في مسرحية «أفجينيا في أوليس» للكاتب اليوناني «يوروبيديس»، حيث زار الملك الإغريقي «أجمانون» الغابة المقدسة للإلهة «أرتيميس»، وأثناء سيره في الغابة قتل غزالة مقدسة كانت ترعى في الغابة. أغضب ذلك الفعل الإلهة «أرتيميس» وقررت معاقبته أشد عقاب، وهو أنه يجب عليه التضحية بابنته الأقرب لقلبه «أفجينيا» وقتلها، وهذا شرطها كي تعيد الرياح إليه ليتحرك أسطوله للمشاركة في حرب طروادة.

في فيلمه الأخير «The Killing of A Sacred Deer» يقتبس المخرج اليوناني الشاب «يورجس لانثيموس» تلك التراجيديا الإغريقية ليصنع تراجيديته المعاصرة. وطالما تميز المخرج اليوناني بالذهاب بالمشاعر والأفكار والرغبات الإنسانية لحدها الأكثر تطرفا. وهذه نقطة قوته التي جعلت أفلامه توصف بأنها متفردة «unique» بعيدا عن حبها أو كرهها.

ثلاثة تحديات رئيسية واجههم لانثيموس، وهي: هل استطاع تقديم تراجيديا معاصرة؟ وهل قدم فيلما فريدا unique في رؤيته البصرية وحبكته؟ وهل نجح في تقديم فيلم رعب نفسي مميز؟


أرتيميس في بيت الجراح

بعد مشهد افتتاحي مذهل لقلب ينبض على موسيقى أوركسترا كلاسيكية، ينفتح المشهد تدريجيا لنرى يد الجراح الذي يقوم بالعملية. مشهد ذو طابع أسطوري إلى حد ما، يؤسس لفكرة الخطيئة التي اقترفتها يدا «ستيف/كولن فيرل»، تلك اليدان الجميلتان التي كان لهما مكانة مهمة طوال الفيلم، فهي من نفذت الخطيئة، وعلى جانب آخر، هي ما يثير النساء. وهذا يظهر من مشهد مغازلة والدة «مارتين»، وكذلك زوجته «آنا/نيكول كيدمان».

ثم تظهر أسرة الجراح «ستيف مارفي» زوجته وابنه وابنته، وكأنها أسرة مثالية برجوازية لجراح ماهر، يعمل في مستشفى كبير ويتلقى كل الإشادة والدعم المادي والمعنوي، وولداه اللذان يتلقيان تعليما ممتازا ويجيدان ممارسة الأنشطة الفنية والعلمية والرياضية. كل شيء جميل ومثالي. إلى أن يحاصرهم «مارتين» وهو مراهق ابن مريض مات أثناء جراحة قام بها ستيف سابقا.

يعتقد مارتين أن ستيف قتل والده نتيجة الإهمال، بينما ينكر ستيف ذلك. هنا بطريقة ميتافيزيقية ينقل مارتين مرضا ما للأبناء والزوجة، يصيبهم بالشلل، ثم فقدان الشهية، ثم نزيف العين، وينتهي بالموت، وعلى ستيف أن يقتل أحدهم لكي ينقذ بقية أفراد الأسرة، ولكن إن لم يقتل فقدهم جميعا. وهنا نجد أحد خصائص سينما لانثيموس، وهي الذهاب لأقصى الأمور تطرفا، فالولد لا يقوم بالانتقام بنفسه، بل يجعل ستيف يحقق هذا الانتقام بيديه، بالإضافة لوضعه في حالة اختيار كابوسية، أي من أفراد أسرته سوف يقتله؟

اقرأ أيضا:بعيدا عن هوليوود: المخرج اليوناني «يورغس لانثيموس»

يعود لانثيموس مرة أخرى لأفلام النطاق المحدود وقلة الشخصيات، كما في فيلمي «Alpes»، و«Dogtooth»، وعكس فيلمه السابق «Lobster»، والذي كان نطاق الأحداث أوسع، ويوجد عدد كبير نسبيا من الشخصيات الثانوية والهامشية. ولكن في هذا الفيلم لا يوجد سوى أسرة ستيف، ومارتين وأمه، وطبيب التخدير. بالإضافة لعدد من الشخصيات الهامشية لا يتعدون مكانة الكومبارس.

يظهر لانثيموس الجانب الفوضوي من البشر عندما يفرض عليهم شيء قاسٍ، ويستغل هذه الفوضى في صناعة كوميديا سوداوية تتكرر في كل أفلامه تقريبا، مثل تطرفات النزلاء في فيلم «Lobster»، ورغبة أبناء ستيفن في ميراث بعضهم، وتدللهم للأب كي يقتل الآخر، بالإضافة للمشاهد الكوميدية في بداية الفيلم بين مارتين والأسرة.

وهذه الفوضوية كذلك تعري الشكل المثالي للأسرة وتكشف عن حقيقتها، فجميعهم بما فيهم الأم يحاولون التضحية بفرد آخر من أجل حياتهم. هنا تظهر صعوبة دور نيكول كيدمان، فهي رغم أمومتها لا ترغب بالتضحية بنفسها من أجل أبنائها.


الغزالة المقدسة

الفلسفة البصرية وحركة الكاميرا تشبه إلى حد كبير فيلم «ستانلي كوبريك» الشهير «The Shinning»؛ مشاهد الـ«zoom in» المتكررة، والتي تظهر ملامح الرعب على وجه الشخصيات. ومشاهد الكاميرا الأرضية المتجولة (The Steadicam Shot والتي ابتدعها كوبريك، وتعد من أشهر علامات فيلمه، كذلك اللقطات المصورة من زاوية عين الطائر و«نظرة الإله god shot»). هذه اللقطات التي ابتدعها الأخير، والتي تشعر المشاهد وكأنه تحت هيمنة وجود ميتافزيقي. كذلك التصميم المميز للمباني والمنزل. كثير من اللقطات اقتبسها لانثيموس من كوبريك، ويمكن ملاحظتها بسهولة.

أحد أهم الأسئلة الخلافية والمتكررة بخصوص فيلم «The Shinning» هي عن ميتافزيقية أو مادية الأحداث ومغزاها، فكوبريك أراد وضع المشاهد في حيرة بالغة، ليزيد من غموض فلسفة الفيلم أو كمحاولة لإخفاء مغزاه الحقيقي، ليمنح المشاهد خيارت متعددة لفهمه، فقصة الفيلم يمكن قراءتها من جانب واقعي، وهو رب أسرة يصاب بالجنون نتيجة حصاره وسط الجليد، فيحاول قتل أسرته. ولكن هناك مشاهد ميتافزيقية تربك هذه الرؤية، مثل ظهور الشبح في الغرفة 237. ومشهد تحرير جاك من محبسه، وغيرها من مشاهد الإرباك المتعمد.

اقرأ أيضا:«Room 237»: البحث عن ستانلي كوبريك

استخدم لانثيموس نفس الحيلة، فالقصة لها جانب مادي واضح، وهو مارتين الذي يريد الانتقام وتحقيق العدالة، ولكن كيف لمراهق أن يصيب أسرة بمرض يحير الأطباء، مرض غير مفهومة أسبابه العضوية أو النفسية. وكيف مشت الفتاة رغم شللها حين أمرها مارتين بذلك. وغيرها من مشاهد الإرباك المتعمد والتي أظن أنها موضوعة لمنح أكثر من زاوية لفهم الفيلم.


تراجيديا الخطيئة والذنب

نهايات أفلام لانثيموس سوداوية شكلاً، متفائلة موضوعًا، أو على الأقل تمنح فرصة لرؤيتها متفائلة. فأفلامه السابقة يمكن وصفها بأنها حكايات صادمة عن السلطة ومقاومتها. ولكن «قتل غزالة مقدسة» يختلف عنهم تماماً، فقد صنع لانثيموس أصعب نهاياته وأكثرهم تطرفً. أنها نهاية لن تجدها في أسوأ كوابيسك وستحاول نسيان الفيلم بعدها، ولكن ستظل تتذكرها، وغالباً ستشاهد الفيلم مرة أخري تحت تأثير رغبة «مازوخية». فرغم صعوبة أفلام لانثيموس ولكن تفردها يجذبك للمشاهدة أكثر من مرة.

الفيلم دون مشاهد الإرباك سيظهر وكأنه فيلم انتقام كغيره (بعيدا عن تقييمه الفني)، ولكنه يحذو حذو فيلم كوبريك «The Shinning»، حيث اختار لانثيموس نهاية مربكة، وقد تأخذ الفيلم لتفسير مختلف تماما عما يبدو عليه. ماذا لو كان ستيفن هو من فعل كل ذلك وصنع لنفسه المأزق؟ ماذا لو كانت كل أحداث الفيلم مبنية على شعوره بالذنب، كثير من الجمل تشير إلى أن ستيفن يعلم منذ فترة بحتمية الانتقام، وضرورة التخلص من الذنب. ماذا لو كان ضمير ستيفن هو نفسه الإلهة أرتيميس التي تحكم بالتضحية.

في المشهد الأخير تجتمع بقية الأسرة في مطعم، ويدخل مارتين ويتجاهلهم ويجلس وحيدا، ويبدو على الأسرة عدم التأثر وكأنه لم يتسبب في مقتل أحد أفرادها. ربما كان هذا التفسير هو كنز لانثيموس المخفي في طيات فيلمه. فهو ليس فيلما عن الانتقام، بل فيلما عن الشعور بالذنب من الخطايا.

«The Killing of A Sacred Deer» فيلم جديد للانثيموس ينضم لقائمة أفلامه الفريدة، يمكن القول بثقة إنه صنع تراجيديا عن الإنسان المعاصر وخطاياه والشعور بالذنب وحتمية الانتقام. وبالتأكيد قدم إضافات مميزة عن أفلامه السابقة، بالإضافة لحفاظه على الخواص الفريدة لها. وضع المخرج اليوناني نفسه في مكانه مميزة بين مخرجي العالم، ويبدو أنه ينوي المحافظة عليها طويلا.