إن لم يكن من علامة بارزة لعقد التسعينيات الجاف فهي بكل تأكيد المسلسل الكوميدي «Friends».المسلسل الكوميدي الأشهر على مستوى العالم، حقق مستويات من النجاح أعجزت الكثيرين عن مجاراتها أو حتى الاقتراب منها. اقترن بوعي ومشاعر أجيال كاملة ما يربو على العقدين من الزمان. المسلسل الذي يتبارى عشاقه بعدد مرات مشاهدته بتجاوزها الرقم العشري.الكثير من الأعمال التالية مثل «New Girl»، و«Girls» سارت على نفس الدرب وحاولت الاقتباس أو الاختلاس من ذلك النجاح منقطع النظير، إلا أن الاقتراب من هذه التجربة المتوهجة لم يزد هذه الأعمال إلا احتراقا. وحده مسلسل «HIMYM» استطاع أن يقتبس من نور «Friends»، ويقدم تجربته الفريدة شديدة التميز. في هذا التقرير نتناول تجربتين من أهم التجارب التي حاولت تتبع Friends واقتفاء أثر نجاحه الكبير، ولكن لنتحدث أولا عن هذا النجاح.


Friends: الجوانب الإنسانية تتحدى الحدود الثقافية واللغوية

الكثير من النظريات وضعت لتفسير السر في هذا النجاح منقطع المثيل لمسلسل Friends، فهو لم يكن أكثر من مسلسل كوميدي اجتماعي تدور جميع أحداثه في إطار «نمط الحياة» الأمريكية، فما الذي يميز مسلسلًا كهذا إلى الحد الذي يجعله يجوب أنحاء الكرة الأرضية وتتم دبلجته لأكثر من 40 لغة؟ ويصل أجر أبطاله الستة في موسمه التاسع إلى مليون دولار في الحلقة الواحدة، في حين أنهم بدأوا المسلسل بأجر لا يتجاوز 22 ألفًا؟على الرغم من كثرة هذه النظريات إلا أن عشاقه يفضلون أن يعتقدوا أن هناك بعدًا إنسانيًا يتجاوز كل الحدود الثقافية واللغوية في هذا العمل الدرامي ويضفي عليه هالة ساحرة جاذبة للأرواح الخفيفة المحبة للحياة.ربما كانت الحبكة الأصلية هي أهم ما ميز مسلسل Friends، ستة من الأصدقاء يعيشون في مدينة نيويورك وفي المكان نفسه تقريبا، يقضون الكثير من الوقت بمقهًى أسفل العمارة التي يسكنون بها، يتقاسمون الأفراح والأتراح، وشيئًا فشيئًا تتطور علاقتهم من الصداقة إلى القرابة فيصيرون وكأنهم عائلة واحدة. وهي الحبكة نفسها التي اعتمدت عليها كل المسلسلات التي سارت على نهج Friends.ولكن الأمر لم يتوقف فقط على الحبكة، فقد كان المسلسل خليطًا رائعًا وساحرًا من عدد من العوامل التي أدت به إلى هذا النجاح، قد يكون أهمها تلك الكيمياء الغريبة بين الممثلين الستة من أول أيام التصوير، فبدا وكأننا نشاهد مجموعة حقيقية من الأصدقاء وليس مجموعة من الممثلين، لدرجة أن الممثلين الستة اتفقوا منذ الموسم الثاني للمسلسل على أن يكون اتفاقهم المالي مع الشركة المنتجة اتفاقًا واحد بحيث لا يتميز أحدهم عن الآخر في الأجر، وهو ما ساروا عليه حتى انتهاء المسلسل. هذه الكيمياء الغريبة صنعت نوعًا من الكاريزما لم تكن لأحد أبطال المسلسل على حدة ولكن للمجموعة ككل.تقول «ليسا كودرو» (قامت بدور فيبي) أن أحب المشاهد إلى قلبها هي تلك التي جمعت الأبطال الستة معا. لا عجب أن أعلى حلقات المسلسل مشاهدة هي تلك التي جمعت أغلب الأبطال بمكان واحد مثل الحلقة الثانية من الموسم الثالث والمعنونة «The One Where No One’s Ready» والتي تدور جميع أحداثها بموقع تصوير واحد هو شقة «مونيكا» و«رايتشل» حيث يستعد الجميع للذهاب لحفل بمتحف التاريخ الطبيعي حيث من المفترض أن يلقي «روس» خطبة في بدايته.حاولت الأعمال المقتبسة من Friends أن تقتبس ليس فقط الحبكة الأساسية ولكن أيضًا بعضًا من هذه العوامل أو كلها، ولكنها لم تنجح في الوصول لهذا الخليط السحري. سنعرض في هذا التقرير لنموذجين من هذه الأعمال ونرى كيف نجح أحدهما دون الآخر.


HIMYM الذي قَبِل التحدي

بدأ عرض مسلسل «HIMYM» أو «كيف قابلت أمكم» في سبتمبر 2005 بعد عام واحد من انتهاء مسلسل Friends. ويحكي عن أب يخبر أولاده قصة تعرفه على أمهم، وتدور أحداثه حول خمسة من الأصدقاء يعيشيون في«نيويورك» ويقضون أغلب الوقت بـ«البار» القابع تحت مسكنهم. على الرغم من أن المسلسل اعتمد على حبكة شديدة الشبه بمسلسل Friends إلا أنه «قبل التحدي» كما اعتاد «بارني» – إحدى شخصيات المسلسل – أن يقول، واستقى أغلب أفكاره من أشهر مفارقات وأفكار مسلسل Friends ولكن بقدر كبير من الحرفية والابتكار.اعتاد صُناع HIMYM أيضًا أن يقتبسوا الكثير من الأفكار من مسلسل Friends ولكن تم اللعب عليها وتقديمها في سياق مختلف لا يقل جمالًا عن سياقها الأصلي، من هذه الأفكار رحلة الأصدقاء في Friends إلى مدينة «لاس فيجاس» التي أوشك فيها «تشاندلر» و«مونيكا» على الزواج ثم أدركوا أنه لم يكن قرارًا صحيحًا في هذه المرحلة. قدم صناع HIMYM نفس الفكرة حيث ذهب الأصدقاء إلى لاس فيجاس وأوشك «مارشال» و«لي لي» على الزواج وربما تزوجوا لمدة دقيقتين ولكن في سياق مغاير تمامًا وممتع أيضا.كذلك تلك المفارقة التي حدث في الموسم العاشر من Friends عندما استعادت «فيبي» صديقها القديم «مايك» ولكنه كان بالفعل على علاقة بفتاة ما، وبعد العودة إلى فيبي قرر الانفصال عن صديقته، ولكن المفارقة أن هذا اليوم الذي قرر فيه الانفصال عنها وافق عيد ميلادها. استعاد صناع HIMYM نفس الفكرة ولكن هذه المرة جلبوا نفس الممثلة «Anne Dudek» التي قامت بدور صديقة مايك لتقوم بنفس الدور مع «تيد» أحد أبطال المسلسل، ولكن هذه المرة قام تيد بالانفصال عنها مرتين ووافقت المرتان يوم ميلادها.كانت الأفكار المبتكرة هي أكثر العناصر تميزًا في مسلسل HIMYM، حيث اعتمد المسلسل على قالب بصري سريع مبني بالأساس على حبكات الـ «Flashback» والـ«Flashforward»، حيث تبدأ الحلقات من نقطة زمنية معينة في المستقبل، غالبًا ما تكون نقطة بداية المسلسل كله حيث الأب يحكي لأولاده، ثم تتناوب عمليات القطع والحركة في الزمن جيئةً وذهابًا لسرد الحكاية. فمثلًا تبدأ إحدى الحلقات بحديث بين «بارني» وأحد أفراد الشرطة بجوار أحد الأنهار حيث يحاول بارني فيه أن يقنع الشرطية أنه لم يقفز في النهر بدافع الانتحار، ثم يبدأ يحكي لها عن الأحداث التي قادته إلى هذه الفعلة، وهنا تقطع الكاميرا وتنتقل بنا إلى أحداث الحلقة التي تنتهي بإلقاء بارني نفسه في النهر لنعود من حيث بدأنا.لم يكتفِ صناع المسلسل بتقنيات الـ «Flashback» وال«ـFlashforward» في الحكي، ولكنهم أيضًا اعتمدوا على طرق جديدة ومبتكرة، ومن ذلك مثلا إحدى الحلقات التي تحكي عن حفلة أقامها «مارشال» و«لي لي» بمنزلهم، فيتم عرض الأحداث مقسمة بين الغرف المختلفة بالمنزل وبواقع خمسة دقائق لكل غرفة، فتبدأ الأحداث مثلا في غرفة الاستقبال حيث هناك الكثير من التفاصيل غير المكتملة وغير المفهومة كأن يمر أحدهم من الغرفة إلى الباب الخارجي مشتعلا بالنيران ولا نعرف من هو، وما ملابسات احتراقه، ثم ينتقل الحكي إلى غرفة الطعام لتتضح بعض التفاصيل دون الأخرى، ونرى أيضا ذلك الغريب الذي يمر مشتعلا في طريقه إلى الخارج، ثم تنتهي الأحداث بغرفة المطبخ حيث تتضح باقي الأحداث ونعرف من هو الشخص المشتعل.على الرغم من النجاح الذي حققه مسلسل HIMYM وخروجه بشكل مميز لاعتماده الدائم على هذا الكم من الأفكار المبتكرة، إلا أنه افتقد هذه الهالة الساحرة التي كانت لـ«Friends»، بافتقاده العديد من العناصر أهمها أداء الممثلين الذي خرج ضعيفًا من أغلب الأبطال باستثناء «Neil Patrick Harris» الذي قام بأداء شخصية «بارني»، إلى الحد الذي ميّزه عنهم في الأجر، فقد وصل أجر «هاريس» إلى 210 ألف دولار في حين كان زملاؤه يتلقون 120 ألفا فقط.


New Girl: الوريث غير الشرعي

عشاق «Friends» يعتقدون أن هناك بعدا إنسانيا يتجاوز كل الحدود الثقافية واللغوية في هذا العمل الدرامي ويضفي عليه هالة ساحرة.

يعتبر مسلسل New Girl من أسوأ التجارب التي نسخت Friends.تدور أحداث المسلسل حول مجموعة من الأصدقاء بدأ بخمسة في موسميه الأولين ثم أضيفت لهم شخصية سادسة بدءًا من الموسم الثالث. اعتمد المسلسل على نفس الحبكة وإن اختلف في بعض التفاصيل السطحية، فاستبدل صناع «الفتاة الجديدة» مدينة نيويورك التي عاش فيها أبطال Friends و HIMYM، بمدينة «لوس أنجلوس». كما أن الحبكة الأساسية تدور حول مجموعة من الأصدقاء يعيشون بالقرب من بعضهم البعض ويقضون جل وقتهم سويًا، ولكن في حين أن «Friends» و«HIMYM» أقام الأصدقاء في ثلاثة أماكن مختلفة، في الفتاة الجديد أقام خمسة منهم في نفس الشقة.عانى مسلسل «الفتاة الجديدة» من التخبط الشديد منذ حلقاته الأولى، فبدأ المسلسل بخمس شخصيات تم استبدال إحداها في الحلقة الثانية من المسلسل، فالممثل «Damon Wayans Jr» الذي لعب دور «كوتش» في الحلقة الأولى تم استبداله بممثل آخر وشخصية أخرى هي شخصية «وينستون» التي أداها الممثل «Lamorne Morris»، والسبب وراء ذلك أن «وايناس» كان مرتبطًا بالتزام مع مسلسل آخر هو «Happy Endings» لكن نظرًا لأن المسلسل كان مهددًا بالتوقف وافق «وايناس» على دوره في مسلسل «الفتاة الجديد»، وبعد استكمال مسلسل «Happy Endings» عاد له مرة أخرى واعتذر عن التزامه الجديد. ولكن المفارقة أن مسلسل «Happy Endings» لم يكتب له النجاح وتوقف بعد ثلاثة مواسم فقط، فعاد «وايناس» مرة أخرى ولعب نفس الدور الذي بدأه في الحلقة الأولى من «الفتاة الجديدة».لم يكن هناك ما يميز مسلسل «الفتاة الجديدة» على الإطلاق، ولكن أهم عناصر ضعفه هو أداء جميع الممثلين الممعن في الركاكة. فبطلة المسلسل «Zooey Deschanel» هي ممثلة معروفة سينمائيًا، اشتهرت بعينيها الزرقاوين الواسعتين، ولها العديد من الأدوار الرئيسية بعدد من الأفلام مثل «500 Days of Summer» مع «Joseph Gordon-Levit»، وفيلم «Yes Man» مع «Jim Carrey»، وهي ممثلة ضعيفة وليس لها حضور يذكر. ومن المفارقات أن «زوي» تمتلك صوتًا جميلا وسبق لها الأداء الغنائي في أعمالها السينمائية والدرامية، كما أنها اشتركت في دويتو غنائي مع مطرب الجاز «Prince» ولكنها لم تتجه إلى الغناء الذي تتقنه أفضل كثيرًا من التمثيل.أما باقي أبطال المسلسل فحدِّث ولا حرج، فهم لا يفتقدون فقط للحضور، ولكنهم يفتقدون لأي حس فني بالتمثيل. وتعتبر المشاهد الجسدية من أبرز علامات ضعف الأداء بالمسلسل، فالمشاهد الجسدية أحد أهم عناصر كوميديا الموقف التي تعتمد عليها الكوميديا الأمريكية بالأساس، فلا أحد ينسي المشاهد الجسدية في Friends، كاصطدام جوي بالباب، أو لطمه لرأسه بعصا البيسبول، فاصطدام أحدهم بالباب لدي خروجه هو أمر مضحك بالفعل، ولكن ذلك يتوقف على كيفية التنفيذ.أما في مسلسل «الفتاة الجديدة» فقد خرجت جميع المشاهد الجسدية بشكل سيء، فالمشاهد يشعر طوال الوقت أن الممثلين قد أعطوا تعليمات جسدية ما لكنهم فشلوا في تنفيذها، وبعد الكثير والكثير من إعادات التصوير استسلم المخرج وقبل بهذه المشاهد الركيكة على أساس أنه لم يكن في الإمكان أبدع مما كان.