عندما تٌقارن مآسي الحياة الواقعية بمآسي الحياة الخيالية، سوف تتمنى لو أنك تستطيع أن تستغرق في الأحلام إلى الأبد
ألكسندر دوما

بدءًا من اللحظة التي أغلق فيها مساعد المخرج غرفة تغيير الملابس وبداخلها «مفتاح»، و«شهرة»، حل بينهما الخيال رفيقًا، واجترهما إلى أرض الحلم، حلم المعذبين في الواقع، الطامحين المطحونين، المُجهَضين، (الكومبارسيين) الذين «نفّضهم الفن» وفقًا لما غناه ممدوح عبد العليم في فيلم «سمع هس»، والمتغنين على من يجهلهم «ده يشتمهم وده يزغدهم» مثلما وصفت فيروز الصغيرة حالها هي وعويلها أنور وجدي في فيلم «دهب».

مفتاح، وشهرة المنسيان في الغرفة، الكومبارسان المُهمَلان، بينما الكاميرا تدور في الخارج من خلف ظهريهما، كعادتها، فهي أبدًا لم تعطهما وجهها.

يحاوطهماالاحتقان في البداية، كل منهما ينفش ريشه على الآخر، يدفع به لكي يتباهى بمجهوده في هذا المجال منذ سنوات، في هذه اللحظة يغفلان أن المجهود لا ولن يُعتد به إن لم يقد إلى نتيجة، إن لم يجعل واحدًا منهما خارج هذا الموقف المُهين، محبوسًا لأنه دومًا على الهامش، لا يستحق إلا أن يسقط من البال سهوًا.


اليائسون هم الأكثر قدرة على الخَلق

يُقال إن مراحل ما بعد الصدمة: الإنكار والعزلة، والغضب، والتفاوض، والاكتئاب، والتقبل.

لكن مفتاح، وشهرة اجتازا هذه المراحل الأولى سريعًا، إلى أن اختلقا مرحلة جديدة، وهي التأقلم. فبعد أن هدأت حدة وتيرة المناقرة بينهما، أخذا يبوحان بحدوتة كل منهما منذ البداية، بالطموحات القديمة التي استحالت إلى أوهام، ثمة راحة تبعت نواحهما، ثم تبدت الرغبة في تجاوز الألم، تحداه، وهزمه بإعادة اكتشاف طاقتهما الكامنة التي لم يسعها الفرصة لكي ترى النور، تقبل كل منهما واقع الموقف الذي هما بصدده، بل وفي نقطة لاحقة تأقلما معه.

ففي مشهد جميل، يتدربان كما لو أنهما بطلا المشهد الذي كانا سيظهران فيه ككومبارسين، فنرى أداءهما الهزلي الكلاسيكي المُفرغ من معناه، الذي يحملك على الضحك، ولكن إن تمعنت ستُدرك أن سوداويته أكبر من لونه الساخر، فمن فرط قلة استخدام موهبتهما، باخت، وتحولت إلى مخزون فاسد، فاقد للصلاحية، وغير قابل للاستهلاك.

وبعد ادعاء الوجاهة ثم الشكوى ثم التناغم، يأتي الهروب، التوحد مع اللحظة واستغلالها لتحقيق الأحلام التي وَلّت، فنجدهما يُحبان وجودهما في هذه الغرفة السحرية، ويستخدمان محتوياتها كمنفذ للخروج من الواقع، يرتديان ملابس عِدة، ويستحضران شخصيات متتالية، في مشاهد مهمة، يتألقان وكأن عودتهما لممارسة التمثيل بحق، انعشت ما بداخلهما، ورَدَته إلى الحياة.

وحينما يحين موعد المغادرة، ويفيق المُخرج ومساعداه، ويهمان بفتح الغرفة، نرتعب معهما فهما الآن ليسا بحاجة إلى الواقع اللص، هذا الواقع الذي يجردهما من كل شيء، ولكي لا يخرجان من الغرفة عاريين تمامًا، يختار كل منهما قطعة ملابس يخبئها ليحتفظ بها إلى الأبد، لعلها تكون الوسيلة الوحيدة التي ستُنجِد موهبته من حين لآخر.


مسرح بنكهة السينما

بذلت «دعاء حمزة» كل ما وسعها لتصنع من هذا العرض المسرحي حالة، فهي كعادتها في الكتابة تميل إلى المواقف المكثفة، المحصورة في مكان ضيق على قدر خنقته يدعو إلى التحرر، إلى إطلاق سبيل شيء ما، لم يكن يقوى على الخروج قبل هذه المفارقة التي نحن أمامها.

«مفتاح الشهرة» يتوافر فيه هذه المرة تلك المعالجة المضغوطة إياها، إلى جانب ميزة مهمة، جعلته قادرًا على لم شمل هالة المسرح، وحضور السينما.

ففي البداية، تبدو الحالة المسرحية واضحة، تفرض علينا ذاتها بأناقة ورقي، نجدها في الحوار العفوي والمسترسل بمنطقية، في التكوينات والتكتلات المحسوبة على مستوى الحركة، وفي الخطة الذكية للإضاءة، والمظهر الجذاب للغاية في الديكور.

وفي المنتصف، نجدنا قد استغرقنا في لب الموضوع، وانتقلنا إلى أبعد من خشبة المسرح، وبرغم أننا مازلنا نشعر بهيبتها وبحيوية الممثليْن فوقها، نجدنا أمام مشاهد فوتومونتاجية عظيمة وقتما يتبادل كل من مفتاح، وشهرة الأداءات انتقالاً من شخصية إلى أخرى من أكثر من فيلم وفي أكثر من مشهد بسلالة وحرفية. ثم تأتي لقطات انتشائهما الغيبوبية وهما يلقيان الملابس في الهواء، وكأننا نرى تقطيعًا مونتاجيًّا محكمًا مصاحبًا لتراك مزيكا حالم وحيوي، بينما ألوان الديكور وقطع الملابس والإضاءة تتراقص منسجمة..

إنها فعلًا الصورة السينيمائية النموذجية للعمل المسرحي.

أما عن الأداء، فكان «عماد إسماعيل» ممثلاً بليغًا، يجمع بإتقان بين الروح الساخرة والتي تستحق في أحيان أن يُسخَر منها، يسعه الانتقال في لحظة من حالة تردد إلى حالة حسم، من مُهرج لرجل قاتم، من طفل إلى كهل. أما «دعاء حمزة» مخرجة وكاتبة العرض، والمشاركة في بطولته تمتلك عينًا قوية، كانت هي أقوى أدواتها، فلن تفارقك عيناها الزائغتان والفرحتان والنهمتان بعد انتهاء العرض، دومًا ستُذكرك بنشيد المُوهوبين المُهَمشين.


آخر كلمتين

  • الاستعانة بمنولوجات «إسماعيل يس» جاءت في محلها تمامًا، وخاصة مونولوج «عيني علينا يا أهل الفن».
  • موسيقى «حازم شاهين» ومصاحبتها لدخلة «عماد» و«دعاء» من بين الجمهور كانت تمهيدًا موفقًا، مثيرًا للفضول، وشديد الحميمية.