج الهوليودي «كوينتن تارانتينو»، لكن وسط عوالم أفلامه الملطخة بالدماء والموسيقى المجنونة؛ تبقى روحه السينمائية المجنونة محلقة في آفاق من المتعة التي لا يعرفها سوى مجانين «ترانتينو» حول العالم.

عندما يسألني الناس «هل ذهبت لمعاهد تدريس السينما» أقول لهم لا: ذهبت للسينما نفسها!

عندما يسألني الناس «هل ذهبت لمعاهد تدريس السينما» أقول لهم لا: ذهبت للسينما نفسها!

عاد تارنتينو للإخراج بعد توقف دام ست سنوات بفيلمه الأكثر جنونًا kill bill، بعدما ظن الجميع أن إبداع تارنتينو وخلطته السحرية توقفت ولم تعد قادرة على إخراج المزيد، فخلطة تارنتينو بعد الحداثية التي تعتمد على الشخصيات الكاريكاتورية، والأحداث العبثية والتصوير الغريب غير المتزن ومشاهد العنف الخطيرة التي تعمل معها موسيقى فرحة، والتقليل من أهمية الحوارات بين البشر حتى في الأحداث المصيرية، كل هذه الأمور جعلت، وما زالت تجعل، أمام تارنتينو في كل فيلم تحدي الفشل وعدم القدرة على تقديم أي جديد بنفس الأسلوب.

ولكن بعد kill bill أصبح تارنتينو محببا بشدة لشركات الإنتاج الكبرى، فهو كالدجاجة التي تبيض ذهبً؛ بلا أبطال مشهورين يجلب أرباح طائلة، ما بالك إذا تم تقديم نجم تجاري مع تارنتينو، ستتحول البيضة الذهبية إلى ماسية.

http://gty.im/161615963

قدم تارنتينو فيلمه Inglourious Basterds مع النجم براد بيت، ثم Django Unchained مع النجوم ليناردو ديكابريو وجيمي فوكس وكيرا واشنطن، فأصبح تارنتينوا بطريقة أو أخرى خاضعا لمعطيات هيليود، وبالتدريج تُقيد انطلاقته في مقابل انطلاقة هيليود في أفلامه، ففيلم جانجو برغم روعة نصه؛ إلا أنه خرج عن تلاعبات تارنتينو المعتادة في السيناريو، فجانجو هو سيناريو مستقيم ذي طريقة تقليدية في سيره مطعّمًا بلمحات تارنتينو وليس العكس.

ربما أدرك تارنتينو ذلك وأنه بطريقة ما تُسيطرقواعد هيليود عليه، فقدم فيلم the hateful eight الذي يرجع فيه تارنتينو لقواعده سالمًا، فلا نجوم مشهورين في فيلمه الجديد باستثناء صامويل جاكسون، وهو يعتبر أيقونة تارنتونية، ولا تتواجد أصعب المعدات والتقنيات الهيليودية لتلميع خلطة تارنتينو،the hateful eight على كل المستويات يعتبر تمردًا على القواعد الهيلودية، فيعتبر تطويرًا لفيلم تارنتينو المستقل «كلاب المستودع»، فكلاهما يدور في أماكن قليلة، وكلاهما يمتاز بالحوارات الطويلة جدا، وقلة النجوم.


القصة

http://gty.im/480424074

يتحدث الفيلم عن عاصفة ثلجية سببت موت حصان صائد المجرمين ماركوس وارين «صامويل جاكسون»، مما اضطره للجوء لأول عربة يقابلها في الطريق، والتي كان بها صائد المجرمين الآخر جون روس «كرت راسل» المشهور بعدم قتل المجرمين وتسليمهم لرجل المشنقة بدلا من ذلك والاستمتاع برؤيتهم يُشنقون، وكان معه في العربة المجرمة ديزي دوميرجي «جينفر جيسون لي» التي يجب تسلميها في البلدة المقبلة، وافق جون روس على أخذ ماركوس وارين، فهو برغم كونه أسودًا ولكن له تاريخا قتاليا طويلا بالإضافة لأنه صديق لأبراهام لينكلون ومعه خطاب أرسله لينكلون له. وفي الطريق يقابلون الشريف كريس منكس «والتن جوجنيس» المعين حديثًا، يذهبون ليجدوا منزلًا معدًا لاستقبال الغرباء، وهناك يجدون باقي شخصيات الفيلم، حيث تدور بينهم محادثة طويلة إلى أن يحدث شيء ما يغير من مسار القصة كلها ويكشف عن حكاية أخرى.


عبثية مُحْكمة

يبدأ الفيلم برمزية تمثال المسيح المصلوب وهو يسيطر على المشهد العاصف، لم يظهر هذا التمثال إلا في ثانية أخرى في النصف الثاني من الفيلم، فكأن تارنتينو يُلمح بالشر والخطايا التي سنراها في الفيلم، خطايا لا نستطيع تكفيرها ولذلك صلب المسيح ليغفرها، رمزية دينية ممتازة مُستغلة من التراث المسيحي في تعبيرها عن رؤية تارنتينو للتركيبة الأمريكية.

لعل أبرز ما هو مميز في كتابة الفيلم الحوارات، فحوارات تارنتينو كما اعتدنا طويلة جدا ومليئة بالكوميديا، وأضاف إليها هذا العام الجوانب السياسية الأوضح نسبيا من أفلامه السابقة، فماركوس وارين لديه خطاب من لينكلون نكتشف مع مرور الوقت أنه خطاب مزيف من ماركوس، فتبرير ماركوس يبين أن السود برغم أخذهم لحريتهم قانونًا؛ لا يزال المجتمع يضطهدهم «المجتمع الأبيض»، يحتاج كل أسود لوساطة ما ليظل غير مضطهد، يحتاج لتزيف خطاب من لينكلون الذي خطب بقيم الحرية التي لاىزال المجتمع غير مؤمن بها، وما زال يتعامل مع السود كأنهم من الحيوانات.

كذلك تحدث الفيلم بوضوح عن العدالة ومفهومها وحكم الإعدام، ولعل أفضل ما في هذه الحوارات أنها قُدمت بأسلوب تارنتينو وأحجيته، حيث تحدث موبراي «تيم روث» عن الفرق بين العدالة والهمجية وأن الشغف هو الذي يفرق بين العدالة والهمجية، فهو كمنفذ قانوني للشنق لا يفرق معه من يُشنق، أو هل سيتم العفو عنه أم لا، وهذا ما يصنع مفهوم العدالة، وعن حكم الإعدام قام تارنتينو بواحدة من أعظم أحجياته النصية شديدة التركيب، فعندما اتفق الجميع على وضوح حكم الإعدام قام ماركوس بعمل شديد التعقيد ليضعهم في مأزق شديد حول حكم الإعدام، هذا المشهد الذي جعل الفيلم في أعلى لحظاته المثيرة وتنتظر تفجر الأوضاع بسبب تصرف ماركوس وارين، يباغتك تارنتينو بالاستغناء عن نقطة الإثارة هذه ونقلك لنقطة إثارة أخرى لم تكن تعرفها، تخلى عن لحظته التي صنعها من أجل لحظة أخرى في جيب الساحر تارنتينو.

The hateful eight فيلم يرمز للمجتمع الأمريكي باختلافاته ومكوناته المتنافرة، لعل تارنتينو في أغلب أفلامه ينتقد المجتمع الأمريكي وقيمه المدعية بأسلوبه الساخر والكاريكاتيري، ولكنه في هذا الفيلم كأنه يريد النقد الكامل وليس الجزئي لمجتمع قائم على أفكار زائفة، كاره لبعضه البعض، قليل الثقافة والتحضر، تحكمه قيم زائفة، وعندما تحين الفرصة تنكشف أصول هذا المجتمع.

كعادة تارنتينو وكخط عريض لم يتخلَّ عنه تارنتينو أبدا كمخرج ما بعد حداثي، يعتمد السيناريو هذه المرة على العبث الكامل، يعيد تارنتينو عبثية pulp fiction الذي كان العبث هو أساس بناء القصة، مرة أخرى في the hateful eight حيث ما تم تدبيره من قِبل أفراد العصابة، دخل عليه عنصر مفاجئ آخر ليتحكم في مصير هذا التدبير، وهذا العنصر المفاجئ دخل بدون إرادته، فالمتحكم الرئيسي هو العاصفة الثلجية التي تحكمت في الأحداث وتصاعدها، لحظة عبثية بامتياز حيث لا يملك أكثر الأشرار والقتلة من أمرهم شيئًا.


تارنتينو وعنف الصورة

http://gty.im/461267752

نشرت الحياة اللندنية مقالا للكاتب جوناثن نوسيتر يتحدث فيه عن طريقة إخراج داعش المابعد حداثية التي قال عنها الكاتب أنها مطابقة مع طريقة تارنتينو الإخراجية، حيث الإخراج بطريقة أفلام الغرب الأمريكي والخلفية الجميلة للأماكن والموسيقي الفرحة المبهجة، وفي آخر الأمر يكون كل هذا المشهد معدا كمسرح إعدام بطرق مختلفة وبشعة.

ما قاله الكاتب يحسب لتارنتينو الذي أخلص في فهم العنف البشري، والأعظم في تارنتينو أنه لم يقدم هذه الصورة عن المجتمعات العربية بل المجتمعات المتحضرة، خصوصا في فيلميه الأخيرين ركز على المجتمع الأمريكي، ليس المجتمع الأمريكي الذي يُنشر عنه في الإعلام كقائد للحضارة والحرية، أو حتى أمريكا العصابات والأحياء الفقيرة، بل أمريكا الداعشية التي لا يفرقها عن داعش سوى ورقة زائفة من الحضارة، أعد تارنتينو المسرح العبثي للمجتمع الأمريكي في فيلمه الجديد، حيث ينتشر القتل ما بينهم في صورة قتل بالرصاص والشنق وتفجير الرأس والتقييد بلا طعام حتى الموت.

يعيب فيلم تارنتينو فقط عدم قوة التمثيل كآخر فيلمين له، فاستخدامه لنجوم مجهولين، وطبيعة الشخصيات نفسها التي لا تسمح بمساحات واسعة من الإبداع؛ كالشخصيات التي أداها كرستوفر فالز في فيلميه السابقين أو شخصية ليناردو ديكابريو في جانجو، ومع ذلك أدت الممثلة المجهولة جنيفر جاسن لي شخصيتها بمنتهى الإبداع والكاركتيرية والشر، ولم تخلُ من نظرات أنثوية في لحظات، مزيج مجنون كأغلب شخصيات تارنتينو أدته لي ببراعة استحقت عليه الترشيح لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة.

في النهاية يمكن القول أن the hateful eight ليس أقوى أعمال تارنتينو ولكنه يتميز عن جانجو و«Inglourious Basterds » بأنه ابن تارنتينو المتحدي لهيليود بشكل خالص، القادر على تقديم السحر بأقل عدد من الأماكن والمشاهد والشخصيات، القادر على تقديم بُعد مابعد حداثي في الصورة والنص سواء اختلفت معه أو اتفقت ولكن يقدمه بإخلاص شديد وبتضاد شديد مع القيم الأمريكية الزائفة، تارنتينو خارج عن الأوهام الأمريكية وهذا ما يميزه، بل ويمتلك نظرة تشاؤمية يجعله يصف هذا المجتمع بأنه مؤهل من أصوله ونشأته وتكوينه للفوضي. أما إذا لم تفهم سينما تارنتينو الفلسفية فبإمكانك الاستمتاع بكمية الجنون المقدمة والموسيقى والشخصيات الكوميدية.