-«هل تدرك معنى ما تقول حقًا؟»

-«قطعًا»

-ـ«وتدرك تبعات هذا؟»

-ـ«أنا لا أكلم محققًا .. أعرف أنك تحتفظ بسرية المحادثة كجزء من آداب المهنة»

كان الموقف محيرًا. لا بد أن أكثر من قس اعتراف مر به من قبل، وإنني لأتذكر مسرحية كرسي الاعتراف التي قدمها يوسف وهبي، والتي تدور حول مأزق كهذا .. في فيلم (أنا أعترف) لهتشكوك يجد قس الاعتراف نفسه متهمًا بالقتل مع أنه يعرف القاتل الذي اعترف له! ليس الأمر هنا بهذا السوء والحمدلله..

كلمات المريض مقدسة وسرية، لكن هذا يضعني في معضلة ضميرية حقيقية ..

كان شاكر يجلس على الأريكة يتأمل بطاقة رورشوك التي أعطيتها له، وكنت أنا أجلس خلفه كما تعلم. لا يجب أن تجري اختبار رورشوك والمريض يرى وجهك .. هذه هي البطاقة الخامسة. لا أحب هذه البطاقات التي تظهر بقع حبر، وعلى المريض أن يخمن إلام ترمز، فهي طريقة بالية. ويرى أطباء كثيرون أنها تعكس نفسية الطبيب الذي يفسرها وليس المريض، لكني في أحيان نادرة أعرف شيئًا مهمًا منها ..

هذا الموقف من تلك المواقف بلا شك …

كان يحدق في بقعة الحبر ويكرر في ثبات:

-ـ«هذه هي روح الفتاة التي قتلتها منذ عام ..»

***************

هذه هي الجلسة الثانية لشاكر عندي. هو محام في الأربعين، من ذلك الطراز الذي يقول الناس إنه هادئ مهذب، ويكتشف الطبيب النفسي أنه بالوعة شهوات وآثام. يسمون هذا الطراز في الغرب «الرجل الدمث الذي يمتلئ قبو داره بجثث الأطفال». نحيل .. ذو عوينات سميكة تطل من خلفهما عينان واسعتان مذعورتان متهمتان كعيني بومة .. تساقط الشعر قليلًا عن مقدمة رأسه، وهناك تجعيدتان عميقتان على جانبي فمه، كما أنه من الطراز الذي تملك حنجرته أو (تفاحة آدمه) حياة خاصة بها، فتتواثب كالقردة طيلة الوقت. أبخر نوعًا، وأقرب للتأنق.

لم أحبه منذ اللحظة الأولى، لكن لم يخطر ببالي قط أنني سأخافه. هذا ما حدث فعلًا. في الزيارة الأولى قال لي إن لديه هاجسًا مخيفًا .. يريد أن يقتل زوجته، وهو يخشى ذلك. هذا وسواس قهري واضح .. عرفت فتيات متدينات يبتن على قارعة الطريق خوفًا من أن يدفعهن الشيطان لممارسة الرذيلة مع آبائهن، وعرفت فتية متزنين يغلقون الباب على أنفسهم ويلقون المفتاح من النافذة خوفًا من أن يقتلوا ذويهم أثناء النوم. ليس كل الوسواس القهري غسل يدين متكررًا كما تتخيل.

الخوف من أن يجن المرء ويرتكب عملًا أحمق هو نوع معروف من الوسواس ..

في الزيارة الأولى سألني شاكر عما إذا كنت حقًا حاصلًا على درجة علمية في علم نفس الجريمة، فأشرت إلى الشهادة المعلقة التي حصلت عليها من هارفارد .. لا أعرف إن كان استطاع قراءتها أم لا لكنه شعر بصدق كلامي ..

قال لي وهو يحدق في السقف:

-ـ«كنت مولعًا منذ صغري بفكرة البلورة السحرية التي تحملق فيها فترى ما يفعله معارفك .. لم أستطع الحصول على بلورة ثم وجدت طريقة تقضي بأن يحملق المرء نصف ساعة كل يوم في قدح من الحبر. تحاول أن تتخيل مشهدًا معينًا وتتخيل تفاصيله .. مع الوقت والمران يكتسب الحبر حياة خاصة به، ويمكنك إذ تطيل الحملقة أن ترى ما يفعله الآخرون فعلًا..»

قلت له في لا مبالاة:

-ـ«يسمون هذا عندنا باريدولياPareidolia أي أنك ترى ما تريد رؤيته أو تتخيل أنك تراه .. كلنا نرى وجوه نساء في بلاط السيراميك، ونرى أرانب بين السحب، وخيولًا تجري في بقع الماء»

بإصرار قال:

-ـ«لكن ما أراه في صفحة الحبر لا يكذب . وقد رأيت زوجتي تخونني مع جاري .. رأيت هذا بوضوح وقد تكرر مرارًا ..»

قلت له:

-ـ«يمكنني أن أؤكد لك أن هذا هراء، وعلى كل حال فمن الواضح أن هذا هو سبب هاجس قتل الزوجة الذي يطاردك»

كل رجل طبيعي تمنى بالتأكيد أن يقتل زوجته في لحظة ما، لكنه كما قلت لك (طبيعي)… لهذا ينسى الأمر ويشعل لفافة تبغ مغتاظًا ويخرج ليسهر مع رفاقه، أما الرجل غير الطبيعي فهو …………..

عدت أسأله بصوت هادئ:

-ـ«حدثني عن طفولتك ..»

***************

الحبل ..

افتتان هذا الرجل بالحبال بدأ منذ طفولته .. هذا رجل قضى جل حياته مع الحبال والحبر كما هو واضح.

كان يلعب كل الألعاب التي يتم استخدام حبل فيها .. لم يكن يتلذذ باللعبة قدر ما يتلذذ بالحبل.. شيء ما في التصميم كان يروق له. شد الحبل .. الوثب بالحبل …

في سن العاشرة شعر أن الجميع يكرهونه، وأن الحياة قاسية، وأن أهله لا يرغبون في بقائه حيًا. بحث عن حبل الغسيل وقطع منه جزءًا لا بأس به ثم دخل إلى الحمام. صعد على مغطس الحمام الزلق، وعقد عقدة في دوش الحمام، ثم صنع أنشوطة صغيرة في الطرف الآخر كما تعلّم في السينما، ثم وقف على حافة المغطس ووضع الأنشوطة حول عنقه. من الغريب أنه لم يشعر برعب أو قلق.. فقط شعر بنشوة لفكرة أن يلتف الحبل حوله. سوف يأتون بعد فوات الأوان، ولسوف يبكون بحرقة ولات حين مناص. شعر برثاء حار لنفسه حتى أغشت دموعه الرؤية فلم يعد يرى تقريبًا .. خواطر محزنة تبعث النشوة في النفس .. لذة التعذب ..البائس الصغير يتدلى وقد انتهت قصة حياته .. أغمض عينيه ووثب من على حافة المغطس، فقط ليسقط على الأرض فوق مؤخرته . طاخ!! .. لم يحدث شيء .. ونظر لأعلى في خيبة أمل فرأى أن العقدة في الدوش قد ارتخت. لم يكن بارعًا في ربط العقد، وكل ما جناه هو أن آذى ردفيه فعلًا، فلا غرابة في أن يصاب بالبواسير.

-ـ«البواسير لا تصيب من يفشلون في الانتحار ويقعون على مؤخراتهم..»

تجاهل كلامي وواصل السرد. لقد سمع أباه يدق على باب الحمام وقد سمع الارتطام، فهرع يخفي الحبل ويشد السيفون ليوحي بأنه كان منهمكًا، ولعل هذه كانت أول وآخر مرة يجرب فيها الحبل كطريقة لمغادرة العالم ..

في سن المراهقة انتقل ولعه بالحبال إلى لذة أن يكون مقيدًا. كان يبحث عن مكان منعزل أو مغلق ويقيد نفسه بالحبل، طبعًا بطريقة تسمح له بالتحرر، لكنه كذلك كان يحب أن يشعر بأنه عاجز. أحيانًا كان يقنع شقيقه بأن يلعب معه لعبة اللصوص أو رعاة البقر والهنود .. أي لعبة تتضمن تقييده .. هذه لمحة ماسوشية لا شك فيها. رأيت في كتاب طب شرعي رجلًا غربيًا قيد نفسه بالحبال إلى سيارته وجعلها تدور في دوائر لتجره خلفها.. أعتقد أنه وضع قالب قرميد على دواسة الوقود. يتلذذ بهذا الضرب من التعذيب، لكن ما حدث هو أن عجلة السيارة التفت حول الحبل فمزقه الأخير تمزيقًا.

شعرت بقشعريرة لدى تذكر هذا المشهد .. تعذبني فكرة المنتحر الذي يقرر التراجع في آخر لحظة .. بعد الوثب أمام القطار، أو بعد ابتلاع السم الزعاف، أو أثناء السقوط من فوق البناية ..

كانت الجلسة الأولى قد انتهت ، وبالطبع لم أكن أعلم أن الأخ شاكر سيعترف لي فيها بقتل كل الفتيات اللاتي قتلهن … قتلهن بالحبل طبعًا …

يتبع