منذ ثلاثة أعوام كتبت مقالًا أنتقد فيه رواية «مثل إيكاروس» للدكتور أحمد خالد توفيق، كنت محبطًا وقاسيًا بشدة، وقتها كنت أرى أنه لا يبذل المجهود الكافي لكتابة روايته العبقرية التي أنتظرها، كنت قاسيًا لدرجة أن أحد المقربين منه تواصل معي وأخبرني أن الدكتور منزعج من أشياء مكتوبة في المقال، ونشرت حينها تصحيحًا لما أوردته على لسان كاتبة سويسرية تحدثت عن تجربة الدكتور، وهو الأمر الذي أزعجه، ووقتها أيضًا تعرضت لأول مرة لهجوم من دراويش د. أحمد الذين يألهونه في إخلاص مرعب، وشعرت أني أجرمت جرمًا عظيمًا أن انتقدت رواية له.

مع كل رواية جديدة كان الظمأ داخلي يتصاعد، توقفت عن كتابة المقالات عن روايات د. أحمد الجديدة حتى صدرت «شآبيب»، وانتويت أن أكتب مقالًا عنها، وبدأت بالفعل في عمل الـ«Research» المطلوب قبل أن أكتب، لكني توقفت بعد الخبر الفاجع مساء يوم الإثنين 2 أبريل/ نيسان. حذفت كل ما أعددت وكل ما كتبت ونويت الكتابة من جديد في ظل ما حدث، لقد اكتملت تجربة الدكتور أخيرًا، وهو الأمر الذي يغير كل شيء، ويغير نظرتي للأمور بالكلية.

تجربة د. أحمد كانت ضد التقعر والبهرجة، ودائمًا مع فكرة «التمكين»، أن يمكنا من الوصول، الوصول للخيال، للحكمة، للمخزون الإبداعي الكبير الذي كان بحوزته، ولنبوءاته للمستقبل.

أخمن عزيزي القارئ أنك من عشاق د. أحمد (ولذلك تقرأ المقال الذي يحمل اسم الدكتور في عنوانه)، ولذلك دعني أخبرك في البداية أني مثلك عاشق لهذا الرجل. خلال الأسبوع الماضي كنت أحاول الإجابة عن هذه السؤال: لماذا كل هذا الحب لهذا الرجل؟ هل من أجل كتاباته التي ارتبطنا بها منذ الصغر؟ هل لأنه كان مرتبطًا بقرائه بشكل شخصي؟ هل لتواضعه ولشخصيته الهينة المنطوية ولدماثة أخلاقه؟ هل لأنه عاش ويعيش في الأقاليم مثل أغلبنا؟

شخصيًا وبعد تأمل طويل وجدت أن كل تلك الأسباب السابقة لا تكفي لهذا القدر من الحب، هناك عشرات الكتاب والمؤلفين والرسامين والفنانين الآخرين الذين ارتبطنا بهم منذ الصغر، والذين لهم تواجد مع الشباب – علاء الأسواني يمكنك أن تقابله في صالونه الثقافي في أي وقت – وعلى قدر من التواضع – المرحوم مكاوي سعيد كنت تستطيع الجلوس معه على مقهى البستان بوسط البلد حيث يبادل النكات في تواضع جم – ويعيشون خارج القاهرة – علاء خالد لا يزال يعيش خارج القاهرة – لكنهم لا يتمتعون بنصف هذا القدر من الحب الذي كان بين الدكتور وقرائه.

بعد التأمل الطويل وجدت أن السبب من وجهة نظري أن الدكتور نجح عبر خمسة وعشرين عامًا من الكتابة في خلق «تجربة» أصبحت جزءًا رئيسيًا من حياتنا – شبه اليومية – وإذا كان عليّ أن أصف هذه التجربة فسأصفها كالتالي: التجربة التي خلقها توفيق كانت في أغلبها عالًما من الخيال، لكن دائمًا كانت أبطاله من الواقع، أبطالًا شبيهين بنا للغاية، لدرجة أن أي شخص فينا يمكن بسهولة أن يجد نفسه في د. «رفعت» ود. «علاء» و«عبير»! من المستبعد أن تجد نفسك في «أدهم صبري»، أو أن تحلم أن تصبح رجل المستحيل مثله، ومن المستبعد أن تجد نفسك في شخصيات د. «علاء الأسواني» المركبة التي تخلط بين القوة والتطرف، لكن بسهولة جدًا كنت تخوض في كتابات/تجربة خالد توفيق وأنت متمثلًا أبطاله بمخاوفهم وأحلامهم ومآزقهم وإنجازاتهم الهزيلة.

كانت التجربة واقعية جدًا وسهلة المنال، وكنا نخرج في كل مرة من رحاب القراءة وقد نلنا شيئًا، نفس الشيء، «التجربة» انعكست لاحقًا في كتاباته الواقعية ومقالاته، التي كان يفك من خلالها شفرة العالم والاقتصاد والسياسة والاجتماع لتصبح سرديات منطقية سهلة قابلة للنقاش على القهوة.

تجربة د. أحمد باختصار كانت ضد التقعر وضد البهرجة، ودائمًا مع فكرة «التمكين»، أن يمكنا من الوصول، الوصول للخيال، للحكمة، للأعمال الأجنبية التي اختصرها وترجمها بإبداع، للمخزون الإبداعي الكبير الذي كان بحوزته من روايات قرأها وأفلام سينمائية طالعها، الوصول لنبوءاته للمستقبل، تجربة الوصول تلك التي قالت عنها صديقتي العراقية «رافان الطائي» إننا أخذناها كما لو كانت مضمونة، ولم نكن نتخيل يومًا أن تنقطع السبل معها، لأننا ظننا أنها قد أصبحت جزءًا منا، لكن للأسف هذا الجزء قد ذهب.

هذا الفقد شعرت به بشكل شخصي ثلاث مرات فقط، المرة الأولى مع «رضوى عاشور» التي أعطتني إمكانية الوصول لجذور الانتماء للقضية الفلسطينة وللقضية العربية – تجربة الخروج من الأندلس – ومع «محمد حسنين هيكل» – وأعلم أن البعض سيتحفظ، لكني أحببت هذا الرجل – الذي أعطاني إمكانية الوصول لأدوات التحليل السياسي، وعلمني قراءة الخارطة الجيوستراتيجية، ومع د. «عبد الوهاب المسيري» الذي أعطاني إمكانية الوصول لأدوات النقد الذاتي والفك والتركيب.

لكني على الرغم من امتناني الدائم للتجربة التي منحها إيانا د. أحمد، كنت دائمًا طامعًا في المزيد، كتبت أن الرجل في رواياته الطويلة يمكن أن يصل لمراحل عبقرية لم يطأها، سواء على مستوى بناء الشخصيات والسرد والبناء الروائي كاملًا، كنت دائمًا ما أجد شيئًا ناقصًا، شيئًا متعجلًا، دائمًا تجد أن روايات د. أحمد تبدأ بفكرة عبقرية عظيمة تنبئ عن رواية ذات إمكانيات ضخمة، لكن دائمًا تجد أن الرواية تخرج عن سيطرته، فيحاول بشكل سريع أن يلملم عناصرها لمًا بشكل أو بآخر، فلا تخرج مرضية.

هذا التطلع الدائم لرواية د. أحمد المثالية التي ستنازع رواياتي المفضلة: «1984» و«مزرعة الحيونات» و«مائة عام من العزلة» و«جاتسبي العظيم» و«الجريمة والعقاب» و«أولاد حارتنا» و«رجال في الشمس» و«موسم الهجرة إلى الشمال»، أعترف أنه أغرقني في الترقب الدائم لتقنيات وأسلوب د. أحمد أكثر من الاستغراق في تأمل الأفكار العظيمة التي كان يبني عليها الأعمال نفسها. مشكلتي الشخصية أني ذو ذائقة سينمائية، وبالتالي أدقق كثيرًا في تقنيات مثل المونتاج والإخراج والتصوير والإضاءة ومزج الصوت، وما يقابلها في الرواية والقصة، ولذلك كانت كتيبات د. خالد ممتعة بالنسبة لي وكاملة، لكن الروايات كانت شيئًا آخر، وتطلب عملًا شاقًا من نوع آخر. والحقيقة، أن كل ذلك لا يهم الآن.

انتهت تجربة الدكتور، – هناك شائعات عن مخطوطة رواية مع دار الكرمة ستصدر في موسم عيد الفطر – لكن في كل الأحوال كتب د. خالد كل ما ود كتابته ومضى، وعلينا الآن إعادة التأمل والقراءة والاستنتاج، كيف يمكن أن نصف التجربة بشكل متكامل؟ وهو الأمر الذي أعتقد أنه سيأخذ مني عدة سنوات، وقد انتويت بالفعل الشروع في عمله وإعادة تحليل أعماله من مناظير عدة: أدبية وسينمائية وبنائية واجتماعية.

أكتفي في نهاية مقالي الآن بالعودة إلى رواية «شآبيب»، آخر رواية نشرت لأديبنا الكبير، لن أكتب: «كان عليك يا دكتور أن تعطي وقتًا واهتمامًا أكبر لكذا وكذا وكذا، بلاش الصوت الواحد اللي هو صوتك، بلاش الشخصيات المتشابهة جدًا اللي هي انعكاس لشخصية واحدة مركبة»، لم يعد لذلك معنى الآن، دعوني أكتب عن الفكرة العظيمة التي حاول د. أحمد التعبير عنها وأحاول استكشافها.

في «شآبيب» يأخذنا دكتور في رحلة إلى عالمنا المعاصر، حيث اضطهاد العرب في كل مكان تقريبًا، عالم ما بعد 11 سبتمبر، عالم ما بعد داعش، وعصر الهجرات الجماعية العربية لأوروبا التي يقف يمينها العنصري متربصًا ومتمنعًا عن استقبال المزيد، وهو ما حدا دولة مثل بريطانيا من الخروج من الاتحاد الأوروبي تحت وطأة تخويف اليمين من الغزو الإسلامي العربي.

في هذا العالم يرصد د. أحمد أربع شخصيات عربية تعيش في دول مختلفة: النرويج وليبيريا والولايات المتحدة وأستراليا، جميعهم يعانون من الاضطهاد الشديد، وفي نفس الوقت تخطر فكرة مجنونة لمثقف ومفكر عربي يعيش في أمريكا هو «د. مكرم»، الذي يستغل قربه من البيت الأبيض لمحاولة إقناع الرئيس الأمريكي بدعم إنشاء دولة جديدة للعرب في منطقة نائية، تكون الملاذ الآمن لكل العرب المشردين والمضطهدين حول العالم.

بدعم من الأمريكان يختار د. مكرم جزيرة نائية في المحيط الهادي شمال قارة أستراليا، ويبدأ في كتابة تاريخ مزيف لتلك الجزيرة أو الدويلة الوليدة التي يسميها «شآبيب»، حيث يدعي أن المسلمين قديمًا زاروا تلك الجزيرة وتاجروا مع أهلها الأصليين، وبنوا حضارة عظيمة هناك انطمرت بأثر بركان انفجر حينها وخمد الآن. وما حدث أن وجدت دعوة د. مكرم استجابة من العديد من العرب والمسلمين الحالمين والمضطهدين متأثرين بكتاباته الحماسية، وبدأوا يتوافدون على الجزيرة على متن بارجات أمريكية.

قام د. أحمد بتضفير عدة موضوعات وأفكار مهمة في القصة: اضطهاد الأقليات، إنشاء دويلة على تاريخ زائف، التعامل مع الآخر، إزالة الآخر، السلطة الأبوية، هيراركية السلطة، ديناميكية البروباجاندا، بالطبع مع خلطة الحب وقليل من الجنس «المحتشم» إن جاز لنا أن نصفه بذلك – كعادته – أفكارًا تتسع لرواية من 600 صفحة ولا تكفي مناقشتها رواية تزيد على الـ300 صفحة بقليل.

قدم لنا دكتور أحمد خالد توفيق تجربة متفردة، بناها لبنة لبنة خلال مشواره الأدبي والثقافي؛ خلقت مساحة للحالمين ومحركًا للحلم.

بالعودة مرة أخرى لمناقشة الفكرة المحورية التي أراد د. أحمد طرحها – بعيدًا عن القراءة النقدية للرواية – أجد أن «شآبيب» تشكل في جوهرها «مرثية»، مرثية للحالمين العرب الذين وجدوا أنفسهم وقد ضاقت بهم بلادهم، وضاقت بهم بلاد المنفى من مجرد أن يحلموا، وليس فقط أن يعيشوا واقعًا أفضل.

من سوى هؤلاء الحالمين لديه من الجنون الكافي ليقطع مئات الأميال ليؤسس دولة من الصفر، دون موارد وبفرصة نجاح تقترب من الصفر؟ من سوى هؤلاء الحالمين قادر على تصديق مروية تاريخية تقترب من الفانتازيا أكثر من الواقع، من سوى هؤلاء الحالمين يترك العالم المتقدم من ورائه ويفترش جزيرة نائية مصدقًا أن بها مستقبلًا له ولأولاده؟ من سوى هؤلاء الحالمين – أصلًا – يطلق على دولته اسم شديد الغرابة والأصالة في نفس الوقت مثل «شآبيب» – تعني قطرات المطر – ولا يمت بصلة للثقافة الشعبية؟

الأمر شديد الاتساق مع ما ذكرته من تفرد للـ«تجربة» الذي قام د. أحمد ببنائها لبنة لبنة خلال مشواره الأدبي والثقافي، تلك التجربة التي خلقت مساحة للحلم والحالمين، خلقت محركًا للحلم، وليست محركًا للتغيير الواقعي، ارجع لفانتازيا عبير عبد الرحمن ستجد أن زوجها «شريف» خلق لها تلك الآلة العجيبة – التي تعتبر في حد ذاتها التمثيل الواقعي لمحرك الحلم الذي أقصده – محركًا يغذيه د. أحمد من ناحية بخبرات وتجارب وأحلام وخلاصة ثقافته الأدبية التي نهلها عبر مئات الكتب والروايات التي قرأها، ومن الناحية الأخرى يترك القارئ لكي يتفاعل مع تلك الحالة ويحلم كل منا حلمه الخاص عبرها. نفس الأمر مع سلسلة رفعت إسماعيل، حيث محرك الحلم هو عالم الماورائيات بغناه وسخائه، نفس الأمر مع د. علاء عبد العظيم، فمحرك الحلم هو السفر والتجوال والتصادم وجهًا لوجه مع عالم الطب الغرائبي، وسط مجتمعات تقترب في مخيلتنا للتجارب الغريبة أكثر منها إلى الواقائع التي نخبرها في حياتنا الاعتيادية.

أعتقد بشدة أن د. أحمد في «شآبيب» عبر بحساسية ورومانسية شديدة عن فكرة ضيق واقعنا الحالي بالحالمين، وضيقهم بالواقع الذي يهدد فكرة الحلم الذي يرغبون في عيشه والاستمتاع به، مجرد الحلم وكفى، كيف يمكنك أن تحلم وسط واقعنا الحالي سواء في بلادنا العربية حيث تضغط عليك ظروف العيش المتوحشة، ناهيك عن السلطوية السياسية، والضوضاء والازدحام والفساد والجهل؟ أو في بلاد المنفى الاختياري – أو الإجباري – حيث الاضطهاد وموجة كراهية المهاجرين العرب، وحيث ترامب واليمين المتطرف والبريكسيت؟

فهمت الآن لماذا قرر د. أحمد الرحيل مبكرًا، لقد ضاق العالم به، ولقد ضاق بالعالم.. طوبى للحالمين الذين يقاومون الواقع الصعب.. وطوبى لدكتور أحمد خالد توفيق، الحالم الأخير.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.