أعتقد أن الميلودراما طريقة آمنة للمُعاناة، لأنك تعلم أنها مُعاناة مُزيفة ومسرحية.
لويس نيجرون

يُقصد بالميلودراما ذلك الفرع من الدراما الذي يعتمد على حبكة عاطفية قوية لا تُخاطب العقل بقدر ما تستفز المشاعر، شخوص تلك الحبكة شديدو النمطية، لا يتسمون بثراء الأبعاد وتعقيدها، بل شخصيات ذات بعد واحد مُستدعاة من القوالب النمطية التي نحفظها عن ظهر قلب، هناك الطيب والشرير، القديسة والعاهرة، النبيل والخسيس، تعتمد حبكة الميلودراما على تقلبات عنيفة يتعرض لها البطل النبيل على يد أشرار يتمزق معها سلام عالمه ويكاد يُلامس القاع وما إن يصطدم به حتى يرتد بقوة أخلاقية لينتصر على الشر ويُعيد التوازن لعالمه.

يُفضل قطاع كبير من الجمهور تلك الخلطة الحادة التي تشبه طعامًا شهيًا ثريًا بالتوابل الحارة لأنها تقع حسب وصف السينمائي الإيطالي «لوتشينو فيسكونتي» عند العتبة الفاصلة بين المسرح والحياة، الميلودراما تُمسرح الحياة وتُزيل تعقيدها ودرجاتها الرمادية وتُقدم لنا صراعًا صارخ المُبالغة بين أبيض وأسود، صراعًا يشبه القصص الديني والشعبي حيث نبي مُضطهد لخيريته وأشرار شياطين يُنكلون به.

تبسيط العالم بهذا القدر يضمن للمُتلقي جرعة فنية مُمتعة خالية من التعقيد والتهويم الأخلاقي، وفي الوقت ذاته تضمن الميلودراما نهاية خالية من القلق ينتصر فيها النُبلاء كل مرة لذا هي مُعاناة آمنة، معلومة نهايتها.

تغلب على أعمال الفنان «محمد رمضان» التليفزيونية صبغة الميلودراما، حيث يرتكز ثقل الحكاية كل مرة على بطل نبيل أكبر من الحياة نفسها يُغالب الشر في شخوصه النمطية ومؤامراته الكابوسية وينتصر عليه بنُبله، بعض تلك الأعمال كاد يتماثل في حبكته مع قصص دينية مثل مسلسل «البرنس» 2020 الذي يستعير حبكة الإخوة الأشرار الغيورين من الأخ النبيل المُفضل لأبيه مثل قصة النبي «يوسف» عليه السلام.

تُعد الميلودراما القالب المثالي للهالة التي يتمسك بها محمد رمضان في تقديم نفسه للفضاء العام، شخصية مُتحدية، أكبر من الحياة نفسها، رجل صنع تراتبية خاصة به واحتل قمتها باعتباره «نمبر وان»، خلطة استفزازية تصنع بسهولة أعداءها وساخريها، لكنها تمنحه غواية أثيرة وهي العودة كالعنقاء -كما يتصور- كل مرة من رماد مشاكله، لذا تمنحه الميلودراما القصص التي يُمكنه فيها أن يُجسد شخصيات تُماثل تلك الحالة الشعورية، اعتمد رمضان على تلك الخلطة التجارية المُنعشة لشخصيته والناجحة جماهيريًا طويلًا حتى باتت مثار سخرية لدى كثير من المتابعين الذين توقعوا أن يكون مسلسل رمضان مثل كل عام لا يخلو من أب يموت وسجن ينتظره وكل تحديات البطل النبيل الكليشيهية.

ما اختلف هذا العام كان اسم المخرج الذي اقترن بعمل رمضان الجديد، وهو المُخرج «محمد ياسين» تلميذ العملاق «عاطف الطيب» الذي قدم أعمالًا لها فرادتها مثل «موجة حارة» و«الجماعة» وصولًا لعمله الأخير «أفراح القبة » والذي غاب بعده عن الساحة لستة أعوام كاملة، لذا مثلت تلك العودة مع النجم المثير للجدل محمد رمضان، حالة ترقب مُفعمة بالأمل في أن يُقدم لنا محمد ياسين تحفة جديدة وأن يُعلن ميلادًا جديدًا لقدرات فنية يؤمن الكثيرون أن محمد رمضان يمتلكها لكنه يدفنها في الهالة خاصته والميلودراما التي لا يتخلى عنها في أعماله، خاصة وأن العمل الجديد من كتابة السيناريست «محمد فريد» والذي قدم أعمالًا جيدة مثل «هذا المساء».

عبر نُقاد كثيرون عن هذا الترقب المُتفائل مثل الناقد «طارق الشناوي» الذي راهن على قدرة محمد ياسين على ترويض نجومية محمد رمضان وإدارته فنيًا بما يخدم العمل والنجم نفسه. كذلك عبر فنانون انضموا للعمل مثل الفنان «أحمد كمال» أنه لم يتردد في العودة للساحة الفنية بعد 3 سنوات من الغياب ثقةً في اسم المخرج وفي سيناريو الحلقات الأولى الذي يُنبئ عن عمل قوي. بهذا الترقب الآمل قررت مُتابعة مسلسل «المشوار».

عبد السلام موسى: الجمالية في خدمة الحكاية

أحب اللوحات الفنية لأنك لا يمكنك أبدًا أن تُقلد لوحة، مُهمة مدير التصوير أن يُخرج صورة معبرة لا صورة جميلة، صورة قادرة أن تحكي، لأنها إذا سُردت بشكل صحيح ستصبح جميلة، ولكن العكس لا يمكن.
عبد السلام موسى

لفتت الحلقات الأولى لمسلسل المشوار الأنظار من خلال براعة كادرات مدير التصوير «عبد السلام موسى» الذي كان العُنصر الأبرز في منظومة إخراج جمالية مُتماسكة قادها ببراعة محمد ياسين.

نحن أمام أسرة قوامها أب وأم وطفل يعملون في ملاحات منطقة «المكس» بالإسكندرية على ذمة حالة هروب ينطوي على سر مخفي في حقيبة يحرسونها بعناية. تُلقي بنا تلك الحبكة البوليسية المُقتضبة في حالة ترقب مُحببة، كمن سقط في مُنتصف سردية جذابة عليه أن يتلمس فيها طريقه ويلتقط كل ما يُلقى له من خيوط ليفهم الصورة كاملة.

يؤسس التتر الجذاب لتلك السردية باعتماده على دُمى مصغرة تُجسد الأسرة، البطل «ماهر» وزوجته «ورد» وطفلهما «رحيم»، دُمى مرصوصة في كادرات جمالية شديدة الاتساع، تكاد تبتلعهم، يتسرب لك انطباع أن شخوص المسلسل دُمى مسكينة عالقة في لعبة أكبر منها، وكادرات بقدر جماليتها بقدر صغرهم فيها، تتموضع الدُمى في الكادرات بوضعيات غافلة كفرائس تستريح على شبكة عنكبوت ينتظر على مهل لافتراسهم، الدُمى دومًا يتم التحكم بها من الخارج، تُرى من الذي يحكم مشهديتهم؟ وكيف يُمكن لتلك الأسرة الصغيرة النجاة فيما عُبر عنه بجمالية بديعة كفخ واسع يكاد يُطبق فاهه عليهم؟!

في الحلقات الأولى يؤسس محمد ياسين لمنطقة المكس مكانيًا بكادرات خلابة، ويُخلص عبد السلام موسى في فلسفته التصويرية التي لا تُقدم كادرات جمالية بلا سبب إنما كادرات خادمة للدراما، فهذا التأسيس المكاني سنستفيد به فيما بعد في فهم طريقة هروب ورد وماهر من مُطارديهم الأشداء معتمدين على جغرافيا المكان التي ألفناها في مشهد مُطاردة شديد البراعة في إخراجه، خلا في تنفيذه من النمطية والكاريكاتورية.

تعود فلسفة التتر عن الأسرة المُهمشة البسيطة العالقة في شباك عالم أوسع منها مثل دمى لا يتضح من يمسك خيوطها، في الحلقة السادسة، حيث تفر الأسرة لحديقة الحيوان و تختبئ فيها حتى تُغلق أبوابها عليهم، يؤسس السيناريست «محمد فريد» لرمزية المكان، تلك الأسرة تتعاطى مع هروبها بجدية شديدة تجعلهم يُفضلون المبيت وسط الحيوانات والهوام بدلًا من حيوانات بشرية أكثر وحشية تنتظرهم في الخارج، يتسلل الإخراج بنعومة وكادرات جمالية ليكسر تلك الحدة البوليسية وبينما يبدو الأبوان بلا حول ولا قوة تجاه الخطر الخارجي يقفان كحاجز حماية شعري بين خطورة المغامرة العالقين فيها وبراءة طفلهما العالق معهما، فتتحول حديقة الحيوان المُقبضة ليلًا بوحوشها من خلال براعة تصويرية لمكان سحري، جمالي، نراه بعيون الطفل رحيم، بعد أن جعله أبواه يعتقد أنه يمتلك حديقة الحيوان وحده ويصير ملكها ولو لليلة واحدة مُختلسة، فنشهد حديقة الحيوان المقبضة من جديد بعيني الطفل كمكان مُغامرة سحرية.

تلك الجمالية المضفورة مع الإيقاع البوليسي جعلتنا نوقن أننا بصدد عمل واعد. وبقدر ما تدور الحبكة في عوالم فقيرة طبقيًا إلا أن فلسفة التصوير والإخراج استطاعت استنطاق جمالية مُخبأة لأماكن فقيرة ونمطية في لوحات فنية تخدم السرد ولا تُثقله بجمال خارج عن سياقه.

ساعد على ذلك التوقع تأسيس الشخصيات، ورد وماهر ليسوا شخصيات نبيلة ميلودرامية، بل شخصيات فهلوية، تكذب وتتحايل من أجل النجاة وتُقابل شخصيات عابرة أكثر تعقيدًا ورمادية رغم ثانويتها مثل زميلة ورد الغيورة في المصنع التي تحاول طردها ثم نكتشف أن ورد حلت محل أختها واحتلت مكانها دون قصد، كذلك شخصية الممثل «محمد جمعة» المُهرب الذي يخون الأمانة في عمله لكنه يمتلك كود شهامة يجعله يخاطر بإنقاذ ماهر وورد من مُطارديهم، تكاد تخلو الحبكة من شخوص الميلودراما النمطية، من الأبيض والأسود، تلك أسرة مُصممة على النجاة بكل طرق التحايل المُمكنة، علينا فقط أن نتبعها وسيقودنا هذا اللهاث لمفاجآت واعدة.

لا يُمكنك إنقاذ حكاية افترسها الملل!

لابد أن تحكي حكاية قادرة على الإمساك بتلابيب المتلقي وإبقائه تحت سحرها، كنت مخلصًا دومًا لقيمة الحكاية في الكتابة الخيالية التي تفوق أهمية كل جانب آخر من حرفة الكاتب مثل بناء الشخصيات والثيمة والمزاج العام، فكل ذلك لا يعني شيئًا إذا كانت الحكاية ذاتها مُملة وإذا كانت الحكاية نفسها قادرة على الإمساك بك فكل ما عدا ذلك يمكن التسامح معه.
ستيفن كينج

بقدر ما يوحي اسم المسلسل بالحركية والديناميكية والتي تُرسخها كذلك حبكة بوليسية قائمة على الهروب إلا أن الحبكة بأكملها تجمدت ببلوغنا الحلقة العاشرة، لا جديد في حالة الهروب، بينما السيناريو يُخلف صفقته الأثيرة مع المتلقين، ذلك التواطؤ على أن أقدم لك خيوطًا تُعري جزءًا من اللغز فيشبع فضولك في جانب منه ويشتعل في جانب آخر، تلك الصفقة التي بها يستدرج السيناريو الناجح مُتلقيه للمتابعة فلا يشعرون بأنفسهم إلا وقد وصلوا لمُنتهى الحكاية وأنفاسهم مُتقطعة من المتعة ومن براعة المؤلف في استدراجهم، لم يعد سيناريو المشوار يُقدم جديدًا، حتى مع دفعه لشخصيات جديدة قدمت أدوارًا مُتقنة مثل الفنان «أحمد صفوت» والفنانة «ندى موسى» إلا أن الحبكة لم تتقدم خطوة للأمام.

وبقدر تماسك الصورة وجودتها إلا أن الكادرات خلت من الجمالية السابقة، لأنه كما قال عبد السلام موسى جمالية التصوير تنبع من كونها قادرة أن تحكي وتُعبر بالأساس عن حكاية تحدث، كيف تولد الجمالية من حكاية لا تتحرك؟ من مشوار عالق لا يسير للأمام؟

بحلول الحلقة 11 فوجئ الجميع في عناوين التتر بتحول المخرج محمد ياسين لصفة «المشرف العام» على العمل في وجود وحدات إخراجية مساعدة يقوم عليها مخرجون مثل «تامر عشري» و«كريم الشناوي»، وتناقلت المواقع ووسائل الإعلام أخبارًا عن خلافات وقعت بين محمد ياسين ومحمد رمضان حول بطء الأول في تسليم الحلقات وتركيزه الشديد على سينمائية كل لقطة وحول تدخلات تخص الأخير وسلوكيات مُتعالية مثل التأخير.

لا يدور هذا المقال حول تأكيد أو نفي تلك الأخبار والتي صدقها الكثيرون لوجود سوابق لخلافات كتلك في أعمال محمد رمضان مثل تبرؤ الكاتب «عبد الرحيم كمال» من مسلسل «زلزال» 2019 بعد عرضه، إنما يُحلل المقال الناتج الأخير المُتمثل في الدراما المعروضة أمامنا.

يُمكن للمشاهد العادي بأقل مجهود نقدي أو تحليلي أن يُدرك أن إيقاع المسلسل فسد بالكامل بعد الحلقات العشر الأولى مثل قطار مُنتظم يسير بسرعة مثالية ليجد فجأة أن الأرض أسفله بدون قُضبان مُمهدة لمسيره، فينغرس القطار المعدني في الأرض بلا حراك، غرست الحبكة الواعدة بكل عناصرها وشخوصها في وحل من الجمود والملل وأصيبت الحكاية الحبلى بأسرارها بعُقم عن تقديم أي مزيد، وتشظت الرؤية الموحدة للإخراج بشكل مشتت ومفسد للجمالية التي بدأ بها عرض المسلسل.

مر أكثر من نصف المسلسل الآن ولا نعرف عن حبكة الهروب الأساسية إلا ما نعرفه من الحلقات الخمس الأولى، شخوص تتحرك بدون دوافع واضحة، والتأسيس الذي بدأ جيدًا لشخوص فهلوية في رحلة نجاة أصابه التخبط، فالبطل ماهر تارة يكشف عن ذكاء مبالغ فيه بالوصول للمُحامي الثري الداهية وتهديده بشكل مبطن ليفرج مُطاردوه عن قريب زوجته فيما بدا كمناورة شطرنج إستراتيجية من عقلية مُعقدة، بينما في مشهد آخر يُحاول بسذاجة البحث عبر جروبات الفيس بوك عن مُنتدى علني لبيع الآثار المسروقة! ويعود لبلدته في مشهد مُفتعل ليسأل بخبث طفولي أقاربه عن تجار آثار. لا يوجد أي تماسك يُخبرنا هل تتسم تلك الشخصية بالذكاء البالغ أم السذاجة الفطرية؟

وبينما قدم لنا المؤلف ماهر وورد كشخصيات مُتحايلة لكن جوهرها الأساسي الذي يوحدنا بالتعاطف معها هو ولاؤهما لبعضهما، يكشف السيناريو دون تمهيد عن ماضٍ مشبوه يخص ماهر وصديقة ورد الراقصة. لا مُصادرة على حق أي كاتب في دفع أحداث جديدة كما يشاء لكنه مُجبر على ترويض لا معقوليتها وجعلها مُتناغمة مع التأسيس الذي بدأ به تقديم الحكاية.

يُخبرنا «ستيفن كينج» أنه يُمكنك التسامح مع أي شيء تُقدمه الحكاية الخيالية ما دامت قادرة على إبقائك تحت سحرها، على تعطيل حاسة عدم التصديق وشراء كل ما يُقدم لك باستمتاع، ما دام المتلقي قادرًا على ملاحظة تناقضات فجة توقظه من سحر الإيهام مثل التي ذكرتها فتلك الحكاية فقدت بالتدريج سطوتها وأيقظت المتلقي من سباته المسحور على نشاز في اللحن المعزوف.

قررنا منذ البداية أن نكتب عن العمل بعد مشاهدته كاملًا، لكن هزمنا القانون الجمالي للكتابة الذي خطه ستيفن كينج وهو أنه لا شيء قادر على إنعاش وإنقاذ حكاية باتت مُملة، مهما كانت حرفة الكاتب أو الثيمة أو الجمال الإخراجي وهي عناصر للأسف تراجعت قوتها في مسلسل المشوار حتى اضمحلت بالكامل بوصولنا لمنتصفه.

لا مناص من أن يفر المُتلقون في موسم رمضاني تنافسي من حكاية مملة كما تفر الفئران من السُفن الغارقة بحثًا عن نجاة في حكاية أكثر مُتعة، أتذكر اقتباسًا ساخرًا يقول إنك لا تحتاج أن تأكل البيضة كلها لتعرف أنها فاسدة، يصعب بعد حكاية قاربت على ثلثيها ولم تُقدم شيئًا أن تقدم معجزة في نهايتها وحتى لو حدث ذلك لا يُغتفر أبدًا لصناع عمل امتلكوا كل المقومات المُمكنة لصنع مشروع إبداعي أن يغرقوه في مستنقع ملل يقارب العشرين حلقة (وزمن الحلقة الواحدة بدون التتر ومقتطفات الأحداث السابقة لا يجاوز 20 دقيقة) للتبشير بجمال أخير وتويست عظيم.

لا يُمكننا الجزم هل كان العمل لينجح لو كان 15 حلقة فقط بدلًا من شرط الثلاثين حلقة؟ لا يُمكننا الجزم بما حدث خلف كواليس ذلك العمل، لكن يُمكننا الجزم أننا كنا أمام تجربة إبداع جمالي أجهضها الملل، وأن مسيرة محمد رمضان التلفزيونية تستمر أسهمها في التراجع، وأن «المشوار» عمل يُمثل مجازًا تراجيديًا عن شخص ومشوار محمد رمضان، عمل يحمل كل الإمكانات الواعدة ليصير ناجحًا لكنه يُدمر نفسه بإخلاص من داخله.